بين ميدو ونيلسون مانديلا: لماذا يكذب اللاعبون باستمرار؟
في عام 2009، وقفت الباحثة «فيونا بروم» لإلقاء كلمتها بمؤتمر علمي، وتحدثت عن إعجابها بالزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، وتأثرها الشديد بمشهد تشييع جنازته، وأنها ما زالت تتذكر مشاهد البكاء والحزن التي بثها التلفاز في وقتها.
كان نيلسون مانديلا رجلًا عظيمًا بالفعل، وقد شاركها عدد من الحضور ذكرياتهم مع جنازته وتأثرهم ببكاء زوجته ومحبيه، وشارك الملايين عبر الإنترنت ذكرياتهم أيضًا، وقبل أن تتأثر أنت الآخر بوفاة الزعيم المحبوب، دعنا نذكر معلومة مهمة.
في ذلك التاريخ لم يكن نيلسون مانديلا مات من الأصل، وبينما تذكر الكثيرون مشاهد جنازته، فإن الرجل ظل حيًا حتى عام 2013، حيث توفي جراء عدوى بالجهاز التنفسي.
فيما بعد، عرفت هذه الظاهرة باسم «تأثير مانديلا»، وحاول العلماء تفسيرها بعدة طرق، لكن دعنا من مانديلا الآن.
في 2022 وبينما يجلس أحمد حسام ميدو في أحد البرامج التليفزيونية، تحدث عن واقعة حدثت أثناء أمم أفريقيا 2004 بتونس، وتحديدًا في المباراة الأخيرة بدوري المجموعات حيث التقت مصر بالكاميرون.
يروي ميدو أنه اتفق مع صامويل إيتو نجم الكاميرون على إنهاء المباراة بالتعادل الذي يصعد بالفريقين معًا، وإقصاء الجزائر التي كانت تلعب في الوقت نفسه مع زيمبابوي.
وصدق الاتفاق بالفعل، وانتهت المباراة بالتعادل، لكن الجزائر فازت برباعية ولم يخبر أحد ميدو خلال المباراة فصعدت الجزائر مع الكاميرون وخرجت مصر.
هذا اتهام بالتفويت لمنتخبين من كبار القارة، يستلزم الكثير من الاهتمام لو ثبت، لكن كلام ميدو لم يحتوِ أي كلمة صحيحة تقريبًا، وما حدث أن جدول ترتيب المجموعة كان يشير لتصدر الكاميرون بـ4 نقاط، بنفس رصيد الجزائر، بينما تمتلك مصر 3 نقاط وزيمبابوي بدون رصيد.
وهو ما يعني أن تعادل مصر مع الكاميرون لم يكن ليصعد بمصر، ولم يكن أمامها إلا الفوز على الكاميرون، كما لم تفز الجزائر بل خسرت بهدفين لهدف ولم يمنعها ذلك من الصعود.
مشكلة حكاية ميدو التي ألفها أنها لا تنتمي لزمن بعيد، بل أعوام قليلة وأحداث بثها التلفاز يمكن العودة إليها خلال لحظات والتأكد من كذب روايته.
في لقاء مختلف، كان فان دار فارت نجم ريال مدريد السابق يتحدث مع بيتر كراوتش ليستعيدوا ذكرياتهم، وحكى اللاعب الهولندي عن أحد ذكرياته المهمة بينما كان في ريال مدريد، وتحديدًا في عام 2008 حيث واجهوا سبورتنغ خيخون، ويتذكر تسجيله هاتريك في هذه المباراة، ويحكي كيف ظهر كريستيانو رونالدو غاضبًا في غرفة الملابس بعد اللقاء لأنه لم يستطع التسجيل، هذا دأب كرستيانو بالطبع الذي يحب التسجيل دائمًا.
لكن المشكلة الوحيدة في هذه القصة، أن كرستيانو لم يلعب في هذه المباراة، ليس لشيء سوى أنه لم يكن لاعبًا في ريال مدريد في ذلك الوقت أصلًا، بل انتقل بعدها بعام في 2009.
