في مدينة فرانكفورت بألمانيا توجد لوحة لدائرة بيانية، تتضمن تلك الدائرة بداخلها أكثر الفنون الأدبية تداولاً ورواجًا بين الناس، وفيها يستحوذ فن الرواية على نسبة 75% من إجمالي الدائرة، بينما الـ 25% الباقية لفروع وفنون أخرى.

لماذا الرواية؟

قد يتساءل الكثيرون عن السبب الرئيسي وراء تفضيل الرواية على غيرها من الفروع، رُغم أن الرواية ليست بمصدر موثوق للمعلومات، وإنما هي تعبير عن طبيعة الفترة الزمنية التي كُتبت فيها.

والسبب وراء ذلك بسيط جدًا؛ وهو يكمن في طبيعة البشر، فأساس الرواية هو «القصة»، أي أنها تتضمن قصة ينسجها الخيال ضمن إطار زماني ومكاني، بعناصر وشخصيات مُتعددة، وبالتالي يجد القارئ نفسه أمام مشاهد تمثيلية، يستجيب لها العقل تلقائيًا، دون الحاجة لإرهاقه بكمية المعلومات، فالإنسان مجبول على القصص، والتي يستخلص منها العبرة والعظة.

وهكذا يحيا الإنسان القصة أو الرواية التي يقرؤها، خاصة لو وجد شخصية تُشبهه في بعض الأمور والخصائص، وذلك لتترك تساؤلاً عند القارئ حين ينتهي من الرواية: كيف عرف الكاتب ذلك؟

بداية الرواية

ولنعد بالزمن إلى الوراء، بالتحديد إلى اليونان، حيث ستجد أن الإغريق القُدامى كانوا يمثلون الحيوات والمظاهر الطبيعية بناءً على سردية قصصية، إمّا مُتفرقة أو مُجتمعة، مثل «الإلياذة» و«الأوديسة» لهوميروس؛ وهي قصص جسّدت المظاهر الطبيعية في شكل آلهة، مثل «بورياس» إله الرياح، و«بلوفيوس» إله المطر، و«أبولو» إله الشمس، و«أدونيس» إله الربيع [1]، وغيرهم من الآلهة الكثير، وكل ذلك حتى يستجيب العقل البسيط في علاقته مع تلك الظواهر، بل وزاد الأمر إلى أن قسّموا تاريخ الآلهة والبشر في شكل قصص شعرية مُتفرقة، وكل قصة تندرج ضمن مرحلة معينة، ليصبح لدينا ثلاث مراحل عُرفت بعد ذلك بالميثولوجيات الإغريقية، أي علم الأساطير والقصص الإغريقية:

  1. المرحلة الأولى: حيث قصة بداية الخلق ونشأة الآلهة بشكل رمزي، ابتداءً بـ «غايا» رمز الأرض وولادتها لـ «كرونوس»، والذي سينجب كبيرَ الآلهة فيما بعد «زيوس». [2]
  2. المرحلة الثانية: وهي بداية الالتحام بين الآلهة والبشر في شكل قصص شعرية، وتوحي بمدى خطورة تلك المرحلة.
  3. المرحلة الثالثة والأخيرة: نرى نتيجة المرحلة الثانية، وما نتج عن ذلك الالتحام بين الآلهة والبشر، وهي مجموعة قصص تضمنت الأساطير البطولية حول أنصاف الآلهة، كـ «آخيل» في حرب طروادة، و«هركليس» في البعثة الأرغوية. [3]

وسترى مدى أثر تلك القصص على العامة، حيث وصل بهم الأمر إلى عبادة رموز وشخصيات تلك الميثولوجيات، وقد كلّف ذلك الفلاسفة المُعارضين حياتهم، كـ «سقراط» مثلاً، والذي كان من أشد الرافضين لتلك الميثولوجيات.

وكذلك الحال في ميثولوجيات أخرى، كالميثولوجيا الرومانية والإسكندنافية، ولو دقّقت البحث ستجد أن الأساطير القصصية القديمة مُتشابهة في بعض أحداثها وشخصياتها، بما يتناسب مع عقلية سكان كل قُطر على حدة. ولنضرب مثلاً على ذلك؛ شخصية «عشتار» البابلية، ستجدها باسم «عشتروت» في الأساطير الكنعانية، و«أفروديت» في اليونانية، و«فينوس» في الرومانية، وكذلك «اللات» عند عرب الجاهلية [4]. والسبب وراء ذلك هو أن فن القصة والحكاية، مهما تشابه أو اختلف، إلا أن مضمونه قد يكون واحدًا في الأخير.

الهدف من الرواية

الهدف من الرواية، يعني الركيزة التي بُنيت عليها القصة، فلولاها لما وُجدت الرواية من الأساس، فالعبرة والعظة هما الركيزة الأساسية، فانظر إلى قصص الكتاب المُقدس وقصص القرآن عن الأمم المُختلفة والغابرة، لتعرف المُراد من سردها في مثل تلك المواقف؛ وهي إيصال رسالة للمؤمنين، بأن يعتبروا من هؤلاء… وإلّا سيلقون نفس المصير بسوء أفعالهم.

