أطلق المنتدى الاقتصادي العالمي تقريره عن التنافسية في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. جاء ترتيب مصر في التقرير متدنيًا كالعادة. لم تبرح مصر مكانها على مدار السنوات الثلاث الماضية برغم ما تسميه الحكومة بالإصلاح الاقتصادي، والذي كان من المفترض أن يؤدي إلى تحسين قدرة مصر التنافسية.

وعلى الرغم من الإغراءات الهائلة التي قدمتها الحكومة المصرية لاجتذاب المستثمرين الأجانب، إلا أن هذه المساعي ذهبت أدراج الرياح على أرض الواقع.

نظرية المؤامرة

حلت مصر في المرتبة 93 من بين 141 دولة شملهم التقرير في 2019، مقارنة بـالمرتبة 94 من 140 دولة في 2018. لسنوات طويلة، برر المسئولون الحكوميون ذلك الجمود بأن هذه النتائج لا تعكس التنافسية الحقيقية للاقتصاد المصري، كونها مبنية على استطلاع رأي مجتمع الأعمال في كل دولة، ومن ثم تظل نتائج التقرير غير موضوعية، مجرد مؤشرات تعكس آراء قد تكون متحيزة.

إلا أن ذلك مردود عليه، من ناحية تبقى منهجية التقرير سليمة ويعتد بها ما دامت تطبق بنفس الطريقة على جميع الدول المشاركة، المهم هنا ضمان الاتساق وإن اعتمد الاستبيان على الآراء.

من ناحية أخرى، فقد عدل المنتدى الاقتصادي العالمي منهجية التقرير بداية من 2018 ليصبح الوزن الفعلي للاستبيان 25 بالمائة فقط، أما الـ 75 بالمائة المتبقية من البيانات فهي مؤشرات اقتصادية يتم الحصول عليها من مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ومع ذلك لم يتحسن ترتيب الاقتصاد المصري.

في ذيل القائمة

هذا على الصعيد العالمي، أما مقارنة بجيراننا في المنطقة، فقد حلت مصر في المرتبة الثالثة من الخلف وقد سبقتها تقريبًا جميع الدول العربية الداخلة في التصنيف.

إذا نظرنا على نحو أعمق في تفاصيل التقرير، وجدناه يتكون من 12 ركيزة أساسية وهي المؤسسات، البنية التحتية، تبني تكنولوجيا المعلومات استقرار الاقتصاد الكلي، الصحة، التعليم والمهارات، أسواق المنتجات، سوق العمل، النظام المالي حجم السوق، ديناميكية الأعمال، القدرة على الابتكار.

وقد كان وضع مصر في جميع هذه المؤشرات دون متوسط الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بخلاف كل من البنية التحتية وحجم السوق.

يأتي ذلك التحسن في ترتيب مصر في ركيزة البنية التحتية نتيجة توسع الدولة في تشييد الطرق وبناء الكباري والمدن الجديدة بشكل غير مسبوق في مصر، وهو ما أدى على ناحية أخرى إلى تشويه سوق الاستثمار ومنافسة المستثمرين بشكل غير عادي وجذب مدخرات المصريين بعيدًا عن القطاعات الإنتاجية.

أما فيما يتعلق بحجم السوق، فهو تحسن قوامه الزيادة السكانية المتسارعة في مصر، وهي ميزة بالفعل يسيل لها لعاب المستثمرين، سوق قوامه 100 مليون مشتري.

إلا أن هذه الميزة لم تترجم في شكل استثمارات فعلية على أرض الواقع نتيجة تراجع جودة رأس المال البشري في مصر من ناحية، ولضعف القوة الشرائية للمصريين متأثرة بالإصلاح الاقتصادي من ناحية أخرى، ما هي القوة الشرائية الفعلية لـ 100 مليون مشتري ثلثهم فقراء، ومعظم البقية يكافحون للبقاء؟

استقرار الاقتصاد المصري في المستقبل

الأمر المثير واللافت للنظر هو تدهور ترتيب مصر في ركيزة الاستقرار الاقتصادي الكلي في 2017 و2018 و2019، بالرغم من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، والذي يستهدف في المقام الأول ضبط مؤشرات الاقتصاد الكلي وضمان استقرارها.

ويرجع ذلك وفقًا للتقرير إلى ارتفاع كل من معدل التضخم والدين العام اللذين حلت مصر فيهما في المرتبة 136 و114 من بين دول العالم التي شملها التقرير.

هذا بالرغم من تأكيد الحكومة ليل نهار على أن الدين العام يعد في الحدود الآمنة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن المستثمر لا تعنيه تطمينات الحكومة وتصريحاتها، بقدر ما يعنيه قدرة الحكومة المصرية على الالتزام بسداد هذا الدين في مواعيده المتفق عليها.

