بين تارانتينو والميلودراما: لماذا لا تتغير مسلسلات رمضان؟
الانتقام جحيم، قربانه حكايات مُكررة
في حوار مع المخرج الأمريكي «كوينتن تارانتينو»، سُئل عن جوهر فيلمه الشهير «اقتل بيل»، الذي يدور حول قاتلة مأجورة، ودعت حياة الإجرام، لكن تزورها عصابتها القديمة يوم زفافها بقيادة الزعيم «بيل» ليقتلوا عريسها ويحاولوا قتلها بينما تحمل في أحشائها طفلتها، تنجو العروس بأعجوبة، وتبدأ رحلة انتقام ملحمية سخَّر فيها تارانتينو كل ألوان السرد من الرسوم المتحركة لفنون القتال للأسلحة النارية وأجواء الويسترن.
عندما أجاب «تارانتينو» قال إن فيلمه لا يمتلك فرادة بعينها، هو فقط تنويعه وإضافته الشخصية لجونرة الانتقام الخالدة، تنويع يفي في سرده لكل أفلام الدرجة الثانية التي يهزم فيها البطل المنطق ذاته وهو يحقق عدالته دون أن يمسه مطر الرصاصات أو نصال السيوف، تنويع يقدم تحيته كذلك لأفلام الدرجة الأولى والملاحم الأدبية الرفيعة التي خلدت رحلة ينبعث فيها البطل دومًا من رماد مقبرته ويعود لحياة أعدائه مثل كابوس، يعد «اقتل بيل» مساهمته في ثيمة الانتقام التي بدأت من مسرحيات «سوفوكليس» وقصة «دي مونت كريستو» وصولًا له ولن تنتهي بعده.
يخلق تارانتينو سلامه مع خلود فكرة الانتقام في الفن وهوس الحكائين الدائم في الملاحم وكل فنون السرد في العالم باستعادتها، يختار للانتقام في حكايته استعارة الغابة كثيفة الأغصان التي ما إن يدخلها المرء حتى يسير في دوائر بين الثأر وخسارة الذات، ثم يُضاف في التو لقائمة التائهين في دروبها، لا يرى فيلمه إلا دورة من دورات التيه، وما بطلته إلا واحدة من هؤلاء التائهين.
على النقيض من سلام «تارانتينو» وإدراكه موضع فيلمه من جونرة عملاقة خلدتها الملاحم، تستعيد الدراما المصرية ثيمة الانتقام وانبعاث البطل من رماده بلا كلل. ولكن كل مرة يُصر أبطال الحكاية وصُناعها أنهم لا يُكررون أنفسهم أبدًا، وأن كل عمل هو إضافة جديدة لا تُشبه سابقتها. لا يزال الانتقام الذي يتضمن دومًا رحلة صعود بطل من قاع الظلم للقمة حاضرًا بقوة في خريطة مسلسلات رمضان 2023.
يشتهر تارانتينو في هوليوود بقلة عدد أفلامه ووعده الشهير أن يعتزل السينما بعد فيلمه العاشر، خوفًا من أن يُكرر نفسه. ورغم أن أفلامه التسعة يحضر فيها الانتقام كهاجس يُطارد أبطاله إلا أن كل حكاية تؤسس عالمًا يخصها، بأبطال ودوافع مُختلفة، يحضر العنف بشكل انفجاري في النهاية ليُحقق التطهير، لكن لا تحمل أبدًا كل حكاية البصمة ذاتها. هذا ما عناه تارانتينو بأن تنتمي أفلامك لجونرة وسيكولوجية بعينها مثل غابة كثيفة، لكن بالفن يُمكنك أن تصطنع عبرها طريقًا جديدًا كل مرة.
يسيطر الانتقام ورحلات صعود البطل من الرماد للتحقق على الدراما المصرية منذ سنوات، فهل تأتي القصص هذا العام ببدايات مُختلفة تبشر بعوالم جديدة أكثر طزاجة من الأعوام السابقة؟
بطل كل عام في مواجهة الجميع
تظهر ثيمة الانتقام من البداية حيث البطل الذي يحمل على عاتقيه ثقل عالمه في معادلة صفرية هو فيها وحده في مواجهة الجميع في بدايات مسلسلات هذا العام مثل «ضرب نار» و«الأجهر» و«بابا المجال» و«جعفر العمدة». والتي باختلاف حبكاتها تدور جميعها حول مركزية ذكر قوي ينتمي لجذور شعبية أو صعيدية تمنحه دومًا اسمًا مُميزًا يكون في الغالب هو عنوان العمل، بينما يسهل من مُتابعة التتر وحده أن تدرك كيف تم تسكين كل عناصر الحكاية؟ من هو الشرير؟ من هي الأنثى الجائزة التي يتبارى لأجل جمالها الجميع؟ ومن هم الطيبون الذين سيحتاجون دومًا أن ينقذهم البطل؟ وبينما يؤكد «كافكا» أن الفن الجيد في نظره لو وضع فيه الرجل في معادلة صفرية بمواجهة العالم فسينهزم دومًا لصالح العالم، تحقق تلك الدراما جاذبيتها في كونها تُحقق مقلوب المعادلة، فالرجل رغم بساطته وفردانيته إلا أنه دومًا ينتصر.
