لم يتبقَّ لهم سوى الطبقية: لماذا يحتقر الفقراء أنفسهم؟
تندفع سيدة ترتدي إسدالًا مخصصًا للصلاة، تحمل في يدها عصا خشبية، وتطارد شابًّا لا يظهر منه سوى صوته في مقطع الفيديو الذي صوره بنفسه بينما يحاول الهرب، تهدده وتتوعده وتسبه بأشنع الألفاظ. يبدو من أسلوب حديث الشاب وردود أفعاله أنه لم يعتدْ مثل تلك المواقف، وتبدو على السيدة أمارات الانتماء للثقافة الشعبية والشرائح التي تمثل غالبية المجتمع، رغم أنها تقطن أحد المجمعات السكنية الحديثة المسماة بـ «الكومباوندات» المخصصة لأبناء الطبقة الوسطى العليا والأثرياء الذين استطاعوا الترقي والقفز من سفينة المدن القديمة المتهالكة. وهناك، دار هذا المشهد العبثي الذي تصدر مواقع التواصل الاجتماعي الأيام الماضية.
كعادة أي «تريند»، اختلفت التعليقات بين المتابعين عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولكن ظل أكثرهم إثارة للانتباه، والتساؤل، ذلك التعليق الذي انتشر بين عدد ليس بالقليل حول مأساة الحياة في مصر التي تكون فيها مضطرًا إلى أن تعيش بجانب هؤلاء الحثالة من البشر في النهاية بعدما دفعت مبلغًا هائلًا من المال، ربما كان جُلُّ ما تمتلكه من ثروة، لتتمكن من شراء وحدة سكنية بأحد «الكومباوندات».
لا يعد ذلك التعليق مثيرًا للانتباه فقط لما يتضمنه من طبقية، فالطبقية لطالما كانت حاضرة في جميع أنحاء العالم، ولكن ما كان مثيرًا هو أن أغلب من تداول ذلك التعليق هم أبناء نفس الطبقة التي وجِّهت إليها عبارات الاحتقار والكراهية.
وخصوصًا في البلد الذي تمثل فيها الطبقة الفقيرة نسبة ليست بالصغيرة، فبحسب آخر إحصائية رسمية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2020 تبلغ نسبة الفقراء في مصر 29.7%.
فما الذي يمكن أن يدفع طبقة إلى احتقار ذاتها؟
فخ العلمانية الشعبوية
دفع صعود حركات الإسلام السياسي بقوة في السنوات الأخيرة، وأخطاؤهم السياسية القاتلة التي أدت في النهاية إلى انهيار مشروعهم بمعظم الدول العربية على نحو كارثي، إلى صعود معارضين جدد لهذا التيار تمثل في انتشار موجة كبيرة من العلمانيين الشعبويين الذين لا يعرفون شيئًا عن العلمانية سوى الترصد لجميع أشكال التدين.
وأدى الانفتاح النسبي الذي مر به المجتمع المصري بعد ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي إلى تسرب تأثير ذلك التيار العلماني المتصاعد ببطء إلى الطبقات الأدنى من المجتمع، وإن كان على نحو محدود مقارنة بسيطرة القيود القديمة المحافظة على الطبقات الدنيا.
خلق هؤلاء المنتمون الجدد من الفقراء إلى تيار العلمانية تكتلًا شعبويًّا حديثًا لم يكن له حضور يذكر في المجال العام في السابق، وقد وقف هذا التكتل الجديد على أساس مغلوط شيد عليه موقفه من محيطه الاجتماعي، فأخذ ينظر إلى التدين بصفته قرينًا للفقر، بما أن الطبقات الدنيا عادةً ما تكون أميل إلى المحافَظة، بعكس الطبقات الأرقى التي تميل إلى التقدمية.
وصنع ذلك التكتل معادلة متخيلة مفادها أن التدين هو ما يصنع الفقر، ضاربًا عرض الحائط بجميع الأسباب الموضوعية العلمية المتحكمة في تشكل الطبقات الاجتماعية، وعليه أخذ يوجه جام غضبه نحو مظاهر التدين بصفتها سببًا للفقر، وبالضرورة إلى جميع العادات والتقاليد والأعراف التي تأسست عليها الطبقة التي ينتمون إليها، الطبقة الفقيرة، ونتج عن ذلك شعور عميق بالاحتقار نحو كل ما قد يعبر عن هذه الطبقة، وساعد أيضًا في تأجيج تلك المشاعر صعود الجماعات الدينية المتطرفة خلال العقد الأخير على نحو غير مسبوق، فأصبحت الدوافع لاستهداف الدين ومظاهره أكثر وجاهة.