يقارن المستثمرون بين حجم الدين وبين موارد الدولة ونشاطها الاقتصادي كمؤشر كاشف عن مدى هشاشة المالية العامة، والتأثير المتوقع لذلك كله على الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الدولة في المستقبل.

الجانب الآخر الجدير بالاعتبار هو تركيز التقرير بداية من العام 2018 على تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها، كأحد أهم محددات الإنتاجية ومن ثم التنافسية في الوقت الراهن والمستقبل، وهنا نجد أن الحكومة المصرية تتخذ خطوات بطيئة للغاية في هذا الصدد.

تحاول الدولة جاهدة في الوقت الحالي بناء قواعد معلومات لربط الجهات الحكومية ببعضها البعض، إلا أن التحول الرقمي بمعناه الصحيح يظل غائبًا عن الدولة المصرية في الوقت الحالي، لغياب منظومة كاملة وشاملة ومترابطة من الإجراءات الإصلاحية، فكل وزارة تعمل في جزيرة منعزلة عن الأخرى.

للتدليل على ذلك نضرب مثالًا بسيطًا: تُصرف مرتبات العاملين بالحكومة والقطاع الخاص من خلال البنوك، كخطوة لتعزيز الشمول المالي والتحول الرقمي.

إلا أن الحاصل هو أن الموظف يذهب إلى ماكينة الصراف الآلي لسحب مرتبه والتعامل به نقدًا، وكأن تغييرًا لم يحدث. أمور كضعف البنية التحتية التكنولوجية، وارتفاع معدلات الأمية، وعدم القدرة على التفرقة بين التحول الرقمي ومجرد أتمتة البيروقراطية المصرية بنقلها من الأوراق إلى أجهزة الكمبيوتر بمشاكلها المزمنة، هي عوائق أساسية لن نتقدم دون مواجهتها.

فخ الدخل المتوسط

أخيرًا، نود التأكيد أن تعريف التنافسية الذي يتبناه المنتدى الاقتصادي العالمي هو مدى قدرة الدولة على الإنتاج لتحسين حياة ورفاهية المواطنين، وجميع الركائز الواردة بالتقرير ليست هدفًا في ذاتها، ولكنها مجرد عوامل مساعدة فقط لا غير لرفع مستويات المعيشة.

في هذا الصدد يشير البنك الدولي  إلى وقوع مصر في فخ الدخل المتوسط منذ أربعة عقود تقريبًا، ولا يعني ذلك ثبات مستوى دخول المصريين عند حد معين، فقد يتحسن إجمالي الدخل أو يبقى على حاله في الوقت الذي تزداد فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل المجتمع، وهو الحادث في مصر بالفعل في الوقت الحالي.

يرجع وقوع مصر في فخ الدخل المتوسط على مدار الأربعة عقود الماضية بشكل أساسي إلى ضعف الحراك الاجتماعي، الذي اكتسب زخمًا شديدًا خلال الفترة من 1940 – 1980 ثم أخذ في التراجع منذ الثمانينيات حتى الآن، معبرًا عنه بقدرة الأفراد على الوصول إلى مستوى تعليمي ووظيفي عالٍ، على الرغم من تواضع تعليم آبائهم ومكانتهم الاجتماعية.

وجد البنك الدولي في تقرير آخر، أن 10% فقط من أبناء الحاصلين على تعليم متوسط في مصر استطاعوا أن يحصلوا على تعليم عالٍ، كما وجد أن هذا التراجع في الحراك الاجتماعي مقترن اقترانًا وثيقًا بضعف معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وسوء توزيع الدخل والثروة.

حصول أحد الأفراد على ضعف دخل فرد آخر في مصر، يعني أن ابن الأول سيحصل على دخل يزيد بـ 90% عن دخل ابن الفرد الثاني، وهذا بالضبط ما يحدث في الدول الواقعة في فخ الدخل المتوسط، توريث الفقر والغنى على نحو متزايد.

هل من حل ممكن؟

يتفق البنك الدولي مع المنتدى الاقتصادي العالمي، في ضرورة التخلي عن المسار التقليدي للتنمية وخلق اقتصاد رقمي أكثر تطوُّرًا، يستفيد بما تتمتع به الدولة من الأيدي العاملة من الشباب المتعلمين.

يستلزم ذلك الحل التوسع في دعم التعليم وتحسينه، وإتاحة تعليم ذي جودة مرتفعة لجميع المواطنين بغض النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروة آبائهم ومكانتهم.

وما لم يتم اتباع ذلك فستظل مصر واقعة في شباك فخ الدخل المتوسط، وسيبقى ترتيبها في مؤشر التنافسية العالمية متأخرًا كما هو عليه، رغم كل مساعيها والإغراءات التي تقدمها للمستثمرين.