لا يهدف المقال لوصم حكايات تشي بداياتها بالتكرار الممل بأنها ستكون فاشلة بالضرورة، إنما يهدف لمُقاربة قدر المشابهة بين تلك الشخوص وشخوص سابقة قدمها أبطال تلك الأعمال نفسها في أعوام خلت، فيبدو مسلسل الأجهر وبابا المجال هو تفكيك جوهر مسلسل «ملوك الجدعنة» 2021 لحكايتين، بينما يستعيد الثنائي أحمد العوضي وياسمين عبد العزيز في «ضرب نار» القصة نفسها من مسلسل «اللي مالوش كبير» مع تنويع يجعل البطل طيبًا قادمًا من الصعيد يقع بالصدفة في حب جميلة ويقرر بجدعنته أن ينقذ مُهرته بدلًا من كونه رجل عصابات يقع في حب جميلة وينقذها بسطوته. بينما يعود «محمد رمضان» بعد محاولة للتغيير أجهضها الملل في «المشوار» لعوالمه التي يعتادها، حيث البطل الذكوري القوي بسلطته، والذي يمتد حضوره من أب يحمل نفس ملامحه وحكاية هو بطل كل أجيالها ومعشوق كل نسائها.
لا يمكن التعالي عن هذا النمط من الحكايات ووصمه بالاستسهال، تكرار تلك الحكايات يؤكد وجود جمهور وفي لها ينتظرها، وتلبي لديه احتياجًا ما يجعله لم يملها بعد. بينما أبطال تلك الأعمال يرتضون استنساخ الشخصيات نفسها بلزمات وألقاب جديدة ومواقف تنتهي دومًا بانتصار البطل بعضلات منتفخة وذكورة شاكمة لما حولها، مواقف يُمكن اقتطاعها عشرات المرات في وسائل التواصل الاجتماعي في صورة ميم ونكات لتتضاعف جماهيرية المسلسل. ربما لأن هذا الاستنساخ المُعاد هو مغامرة آمنة لنجوميتهم ووجبة ينتظرها جمهور يعرفونه جيدًا. بعد رصد التكرار يُمكننا أن نسأل لماذا تنجح ميلودراما انتقام مكررة قوامها دومًا تحقق البطل برحلة صعود عنيفة يثأر فيها من أعداء يقفون في طريقه دون أن تفقد جمهورها بعد؟
ميلودراما لا تتسامح مع التعقيد
تعد الميلودراما اتجاهًا فنيًّا برز بقوة لإرضاء عواطف الجمهور المسرحي، فالميلودراما هي حبكة مُصممة بعناية لاستثارة عواطف قوية من الجمهور، تنقسم اللفظة لكلمة «ميلوس» ومرادفها غناء وتضاف للدراما، ليظهر لون فني يدمج الملهاة الغنائية في مأساة سهلة، لا تشوب الحكاية أي ضبابية، فهي تؤسس بقوة لطيب نقي وشرير مُدنس، قديسين وخطاة، وظلم فاضح لا تشوبه أي رمادية. وبقدر ما يبدو هذا الوضوح والتسكين الكاريكاتوري للشخوص مُملًّا ومكررًا بقدر ما يؤتي ثماره في النهاية حينما تُضاف لكل مظلومية البطل العزيمة، تنفتح أبواب المعجزة وتنحسر حظوظ القدر عن الشرير، تتبدل الأدوار وينتقم البطل أو ينتصر فيتحقق ما سماه أرسطو «التطهير»، يُفرغ الجمهور انفعالاته بقوة ويعود لعالم المشاهدين حس العدالة والنظام بعد التوتر الذي خلقه الظلم.
لا تساءل الميلودراما وحكاياتها عالمها والمجتمع وطبقاته، تلك تفاصيل رمادية فالقصة مروية شعبية يُفسد التعقيد مفعولها، قرص طبي نصفه أبيض ونصفه أسود باستهلاكه يعود شعور المرء بعدالة عالمه بعدما حقق البطل له انتصاره.