ومرة أخرى، هذه مباريات مسجلة وأحداث قريبة، فلماذا يفكر اللاعبون في الكذب بشأنها رغم سهولة اكتشاف الأمر؟ ولماذا يخترع اللاعبون هذه القصص من الأصل؟
أزمة هوية
تتشكل حياة لاعب كرة القدم حول اللعبة، طفولته وشبابه يدوران حول المباريات والتمرين والسفر، وتتشكل بذلك هويته كرياضي، ويصير ذلك هو تعريفه الوحيد لنفسه.
لكن عند لحظة ما، يأتي الاعتزال حتمًا، وعندها يكون على اللاعب مواجهة ما هرب منه طوال مسيرته، أن يقف وحيدًا يعرف نفسه بنفسه لا برياضته.
هذه مواجهة صعبة لا ينجح فيها الجميع، وطبقًا لعالمة النفس الرياضي «جايلين كيلوز»، فقد عانى الرياضيون المعتزلون حديثًا من انخفاض في مستويات الدوبامين والسيرتونين، مما قد يسهم في الشعور بالإحباط، وتقول «كلوز» إن الأمر يشبه التعافي من إدمان الكوكايين.
السيدة كلوز لا تبالغ، دخل عدد من اللاعبين في موجات اكتئاب عقب اعتزالهم، بل أقدم بعضهم على الانتحار لأنه لم يستطع التعامل مع هذه اللحظات.
وأهم ما يفتقده اللاعبون بالاعتزال اهتمام وسائل الإعلام، وبالرغم من شكوى اللاعبين من ملاحقتها لهم وتتبعها لحياتهم، فإنهم يدمنون ذلك مع الوقت، ويحبون إحساس الأهمية وكونهم محور الحديث الدائم.
باعتزال اللاعب، تنسحب هذه الأضواء تمامًا، بعض الرياضيين لم يتحمل ذلك، وعاد من الاعتزال ليعود محط الاهتمام من جديد بالرغم من عدم لياقته كما فعل محمد علي.
ومن هنا يمكن فهم الدافع الأول لتأليف بعض القصص، يمكنك أن تفهم دوافع لاعب مثل عبد الستار صبري للمبالغة في حكاياته عن احترافه في البرتغال، أو غيره من النجوم الذين يشتاقون للعودة إلى الأضواء بأي طريقة.
ومع كل خفوت، قد تجد قصة ملفقة جديدة يعود اللاعب بها إلى الواجهة وينتقل بين بعض البرامج ليقضي بعض الوقت ويشبع رغبته الملحة بالظهور، ويستعيد بريقه المفقود.
أكل العيش
من بين ما يعانيه اللاعبون بعد الاعتزال، فإن الأموال تمثل جزءًا رئيسيًا من تلك المعاناة، ورغم الرواتب الضخمة التي يتقاضاها لاعبو كرة القدم، فإن أغلب الأجيال المعتزلة لم تكنز الكثير من تلك الأموال.
تعرض الكثيرون للإفلاس، وعمل لاعبون في وظائف متعددة لا علاقة لها بالرياضة لتفادي ذلك المصير.
والفجوة بين رواتبهم كلاعبين ورواتبهم في أي وظيفة أخرى مهما كانت يظل شاسعًا، ولذلك يكون الإعلام وسيلة بعضهم للتكسب وربح بعض المال.
وأيًا كانت الطريقة فإن اللاعب سيصارع ليحافظ على الظهور في الإعلام، قد يختلق صراعًا وهميًا مع لاعب صغير كما فعل أحمد بلال وإبراهيم سعيد، أو يقبل بالإهانة ويجلس ليؤكد على صحة كلام المستشار مهما قال، أو يأتي من البرازيل ليحلل أداء بيراميدز التكتيكي الرائع، أو يتحول لمهرج كما فعل أحدهم.
أو يختلق قصة وهمية عن مسيرته، فتلقى تكذيبًا، فتستضيفه قناة أخرى للرد على التكذيب، ومن قناة لأخرى، يدخر بعض الأموال التي يحتاجها.
لم أكذب
في الحقيقة فإن الأسباب الماضية تفترض بأن اللاعبين تعمدوا الكذب، ورغم أن ذلك يحدث، فإن هناك احتمالًا أنهم لم يكذبوا من الأصل.
