لماذا لا تقرأ النسويات «سلافوي جيجك»؟
ربما لا يجب عليك أن تكون ذكوريًا -بحسب ما اُصطلح على تسميته- حتى تلقى وابلًا من الاتهامات والتشنيع والتشهير إذا ما تفوّهت بما لا يتفق مع أي قضية من القضايا التي تتبناها الحركات النسوية في عصرنا الراهن، يكفي فقط أن تُبدي أي شكل من أشكال الاختلاف مع الآراء الشائعة المتداولة بين من يصفن أنفسهن بالنسويات حتى تبدأ أصابع الاتهام في الإشارة إليك ووصفك بالرجعية والتخلف وربما العنصرية أيضًا.
ولكي نضع النقاط على الحروف من البداية، لا يوجد شخص منصف راجح العقل يستطيع أن ينكر ما تتعرض له النساء من تهميش واضطهاد في كل أنحاء العالم بدرجات متفاوتة، إن كان مقصودًا أو بغير قصد، فقضية المرأة في الأساس تندرج تحت قضايا حقوق الإنسان الطبيعية قبل أن تكون قضية فئوية تخص حصرًا من يحملون ألوية الدفاع عنها.
ولكن، هل هذا يعني أنه علينا أن نتجاهل ببساطة الآفات التي بدأت في الظهور بين الممارسات العملية للحركات النسوية المعاصرة؟ يجيب الفيلسوف السلوفيني المعاصر «سلافوي جيجك» عن هذا التساؤل بالنفي، لماذا؟ حسنًا، هذا هو تحديدًا ما سوف نستفيض في شرحه في الأسطر التالية من هذا المقال.
التحديق في الهاوية
يقدم الفيلسوف الألماني «فريدريك هيجل» في كتابه الأشهر «فينومينولجيا الروح» فكرة من أهم الأفكار التي يمكن أن نفهم من خلالها طبيعة الأزمة التي يمر بها المخيال النسوي وتجلياته العملية الآن، وهي فكرة «التغافُر»، والتي تعني، بإيجاز، المرحلة التي تتصالح فيها الضحية على النحو الديالكتيكي الهيجلي مع المجرم في سبيل العبور إلى الحالة التي يمكن من خلالها تحقيق الاستقرار وتجاوز الاستقطاب والشحن المعنوي، حيث يكون هذا التغافر ليس فقط كرمًا أخلاقيًا من قبل الضحية، بل إقرارًا بأن للضحية دورًا فاعلًا في الجريمة، ربما لا يقل -نظريًا- عن دور المجرم الذي يتوجب عليه الإقرار بجريمته بلا أدنى شك.
يجادل «جيجك» بأن هذه الفكرة تشكل أهمية خاصة بشكل استثنائي اليوم، حيث تكشف لنا عن أماكن العوار التي تمخضت عنها الحركات النسوية بصفتها انعكاسًا للمخيال السياسي لليبرالية الجديدة وممارسات الصوابية السياسية.
حيث ذهبت الممارسات النسوية المعاصرة إلى تجاهل هذه النقطة والوقوع في فخ الاقتياد لمعركة تكون فيها على قدم المساواة مع الخصم الذي تحاول التغلب عليه، بل وتمارس نفس الأفعال التي يتوجب عليها رفضها في الأساس.
ربما تكون قد سمعت في الأغلب بالحملة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسمى «أنا أصدق الناجيات»، والتي كانت في الأساس امتدادًا لحركة Me Too الغربية الهادفة لفضح حوادث التحرش التي تورطت فيها الشخصيات العامة. وما هو مثير للدهشة حقًا، الحالة التي تطورت إليها تلك الحملة التي كانت تهدف في الأساس إلى الدفاع عن حقوق ضحايا التحرش لتصبح أداة بطش يمكنها أن تطال الجميع دون التقيد بالأسس والقواعد البديهية لتحرّي الحقائق.
حيث أصبح من القواعد التي تمأسست عليها هذه الحملة تصديق كل من تدعي أنها تعرضت لأي شكل من العنف الجسدي أو المعنوي دون تقديم أي دليل، وليست هذه هي أكبر المصائب، بل ما يترتب على هذا القبول من قتل معنوي لمن يفترض كونه الجاني، إذ إنه لا يمكنه تقديم حجج تُبرّئه من التهمة، لأن التهمة كانت بلا حجة يمكن دحضها من الأساس، فتتحول القضية العادلة إلى مسرحية كارتونية وتفقد مصداقيتها وتأثيرها المنشود.
هنا تنضح المشكلة بكل ما في مكنونها، فالأشخاص الذين روجوا لتلك القواعد التي لا تتفق مع بديهيات المنطق يعلمون أتم العلم أنها غير منصفة، إلا أنهم اختاروا أن يردوا على الظلم والقهر الذي يتعرضون له والذي لا يمكن إنكاره بظلم وقهر مقابل، لتكون النتيجة في النهاية هي معركة عبثية يخسر فيها الجميع دون استثناء، ولا تنتج إلا مزيدًا من الصراعات الشبيهة بصراع دون كيخوت ضد طواحين الهواء.