تحقق بساطة الحبكة الميلودرامية وخلوها من التعقيد الطمأنينة الخالصة لمتلقين في حالة قلق وعدم يقين معيشية يحتاجون معها لحكايات تشبه السيرة الهلالية والأقصوصات التي تحمل نهاياتها السعيدة نسائم عالم أكثر بساطة، الطيب فيه لا ينسحق إنما يتوحد في النهاية مع لقبه الهزلي الذي بدا طفوليًّا في البداية لكنه بات نبوءة صاحبه، فيصير شابان من الطبقات المطحونة مَلِكين في النهاية وسيماهما الجدعنة، وبالطبع سوف تنتهي حكاية البطل زين بكونه «بابا المجال»، مهما كانت طبيعة هذا المجال.
يعتبر تارانتينو ثيمة الانتقام والتحقق غابة كثيفة الأغصان، وليست خطًّا مستقيمًا أبدًا، دورة من التكرار تبتلع أبطالها، والتحدي يكمن في أن يميز المتلقي فرادة في طبيعة تلك القصص.
يتزايد حضور تلك القصص كل عام في الدراما المصرية، وتتزايد معها جرعة الظلم والمأزق الذي يتعرض له البطل لتزيد معها جرعة التطهير في النهاية، فلا يبدو الجمهور في استهلاكها إلا متلقين عالقين بإرادتهم في غابة كثيفة على تيه السير فيها وتكراره، تبدو عوالم تلك الغابة والحكايات أكثر مألوفية وتحمل وعودًا بعالم أكثر بساطة، الخير فيه منتصر والشر مهزوم، بدلًا من عالم حقيقي أكثر تعقيدًا، لا توجد حكايات ودراما حقيقية تعبر عنه.
الذكر القوي بطل الميلودراما دومًا
في حلقة من برنامج «رامز نيفر إند»، يظهر الممثل «أحمد السقا» رابط الجأش في مطعم معلق يترنح في الهواء، بينما يشترط عليه «رامز جلال» لإنهاء المأزق أن يضع ثعبانًا فوق رأسه ويتلو عبارات مادحة للبرنامج.
يلتقط أحمد السقا الثعبان ببساطة، ويقضم رأسه وهو حي ليثبت أنه بطل ذكوري قوي لا تثير فيه مخلوقات كتلك أي شعور بالرعب. في حركة لا يمكن الحسم بكونها تمثيلية، لكنها شديدة السينمائية لتكون رد فعل عفويًّا، على الأرجح لقطة جذابة يؤكد عبرها نجم تلفزيوني الاستجما التي يحتضنها دومًا، وهي صورة الذكر القوي الذي لا يخاف شيئًا، لا يضعف، لا يتوسل.
تطغى تلك الاستجما التي يُحافظ عليها كثير من النجوم الذكور في تفاعلاتهم مع الجمهور والميديا على كل أبطال مسلسلات الانتقام المصرية في السنوات الأخيرة، بينما الأبطال في انتقامات تارانتينو يتنوعون من امرأة لمقاتلين ضد النازية لدوبلير غامض وممثل جبان، يحافظ البطل دومًا في الدراما المصرية على شروط بعينها. يمكن تفصيلها في السمات التالية:
ذكر مفتول العضلات، ابن بلد، يُجبر من حوله خاصة خصومه على احترامه بنجاحاته، وإن لم تتحقق نجاحاته فسوف يُجبرهم بالمخاطرة والعنف، لا يُمكن أن يحمل أبدًا لمحة من ضعف.
لم تخلُ الأعوام الماضية من مسلسلات تدور حول ثيمة الانتقام وبطلاتها نساء مثل مسلسل خيانة عهد 2021 ويوتيرن 2022، لكن في المسلسلات النسائية يدور الانتقام دومًا حول ألاعيب ذهنية وخطط جهنمية ذات دهاء يكون ضحيتها رجالًا دومًا، وهو قدر من الضبابية والصبر لا تتحمله الميلودراما، لهذا يُسيطر الحضور الرجولي على تلك الجونرة، حيث البطل مُقنع في اعتماده الدائم على العنف والصوت الجهوري وإنهاء معاركه بقوة يده وسطوته المباشرة.
لذلك نرى في مسلسل «ستهم» هذا العام، بطلة ريفية يتعرض زوجها للقتل غدرًا، فيكون أول تجلٍّ لقوة شخصيتها هو حلق شعر رأسها والظهور بمظهر رجولي صادم لقريتها، في دلالة على نيتها الانتقام والوقوف في وجه العالم، فشرط البطولة التي تؤخذ فيها الأنثى على محمل الجد في لون الميلودراما هو أن تتحرر من أنوثتها.