في 2001، وفي 11 سبتمبر تحديدًا، اتجهت أربع طائرات نحو برج التجارة العالمي لتصطدم به، وتترك تلك الحادثة 3000 قتيل في الحال و6000 مصاب، وملايين من الأبرياء بعد ذلك قتلتهم أمريكا ردًا على الهجوم.
لكن بينما كان الجميع مصدومًا من الحادثة، كان الدكتور «ويليام هيرست» من مدرسة نيويورك للأبحاث الاجتماعية وعدد من علماء النفس يتشاورون لإجراء تجربة ضخمة، وجرى الترتيب سريعًا، وفي اليوم التالي بدأ التنفيذ.
تقوم التجربة على سؤال 3000 شخص عن ذكرياتهم عن الحادثة، أين سمعوا الخبر؟ وماذا فعلوا بعدها؟ وأسئلة من هذا النوع، ثم عادوا بعد سنة كاملة لنفس الأشخاص ليعيدوا نفس الأسئلة، والمفاجأة أن 40 % من الإجابات قد تغيرت.
وتكرر السؤال مرات عديدة بعد ذلك، وكلما مر الوقت كانت الذكريات تتبدل أكثر، لكن الغريب أن نسبة تأكد الأشخاص من كلامهم كانت تتزايد، وكلهم يؤكد أنه يتذكر هذه اللحظة تمامًا.
قدمت هذه التجربة نظرة واضحة لنا على مصطلح (الذاكرة الزائفة)، المصطلح الذي عرفه علم النفس منذ زمن، وشهد تجارب عديدة لتشرحها وتتعرف عليها.
أحد هذه التجارب كانت «تجربة الضياع في المركز التجاري» «Lost in the mall technique»، وهي تجربة تقوم بعرض أربع ذكريات من الطفولة على المتطوعين، كلها ذكريات حقيقية عدا واحدة تتضمن فقدانه في المركز التجاري وإعادته لعائلته من قبل أحد الأشخاص، وتزوير صور عبر الفوتوشوب بدقة وإطلاع المتطوعين عليها، وجاءت النتائج أن 25% من الخاضعين للتجارب تذكروا بالفعل أحداثًا لم تحصل، وحكى بعضهم عن مشاعره لحظة ضياعه وماذا فعل بعد أن التقى والديه.
هذه ذكرى لم تتواجد أبدًا وزُرعت في دماغ صاحبها دون أن يدري، وهذه ليست الطريقة الوحيدة، هناك طريقة تعتمد على طرح أسئلة معينة توجه ذاكرتك نحو شيء معين، فرصة إجابتك بنعم على سؤال: «هل رأيت الإشارة الحمراء؟» أكبر من «هل رأيت إشارة حمراء؟»
طريقة أخرى تسمى تضخيم التخيل (Imagination Inflation)، حيث يمكن لتخيل المرء حدثًا في عقله أن يتحول إلى ذكرى حقيقية، ومع تكرار التخيل يترسخ الحدث في ذاكرته كما لو كان حدثًا حقيقيًا.
يحكي واين روني نجم مانشستر يونايتد أنه اعتاد أن يقضي ليلة المباراة يمارس التخيل، يرى نفسه في طاقم الفريق، ويتخيل نفسه يراوغ هذا المدافع، ويخدع الآخر، يسدد ويمرر ويسجل الأهداف، كل ذلك في مخه.
قد يشكل هذا التخيل ذاكرة زائفة عند لحظة ما، فهل كان عبد الستار صبري يتخيل أن المظاهرات خرجت في بنفيكا لأن مركزه في الملعب تغير وصارت تلك ذاكرة بعد ذلك؟ وهل ظل ميدو يتخيل أنه أهان فريق روما رفقة زلاتان حتى طلب كابيلو كشف المنشطات عليه فشكل ذلك ذاكرةً زائفةً عنده؟
ربما، وحينها لا ندري هل نلومهم على ذلك أم لا، لكن الأكيد أن اللاعبين سيستمرون في ذلك للأبد، لكن لو شاهدوا المباريات التي يتحدثون عنها قبل حديثهم ربما كان أفضل، وقد يحميهم من مصير من وصفوا جنازة مانديلا قبل وفاته بأربع سنوات.