في تلك المرحلة تحديدًا تكون الممارسات النسوية من هذا النوع جزءًا أصيلًا من المشكلة، وليست وسيلة لإيجاد حل، إذ إنها ترى في جميع الرجال خطرًا بل ومجرمًا محتملًا. ألا تعد تلك النظرة أشبه بنظرة الرجل الذي لا يرى المرأة أكثر من كونها وعاءً جنسيًا؟ وفي إطار هذا الصراع القطبي لا يمكن أن يصل المجتمع لوضع يمكنه من تجاوز المشكلة على نحو نهائي، حيث تكون وسائل المقاومة والحل جزءًا لا يتجزأ من المشكلة. أو كما يقول الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه»:
الجنسانية اللغوية
من بين القضايا التي طرحت بقوة بين الحركات النسوية المعاصرة القضية المتعلقة بالألفاظ الجنسية التي تستخدم في الأحاديث اليومية بغرض الذم أو المدح، والتي تنطلق بالطبع من استخدام الأعضاء أو الأفعال الجنسية كأساس لها. حيث رأى الرأي العام النسوي، أو على الأقل من تبنوا تلك القضية، أن تلك الألفاظ تضمر تحقيرًا للمرأة وانتقاصًا من مكانتها.
وتجلت تلك الموجة في الهجوم الذي اندلع منذ سنة أو سنتين ربما عبر منصات التواصل الاجتماعي على الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم»، حيث وصف بأنه يستخدم مفردات تحوي كراهية واحتقارًا للنساء.
ربما استخدم «نجم» مفردات يمكن تفسيرها على أنها تحمل احتقارًا للمرأة وفق معايير الخطاب الليبرالي الحديث حقًا، ولكن هل تعمد «نجم» استخدام تلك المفردات بغرض احتقار النساء؟ ذلك هو السؤال الذي يجب الإجابة عنه قبل أي شيء.
يروى عن الناقد الأدبي والصحفي «رجاء النقاش» أنه بينما كان يتجول في شوارع القاهرة داخل سيارة أجرة رأى صديقه الشاعر «نجيب سرور»، الذي اشتهر بمعارضته العنيفة لنظام «جمال عبد الناصر» وبالطبع بقصيدته الشهيرة التي أُطلق عليها ترميزًا «الأميات»، يتجول بجلباب رثّ ويمسك في يده عصا مقشّة ويتحدث إلى نفسه، فانزعج «النقاش» بشدة وطلب من السائق التوقف قبل أن يسحب صديقه داخل السيارة عنوة.
وبعد حديث قصير، سأل «سرور» عن أحوال «صلاح جاهين» والذي كان أكثر نجاحًا وشهرة منه بكثير، كما كان داعمًا لنظام «ناصر»، أجابه «النقاش» قائلًا إنه مكتئب للغاية بعد نكسة 1967 ثم وفاة «ناصر» بعدها بثلاثة أعوام، فرد «سرور» بصوت ساخر: لذلك أن أتجول على هذا الحال وأجر ذيول الهزيمة من روسيا إلى المجر إلى مصر. في إشارة إلى وضع «جاهين» الجيد في منظومة السلطة مقارنة بوضع «سرور» الذي اُعتقل وفرّ خارج مصر هربًا من الملاحقات الأمنية.
بالطبع لا يمكن مقارنة مفردات «نجم» محل الاتهام بنظيراتها عند «سرور»، حيث بنيت قصيدة «الأميات» الشهيرة أساسًا على الألفاظ البذيئة الفجة، والتي كان غرضها الأساسي صب كاسات الغضب والسخط نتيجة الأوضاع السياسية المتردية لمصر حينها، فضلًا عن الحياة الشخصية لـ «سرور» التي لم تخلُ من المعاناة واليأس.
يجادل «جيجك» في تلك القضية بأنه لا يمكن محاكمة متهم بأثر رجعي، حيث تنطوي المحاكمات من هذا النوع على تناقض أخلاقي مستندًا على ما قاله الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» في كتابه «مشروع للسلام الدائم».
يقول «كانط» في كتابه إن الأحكام الأخلاقية تتغير بتغير الوضع الاجتماعي والسياسي، فمثلًا، إذا أشعل مجموعة من المتمردين ثورة ضد حاكم مستبد وانتهت بفشل الثورة فسيحاكم المتمردين بصفتهم مخربين وأعداء للدولة، أما إذا نجحت فسرعان ما سيتحول المتمردون أنفسهم إلى مناضلين في سبيل الحرية والعدالة.
هكذا يخبرنا «جيجك» بأن الدوافع هي المعيار الذي يجب أن تقيم على أساسه الأفعال، فعندما يستخدم شاعر مفردات بذيئة تحمل إيحاءات جنسية، لا يمكن فصلها عن سياقها السياسي والاجتماعي، والأهم لا يمكن تجاهل دوافعها، والتي هي في حالة «نجم» أو «سرور» مثلًا تعد دوافع مقبولة إلى حد كبير.
أمّا اجتزاء المفردات من جميع سياقاتها والتركيز فقط على أبعادها الثقافية والخطابية لا يعبر إلا عن آفة عميقة من آفات الليبرالية الحديثة وابنتها الشرعية الصوابية السياسية، التي انشغلت بالقشور متجاهلة عمق القضايا وأبعادها الحيوية.