بينما في الحلقة الأولى من مسلسل «عملة نادرة»، تؤكد البطلة الريفية «نادرة» لزوجها أن عيبه الطيبة والنبل، أنها أحبته لتلك الصفات، لكن الصفات نفسها تحمل نبوءة هلاكه، وهي النبوءة التي ستتحقق في نهاية الحلقة عندما يقتله أخوه طمعًا في ميراث الجد، بينما الجد «عبد الجبار» يحتضن رضيعها ويُخبره بما يجب أن يكون عليه الرجل:
«ما تخليش الخوف يقرب منك، الشفقة خيبة الرجالة، متبانش ضعيف ولا حتى قدام أمك وأبوك وإلا هياكلوك».
في حكاية بطلتها امرأة يتحقق هلاك البطل بكونه لا يحمل السمات الذكورية التي يحملها أبطال آخرون في مسلسلات موازية، وتكفل لهم النجاة والتحقق في الميلودراما خاصتهم مهما كان تعقيد مأزقهم وشر عدوهم.
لذلك يموت الزوج وتجد نادرة نفسها وسط عالم ذكوري يؤكد لها رجاله أنها لا يحق لها أن ترث أو تتزوج بعد زوجها إلا أحد إخوته.
لا يحتضن أبطال الميلودراما تلك السمات التي تحمل مخاطرة دائمة في كونها مكررة ومبتذلة لذاتها، إنما لكونها ما يتوقعه الجمهور دومًا من بطل الميلودراما لينجو في عالمه.
يقول عالم النفس David Brannon إن سمات مثل العنف والقوة وعدم إظهار الضعف والاستعداد الدائم للبطش، تمثل كتالوج ما يجب أن يكون عليه الرجل، والذي رسخته المجتمعات منذ عقود، يُتوقع دومًا من الرجل أن يتصرف بتلك الطريقة ليفي بشروط رجولته، تحضر الشروط نفسها في الميلودراما المصرية لا لتحقق للبطل رجولته وحسب، إنما لتكفل نجاته وإلا فسينتهي البطل دومًا مقتولًا مثل المسلسلات النسائية التي يحضر فيها دومًا نمط الرجل المُسالم الذي يؤسس بموته لنضج شخصية الأنثى في مواجهة عالمها.
الميلودراما، نسخة هزلية من واقع رمادي
عندما سُئل «كوينتن تارانتينو» عن الأفلام التي يكرهها، قال إنه فقط يكره أفلام السيرة الذاتية biopic، مردفًا أنها مجرد عذر تمنح به هوليوود الأوسكار لممثلين في سنوات الجفاف الفني، بينما لو اختار يومًا أن يصنع فيلم سيرة ذاتية فسيختار يومًا مثيرًا من حياة شخصية حقيقية، وسيصنع منه نسخة هزلية أشبه بالكوميك، وهو ما فعله في فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود»، عندما حول حادث مقتل الممثلة «شارون تيت» الدموي على يد عصابة «تشارلز مانسون»، ليوم هزلي نجت فيه الممثلة على يد جارها الممثل وصديقه الدوبلير اللذين قتلا سفاحين ببساطة هزلية كما نرى في أفلام السينما.
تحمل الميلودراما على مبالغتها الهزلية ونهاياتها المتوقعة، ولونا الأبيض والأسود فيها هذا الوعد الدائم بمخالفة الواقع وشخوصه الحقيقية، بانتصار البطل وتفريغ الانفعالات المكبوتة ولو بشكل مبتذل، وهي شروط لا يرضخ لها الواقع أبدًا الذي لا يمانع في سحق الطيبين والانحياز للأشرار لو قدموا خططًا أذكى، لذلك لا تبدو مسلسلات الميلودراما التي تقدمها الدراما المصرية بكثافة في السنوات الأخيرة محاولة فنية للاشتباك مع واقع بعينه واستنطاقه بالفن، إنما رغبة جذرية في تبسيط هذا الواقع والتحكم في نتائجه وتفريغ إحباطاته بشكل آمن.
يصف الفيلسوف «فرانسيس بيكون» شعور الانتقام بأنه عدالة لكنها وحشية، مصنوعة بمباشرة يائسة من التعقيد القانوني. تهرب الميلودراما بحكاياتها المكررة من عالم أكثر تعقيدًا يحوطه اللون الرمادي، لذلك مهما بدت الحكاية معادة فستجد لها جمهورًا؛ لأن الحكاية لا تدور حول المفاجأة المتوقعة دومًا بانتصار الخير على الشر، ولا تدور حول التجديد في السرد، إنما تدور حول التفريغ الدوري لانفعالات مكبوتة تنتمي لواقع معقد تحتل الضبابية والقلق كثيرًا من سياقاته، تدور الميلودراما حول الوصول لنشوة التماهي مع بطل قوي نجح عكس كل التوقعات بنقاء قلبه الأبيض في مغالبة كل ألوان الأسود، ولم يسقط في الرمادي الذي يكسو واقعًا لا يتحمل الجمهور وصاله.