بينما يؤكد تقرير أصدرته الأمم المتحدة منذ نحو شهرين ما يخالف ذلك التصور تمامًا، حيث خلص التقرير الجديد إلى أن السبب الرئيسي وراء انضمام الشباب إلى الجماعات الدينية المتطرفة في أفريقيا – بصفتها التبلور الأكثر جموحًا للتوجهات المحافظة – ليس الدين، وإنما الفقر، فبحسب الاستطلاع الذي أجري على نحو 1200 عضو سابق في جماعات متطرفة كان نسبة من انضموا للعمل المسلح بهدف البحث عن فرصة عمل 40%، بينما لم تتعدَّ الدوافع الدينية حاجز الـ 17%.
وهنا تظل العلاقة بين الفقر والتطرف الديني حاضرة طبعًا، ولكن على نحو معكوس، فليس التطرف الديني هو ما يصنع الفقر ويمنع التقدم ويعطل الرقي ويحجب الانفتاح على العالم، بل العكس تمامًا، الفقر هو ما يعد سببًا محوريًّا يدفع إلى هذا النوع من الممارسات الدينية المتطرفة، التي ربما لما كانت حاضرة بهذه القوة إن لم يكن هناك احتياجًا حثيثًا للمال.
معكوس وعي الطبقة
جادل الفيلسوف الماركسي جورج لوكاتش، في كتابه الشهير «التاريخ والوعي الطبقي» أن البروليتاريا أو الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة التي استطاعت أن تكوِّن وعيًا طبقيًّا حقيقيًّا، والذي يُعرَّف وفق الأدبيات الماركسية بأنه الوعي بموقع الطبقة داخل المجتمع والإلمام بمصالحها، حيث مكَّن موقع الطبقة العاملة في أسفل الهيكل الاجتماعي من بناء تصور صحيح وموضوعي لما أطلق عليه كلية التاريخ، لكونها أكثر الطبقات تضررًا من الهيكل الاقتصادي.
بينما لم تستطع الطبقات الأخرى وعلى رأسها البرجوازية الوصول إلى مثل ذلك التصور، فسقطت رهينة اعتقاد خاطئ منعها من فهم علاقات القوى داخل المجتمع، كالنظام الرأسمالي، على أنها انعكاس لمرحلة تاريخية محددة تتحكم فيها ظروف مادية موضوعية، فاعتقدت أن الرأسمالية أمرًا طبيعيًّا وخالدًا في التاريخ الإنساني.
تطور هذا المفهوم الخاطئ لجدلية التاريخ بتطور الطبقة البرجوازية عبر السنين، والتي طرأ عليها الكثير من التغييرات الشكلية لكن ظل فهمها الخاطئ لعلاقات القوى داخل المجتمع مرتبطًا بموقعها الطبقي بالضرورة.
ومع غياب الآليات المجتمعية التي تسمح للطبقات الدنيا من المجتمع بالحفاظ على وعيها الطبقي المنضبط والممثل لموقعها داخل الهيكل المجتمعي وما يعكسه من مصالح، أخذت البرجوازية ووعيها الخاطئ في التوسع من خلال الهيمنة الثقافية بالمفهوم الجرامشي على الطبقات الأدنى مستعينة باحتكارها لأدوات صناعة الوعي، ونجحت في تمرير تلك الأفكار المعادية لمصالح الطبقات الأدنى إلى تلك الطبقات نفسها.
فلم يجد الفقراء أمامهم سوى تبني أفكار البرجوازية التي تخبرهم بأن الفقر مشكلة منفصلة عن واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وأن أسبابها ذاتية بالضرورة، ممثلة في الخطاب الليبرالي الحديث الذي دأب على اقتصاص الفرد من بيئته الحاضنة وظروف مجتمعه، وإيهامه بأن الفقر الذي يعاني منه يعود إلى أخطائه الشخصية في عدم السعي الحقيقي نحو سبل النجاح التي حددتها البرجوازية بما يتوافق مع مصالحها الشخصية.
وبما أن ذلك الخطاب يحمل قدرًا كبيرًا من الزيف والخداع، أحيانًا بغير قصد، وغالبًا بقصد، ولا يمكن تنفيذ توصياته من الأساس لأنها لا تراعي أسباب المشكلة الحقيقية، اعتقدت الطبقات الدنيا أن مشاكلها تعود إلى فشلها الشخصي، فدخل أفرادها في حالة من الشك والقلق، الذي انتهى إلى احتقار عميق نحو البيئة التي أنشأتهم على هذا الحال، وتحميلها مسئولية كل أزمات الطبقة الفقيرة وتعاستها المزمنة.