كذلك في قصص الأنبياء والعُظماء والزعماء، تجد أمورًا مُتشابهة وأحداثًا مُتكررة، والهدف هو نفسه: العِبرة والعظة. ورغم معرفة الناس بذلك، إلا أنهم يتهافتون لسماع مثل تلك القصص، وإن تشابهت أحداثها، والسبب الرئيسي –كما قلنا- الذي يسبق العِبرة والعظة، هو أن الإنسان بطبيعته حكّاء وقصّاص، يهوى الكلام، فالكلام إحدى الركائز التي لا تخلو منها المجتمعات البشرية في تواصلها، بل وإن تلاقي الحضارات يكمن غالبًا في نقطة التراث القصصي وحكاياته الفلكلورية الكلامية، كما هو الحال في الأساطير المُشتركة بين قصص الشرق الأدنى القديم، وقصص شعوب أوروبا؛ كاليونان والرومان.

الغموض في الرواية

يبقى السؤال الأهم: لماذا يميل الشباب إلى الروايات ذات الطابع المُبهم والغامض، والتي تصل لحد التعقيد أحيانًا؟

والإجابة هي أن أفضل الروايات بالنسبة للقارئ هي تلك التي تُفاجئه وتترك له علامات استفهام بعد انتهائه من القراءة. مثل حكايات «كليلة ودمنة» والتي ترجمها الأديب العربي الأبرز «ابن المُقفع»، والتي لا يزال يظن البعض أنها ضمن أدبيات الطفل في عالمنا المُعاصر، ولكن ماذا لو علموا أنها السبب وراء موت «ابن المقفع» على يد الخليفة العباسي، لما فيها من إسقاطات سياسية على الخليفة وحاشيته؟ [5]

وكذلك رواية «مزرعة الحيوان» للأديب الإنجليزي «جورج أورويل»، فأولى طبعات تلك الرواية تم تصنيفها ضمن أدبيات الأطفال، ولكن بعد ذلك بدأ الناس يطرحون السؤال حول غموضها وأحداثها المُشابهة لواقعنا السياسي، إلى أن تكشّفت أمامهم ملامحها الحقيقية بعد حين.

الأدب العربي

وحينما نصل إلى الأدب العربي، وننظر إلى تاريخية الرواية فيه، وكيف كانت أساسًا لحفظ ذلك التراث العربي العظيم، نرى أن القرنين الأول والثاني الهجري انتشر فيهما مجموعة من أصحاب الحكايات والقصص، أُطلق عليهم اسم «القصّاصين»، وكان الناس يجتمعون لسماعهم، بل وترى أن معظم أقاصيص هؤلاء قد طغت على كتابات المُتقدمين في التاريخ، كالطبري والذهبي وابن كثير.

وكما نعلم أن بعض ما أورده القصّاصون لم يكن بمصدر موثوق، ويأتي هنا دور المُحقِّقين في تنقية كتب التراث من شوائب القصّاصين، ولكن ما عدا ذلك فإن القصة والحكاية (الرواية) بدأت منذ القدم في أدبنا العربي، حتى تطورت إلى شكلها الحالي. [6]

واليوم، بعد أن اتسعت دائرة أدبنا العربي، وتمدّدت قماشته لتضم أدب الرعب على يد الدكتور «أحمد خالد توفيق»، نجد أن الشباب يميل أكثر لمثل تلك الروايات التشويقية بجانب روايات الفانتازيا، خاصة تلك الروايات التي يكتنفها الغموض، فتترك انطباعًا تساؤليًا لدى القارئ.

فنرى أن أدبيات الرعب قد لاقت ترحيبًا كبيرًا بين الجمهور، خاصة بعد مزجها بالأحداث التاريخية على يد الكاتب «أحمد خالد مصطفى» صاحب رواية «أنتيخريستوس» ورواية «أرض السافلين»، فلا تخلو كتاباته من تأثره بمدرسة أحمد خالد توفيق من ناحيتي الرعب والغموض، إلا أنه تميز بصبغته الأدبية التاريخية التي غلّف بها رواياته، فجعلها مقصدًا لجميع القُرّاء، لما فيها من معلومات -وإن اختلفنا حول صحتها- وأفكار وأحداث ثرية تجعل القارئ لا يمل منها، كأنه يحيا في عالم آخر.

في الأخير، تكمن أهمية الرواية أنها عالم مُتكامل من أفكار وشخصيات تُمثِّل شرائح المُجتمع كلها، ليجد القارئ نفسه ضمن حبكة الرواية، فيتعرف على ذاته أكثر من منظور الكاتب. كما أن فنية الرواية لها دور ليس بالقليل لجذب الانتباه، فهي مزيج من الفنون الأدبية الأخرى؛ فتتميز بسردية المقال، وإيقاعية الكلمات، وموسيقية الشعر، ورصانة اللغة، وجزالة الألفاظ، وبساطة العرض، في إطار وصفي فخم، لا ينم إلا عن الثقل المعرفي لدى الكاتب.

المراجع
  1. عباس محمود العقاد، «الله»، القاهرة، دار إنسان للطباعة والنشر، 2020، صـ44.
  2. أ.أينهارت، «الآلهة والأبطال في اليونان القديمة»، ترجمة: هاشم الحمادي، القاهرة، الأهالي للطباعة والنشر، 1994، صـ13-14.
  3. أمين سلامة، «الأساطير اليونانية والرومانية»، بيروت، دار الفكر العربي، 1988، صـ151.
  4. محمد عجينة، «أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها»، بيروت، دار الفارابي، 1994، صـ192.
  5. إحسان عباس، «ملامح يونانية في الأدب العربي»، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صـ100.
  6. عمر الدسوقي، «في الأدب الحديث»، بيروت، دار الفكر العربي، 2000، جـ1، صـ109.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.