لماذا ﻻ تفوز الأفلام الكوميدية بالأوسكار؟
يأتي موسم الجوائز في بداية كل عام مكللاً بالذهب ما تميز من أفلام العام المنصرم. وتأتي جوائز الأوسكار لتكون حفلة التتويج الكبرى التي يترقبها كل صناع الأفلام –بمختلف أدوارهم في عملية الصناعة– بمزيج من الحماس والترقب، فالأوسكار في رأي جل الصناع والجماهير هي أم الجوائز ومسك ختامها كونها الجائزة الأعرق والأشهر والأكثر قيمة.
ولا يخفى على أي متابع لجوائز الأوسكار أن للأفلام الدرامية نصيب الأسد من الفوز والتقدير في مختلف فئات الجائزة الكبرى، سواء كانت في الكتابة أو التمثيل أو الإخراج …إلخ. وهذا لا يقتصر على الأفلام الدرامية بشكلها التقليدي ولكن يشمل أيضًا أفلام السير الذاتية، والملحميات التاريخية، والفانتازيا …إلخ، طالما أن العمل جاد وبعيد عن الهزل. ولكن لماذا تهمش الأوسكار الأفلام الهزلية والكوميدية بصورة صارخة لدرجة أنه من أصل 90 فيلمًا فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم، كان هناك 7 أفلام كوميدية فقط؟
النجاح ﻻ يشفع للكوميديا
قد يتصور غير المتابع لعالم السينما أن غياب أفلام الكوميديا عن منصة التتويج في الأوسكار سببه الضعف العام لأفلام الكوميديا مقارنة بنظرائها من أفلام الدراما، إلا أن هناك أمثلة عديدة على أفلام كوميدية حظيت بإشادة واسعة من قبل نقاد السينما، وحققت أرباحًا طائلة في شباك التذاكر، ولكن ذلك لم يمنع أن تهمش مثل تلك الأفلام الناجحة من قبل أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة المسؤولة عن ترشيحات الأوسكار، لصالح أفلام درامية لم تنل نفس الإشادة وحققت أرباحًا أقل.
وهنا نذكر مثالين بارزين من تاريخ الأوسكار على تهميشها للأفلام الكوميدية الناجحة:
«طائرة! Airplane!»
فيلم اعتبره كثير من النقاد نقلة نوعية في نمط أفلام الكوميديا؛ لنجاحه المبهر في الجمع بين أنماط أفلام السخرية وأفلام الكوارث. الفيلم الذي يناقش بأسلوب ساخر الأحوال النفسية للجنود الأمريكيين بعد عودتهم من الحرب وما يصيبهم من اضطرابات نفسية تعيقهم عن العودة للحياة الطبيعية، لاقى إشادة واسعة من كبار النقاد كما بلغت أرباحه ما يزيد عن 130 مليون دولار. إلا أن كل هذا النجاح لم يشفع للفيلم في ترشيحات الأوسكار، فلم يحز فيلم «طائرة!» على أي ترشيح في أي من فئات الجائزة.
«الإشبينات Bridesmaids»
كان بمثابة انطلاقة ونجاح غير مسبوقين في الكوميديا المتمحورة حول شخصيات نسائية. الفيلم الذي لاقى رواجًا شديدًا بين النقاد وعامة الجماهير سواء،حقق نجاحًا هائلاً في شباك التذاكر – بالنظر إلى أن جل أبطاله لم يكن لهم ظهور بارز في هوليوود– لتقترب عائداته من 300 مليون دولار. ولكن نجاح «الإشبينات» المبهر لم يكن كافيًا لإقناع الأوسكار بوقف تعنتها تجاه الكوميديا. إلا أن حظ «الإشبينات» كان أوفر من حظ «طائرة!»، حيث حصل الفيلم على ترشيحين في فئة أفضل سيناريو وفئة أفضل ممثلة في دور مساعد، وسط استنكار واسع من قبل صناع السينما والنقاد وعموم الجماهير الذين وجدوا في عدم ترشيح الفيلم لفئة أفضل فيلم ظلمًا صارخًا يشكك في نزاهة الأكاديمية والأوسكار.