الطبقية ملاذًا أخيرًا
في ظل مجتمع طبقي من حيث البنية المؤسسة، حلمت الطبقات الدنيا دومًا بشيء واحد فقط، ألا وهو الترقي الطبقي، وخصوصًا داخل المجتمعات التي يغيب عنها الوعي الطبقي بالشكل الذي أوضحناه آنفًا، وما يعنيه ذلك من آفات وعلل مستشرية في الجسد الاجتماعي، في محاولة يائسة للهروب من الظروف التعيسة التي فرضها عليهم موقعهم الطبقي.
فأخذت في ارتداء ثوب لا يناسب موقعها الاجتماعي وظروفها المادية، تمثل ذلك في تقليد أغلب العادات الاستهلاكية التي ارتبطت بالطبقات البرجوازية، من شراء الملابس من علامات تجارية شهيرة، مرورًا بالذهاب إلى نفس الأماكن التي يرتادها الأغنياء، وصولًا حتى لمحاولة استنساخ أسلوبهم المنمق وأحيانًا الكاريكاتوري في الحديث والتعبير عن نفسهم.
فأنتج ذلك نسخة مشوهة تمامًا لا تمت للواقع بصلة، حيث أصبح أمامنا أفرادًا ينتمون فعليًّا إلى طبقة الفقراء بناءً على المحددات العلمية المرتبطة بمعدلات الدخل، لكنها في المقابل تسعى جاهدة للظهور ضمن الطبقة البرجوازية.
لكن ذلك الأمر ليس مجانيًّا بالطبع، ففي حين يعيش أبناء الطبقات البرجوازية حياة مترفة بلا عناء لأن موقعهم الاجتماعي ومعدلات دخلهم تسمح بذلك، يعاني الفقراء للحفاظ على الحد الأدنى من هذا النمط في الاستهلاك، وربما يدفعهم هذا الوسواس القهري إلى العمل في أكثر من وظيفة وما يقود إليه ذلك من تدمير لحياتهم الاجتماعية، وربما صحتهم النفسية والجسدية أيضًا، إلى آخره من أمراض المجتمع الحديث.
كل ذلك العناء المضني فقط من أجل الحفاظ على صورتهم الذهنية أمام المجتمع الذي يربطهم بنمط استهلاكي معين.. ربما هم ليسوا في حاجة إليه من الأساس.
وفي خضم تلك المسرحية الهزلية التي أنتجها المجتمع النيوليبرالي، بقي خيار اللجوء للطبقية ملاذًا أخيرًا يمكنه أن يوفر تلك الصورة الذهنية المرجوة دون عناء، فالآراء مجانية، والحديث مجاني.
فبارتباط الطبقية دومًا بالأغنياء، أصبحت تندرج تحت أخلاقيات البرجوازية، تلك الأخلاقيات التي يلهث وراءها أبناء الطبقات الدنيا المغرر بهم من أجل التشبث بأهداب ثوب علية القوم في محاولة أخيرة للهروب من طبقاتهم التعيسة التي حملوها مسئولية ظروفهم الصعبة.
وتحولت الطبقية من سلوكيات مشينة تدين أصحابها، إلى مدعاة للفخر والتباهي، فبادعاء الفقراء للطبقية، أصبح في إمكانهم ليس فقط التنصل من طبقتهم، لأنه بالطبع ليس من الطبيعي أن يحتقر الإنسان نفسه، ولكن كذلك التأكيد على موقعهم الطبقي المتفوق.. وانتهى الأمر بذلك المشهد الضبابي الملتبس.
تعيد تلك الخلاصة إلى الأذهان المشهد الذي جاء في فيلم «ليلة سقوط بغداد» من تأليف وإخراج محمد أمين، أحد الأفلام المصرية التي لم تأخذ مساحة التقدير التي تستحقها، حيث كان هنالك شخصية تشعر دومًا باحتقار نحو عروبتها ومصريتها، وفي المقابل تتغنى بتفوق أمريكا، حتى إن تلك الشخصية حلمت باحتلال أمريكا لمصر لما سيجلبه ذلك من تقدم وازدهار، وارتبطت طوال الفيلم بجملة أعيدت مرارًا وتكرارًا كمعبر عن جوهر الشخصية، ألا وهي: «والله هينضفونا».
وفي المشهد الختامي، مشهد دخول القوات الأمريكية إلى مصر على دباباتهم، تنطلق تلك الشخصية نحو الجنود فاتحة أيديها بترحاب شديد، معبرة بأحر العبارات عن الشوق والمحبة، فيستل أحد الجنود سلاحه ويطلق نحو هذا الرجل رصاصتين بلا اهتمام، ويستكمل مسيره كما لو أنه لم يقتل سوى حشرة.
وينهي الرجل دوره في الفيلم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بعبارته الختامية: «مش قلت لكم؟ والله هينضفونا».