الأوسكار يهمش والجولدن جلوب تنصف
ولا يختزل المثالان المذكوران مدى تهميش الكوميديا في فئات الأوسكار المختلفة وخاصة في فئة أفضل فيلم. وفي ظل هذا الاحتقان الشديد من الأوسكار، ازدادت شعبية جوائز «جولدن جلوب» التي تعتبر ثاني أقيم وأشهر الجوائز في مجال الترفيه بعد الأوسكار. وقد ساعدت الجولدن جلوب في إنصاف الكوميديا الناجحة كونها تقسم فئات جوائزها الكبرى بين الدراما والكوميديا؛ أي أن لأفلام الكوميديا نصيبًا محفوظًا في جوائز الجولدن جلوب.
والفارق الجوهري بين الأوسكار والجولدن جلوب هو أن الأكاديمية المسؤولة عن ترشيحات الأوسكار يزيد عدد أعضائها عن 7 آلاف عضو من كبار الممثلين والمخرجين والملحنين ومهندسي الصوت …إلخ،يحق لهم جميعًا التصويت. أما الجولدن جلوب فيقتصر من لهم حق التصويت فيها على أعضاء رابطة هوليوود للصحافة الأجنبية التي لا يزيد عدد أعضائها عن المئة عضو من الصحفيين المتخصصين في مجال صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية، المعتمدين من جمعية الفيلم الأمريكي.
ونظرًا لكون الجائزتين، الأوسكار والجولدن جلوب، تكرمان أفضل ما عُرض على الشاشة الكبيرة، فإنه يكون من العجيب أن يفوز فيلم أو دور كوميدي في الجولدن جلوب، ثم لا يحصل حتى على ترشيح في فئات الأوسكار، لتستمر المفارقة بين إشادة النقاد والمحكمين للأفلام الكوميدية الناجحة، وبين تهميش الأوسكار لنفس الأفلام.
وهنا نستعرض بعض المفارقات بين أفلام وأدوار كوميدية فازت في فئات الجولدن جلوب ولكن لم تترشح للأوسكار:
فيلم «The Hangover»
فيلم كوميدي مليء بالهزل والفكاهة، تدور أحداثه حول ثلاثة شبان في مهمة البحث عن صديقهم الذي فقدوه بعد حفلة توديع عزوبية طائشة في لاس فيجاس. الفيلم الذي بلغت عائداته النصف مليار دولار، استطاع أن يحصد جائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم كوميدي، ولكن لم يحتفى به بنفس القدر من قبل الأوسكار التي حرمته من أن يرشح في أي من فئاتها.
جيمس فرانكو في «الفنان الكارثة The Disaster Artist»
أبهر جميس فرانكو جمهور النقاد والمشاهدين من خلال تقمصه الرائع لشخصية تومي وايسو المبهمة، منتج ومخرج ومؤلف وبطل فيلم «الغرفة The Room» الذي يصنف على أنه أشهر أسوأ فيلم في تاريخ السينما الحديث، وتدور أحداث فيلم «الفنان الكارثة» خلال عمله في فيلمه الشهير والوحيد. وكانت ثمرة أداء فرانكو المميز أن كانت جائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل في دور كوميدي من نصيبه، ولكن الأوسكار تجاهلته ليكون مثله مثل سابقيه.
جيم كاري في «عرض ترومان The Truman Show»
جيم كاري أحد أشهر من يضرب بهم المثل في تجاهل الأوسكار للكوميديين بغض النظر عن طبيعة أدوارهم. جيم كاري فاز بجائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل في دور درامي لدوره في فيلم «عرض ترومان The Truman Show»، ثم عاد ليفوز في السنة التالية بجائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل في دور كوميدي لدوره في فيلم «رجل على القمر Man on the Moon» بالإضافة إلى ترشحه أربع مرات أخرى في نفس الفئة.
ومع كل هذا النجاح في أدواره التي أسرت قلوب ملايين المشاهدين على مر السنين، إلا أن أيًا من أدواره فشلت في استعطاف واسترضاء الأوسكار فكان دائمًا ما يعود بخفي حنين يوم إعلان المرشحين، حتى صار الأمر مثارًا للسخرية خاض فيها جيم كاري نفسه حين طُلب منه تقديم إحدى جوائز الأوسكار في نفس العام الذي تجاهلته الأوسكار لدوره في «عرض ترومان» عام ١٩٩٩، ثم بعدها بخمسة عشر عامًا عام ٢٠١٤ في سياق مشابه.
الأوسكار في برجها العاجي
ومن ثم يبقى السؤال هو: ما سبب هذا التهميش الصارخ من قبل الأوسكار لأفلام الكوميديا؟ مما لا شك فيه أن لجوائز الأوسكار رونقًا متميزًا ورفيعًا يميزها عن سائر جوائز مجال الترفيه ويجعلها قرة عين كل من له علاقة بصناعة الأفلام من مخرجين وممثلين ومنتجين… إلخ، ولكن الواقع يحكي عن تناقص مستمر في أعداد مشاهدي الأوسكار عامًا بعد عام، فالأوسكار صارت لكثير من عامة جمهور الأفلام وخاصة الشباب، حفلة عرضية يكرم فيها المشاهير بعضهم البعض بعيدًا عن واقع مجال الترفيه وعن والواقع نفسه بشكل عام.
ومع ابتعاد الأوسكار عن واقع مجال الترفيه شيئًا فشيئًا، أصبحت وكأنها لا ترشح سوى نوعية معينة من الأفلام الدرامية التي يمكن وصفها بأنها «أفلام النخبة» التي لا تتسم بالضرورة بأنها ميالة إلى الكوميديا بهزلها وصخبها. وربما تكون تلك الأفلام الدرامية بالفعل أفلامًا جيدة، ولكنها قد تتسم بشيء من الرتابة أو تناقش أمورًا وقضايا بعيدة عن اهتمامات عامة الناس مما يعزز فكرة أنها للنخبة.
ولكن فوق هذا، تبقى النظرة الدونية لأفلام الكوميديا أنها سهلة وبسيطة وأقرب إلى السذاجة، هي التي تحول بشكل رئيسي بينها وبين الترشح لأي من فئات الأوسكار، فالعمل الكوميدي من أول وهلة يمكن أن يبدو بسيطًا من حيث الكتابة والتمثيل والإخراج، ولا يتطلب نفس العمق والمجهود المبذولين في أفلام الدراما، كما أن عائداته قد لا تدر أرباحًا كأرباح الدراما نظرًا لبساطته.
ولكن هذا التصور يجانبه الصواب، أولاً لأن عالم الكوميديا يختلف كثيرًا عن عالم الدراما مما يعني أن عوامل التميز تختلف بينهما؛ أي أن ما يميز فيلمًا دراميًا ربما لا يصلح أن يستخدم لإخراج فيلم كوميدي مميز، والعكس صحيح. كما أن النظرة التقليدية السطحية للكوميديا لا ترى في الهزل أي سبيل لمناقشة القضايا الجادة كالطبقية أو العنصرية… إلخ، ولكن الأمثلة المذكورة وغيرها من أفلام الكوميديا كانت من الإبداع والابتكار أن استطاعت أن تجمع بين مناقشة مثل تلك القضايا المركبة، وبين إدخال البهجة على نفوس المشاهدين وإضحاكهم حتى البكاء.
وتطرح هذه القضية إشكالية أكبر وهي مدى شمولية معايير الأوسكار التي دائمًا ما تميل إلى أفلام الدراما على حساب الكوميديا، فمعايير الأكاديمية يفترض أنها أسمى من الخوض في أنواع الأفلام، وإنما تقوم بتقييم المادة الفنية بمعايير شاملة تتعدى تفاصيل كل فيلم. ولكن في هذا ظلم لعموم الأفلام التي كما ذكرنا تختلف في سبلها لتحقيق النجاح نظرًا لاختلاف أنواع الأفلام في أساليبها وأنماطها السينمائية. ومن هنا يتعزز مفهوم أن سبيل النجاح والإبداع لا يقتصر على مسلك واحد، وإنما تتعدد مسالكه بتعدد عقول صناع السينما المبدعين الذين بمقدورهم مناقشة أكثر القضايا تعقيدًا حتى من خلال النكتة والسخرية.