لماذا لا يحب المصريون الثورة العرابية؟
هل أتاكم حديث أحمد عرابي بعد أن عاد من منفاه، وقبل أن يموت بشهور حيث كان خارجًا من مسجد الحسين بالقاهرة عقب صلاة العشاء في إحدى ليالي رمضان، فإذا بشاب يبصق في وجهه صائحًا: «يا خائن»!
هل أتاكم حديثه وهو يجلس على المقهى في أواخر عمره يدخن النرجيلة «الشيشة» وحيدًا، البعض لا يعرفه أصلاً، بينما الأغلبية تسخر منه بنظرة عين أو بضحكة خلف شارب كث غارق في كوب من الشاي أو قدح من «البوظة»، أما من يمارسون أضعف الإيمان هم هؤلاء الذين يشفقون عليه، فلا يخلو لغوهم من نبرة تعاطف مكتوم، يتناثر إثرها حديثهم في الأسواق، مختلطًا مع أصوات الباعة وشجارات المختلفين على أسعار السلع، فتضيع في الهواء سيرة عرابي أو «هوجة عرابي» كما ود كثيرون أن يصفوها.
نقطة مهمة انطلق منها المؤرخ الراحل صلاح عيسى عندما كان يدرس «الثورة العرابية» في مؤلفه الضخم، هي تلك النظرة السلبية التي يرى بها المصريون هذا الحدث، الذي تعرض لعديد من الأحكام التاريخية القاسية، تراوحت بين الاتهام الصريح والمباشر بالخيانة والتفريط المساوي لها، ويزيد من هذا الموقف غير الودي الذي أخذته الحلقات التالية من الحركة الوطنية المصرية ومن آخرين وصولاً حتى إلى إعلاميي زمننا هذا، من الثورة العرابية، حيث وصل هذا الموقف إلى حد وصفها تشويهًا بالمسخ.
الظرف الذي وضع عيسى فيه الأطر النظرية لدراسة الثورة العرابية كان ظرف بالغ الدلالة. هو يقول إنه بدأ العمل فيها خلال الشهور الأخيرة من سنة 1967، أي بعد نكسة يونيو بأشهر قليلة. وقتها كان الجميع مصدومًا من الهزيمة الكبيرة، وكان صلاح عيسى نفسه مطاردًا يحمل همومه الشخصية والوطنية في كل مكان، ربما ذكرته الأيام التي عاشها بعد الهزيمة بما عاشه الأجداد في زمن هزيمة جيش عرابي من الاحتلال الإنجليزي، في 1882.
أراد عيسى في دراسته أن يكون موضوعيًا، لا يغفل رأيًا على حساب آخر، ولا يهمل كلمة قالها مؤرخو ومعاصرو الحدث الكبير، وذلك لسبب واحد وأكيد، وهو الوصول إلى إجابة واضحة لسؤال: «لماذا يكره المصريون الثورة العرابية؟».
لا شك أن الأسئلة التي دارت في ذهن صلاح عيسى وقت كتابته لدراسته المهولة، هي نفسها تلك الأسئلة التي تدور في ذهنك عزيزي القارئ الآن، والتي نستطيع أن نجملها في الآتي: هل تأثر المصريون بالنظرة السلبية التي روجت لها دولة أبناء وأحفاد محمد علي (التركية) للثورة العرابية؟ هل كان أحمد عرابي خائنًا فعلًا؟ لو كان عرابي وطنيًا، لماذا كرهته الحركات الوطنية المصرية التي أتت فيما بعد؟ هل الدفاع عن عرابي (ظالمًا أم مظلومًا) يحفظ للنضال الشعبي وجهه المشرق؟
ولكن السؤال الأهم الذي واجهه عيسى نفسه وقت كتابته لأطروحة الدراسة، ونشرها في جريدة «المساء» المصرية سنة 1970، هي لماذا اتهمته النخبة السياسية حينها بالتعاطف مع أحمد عرابي؟ وكأن ذلك لا يستقيم مع حملة الكراهية الشديدة تجاه الرجل، وحتى بعد نحو 90 عامًا من الثورة العرابية.
منهج مختلف للتعامل مع «عرابي»
يجيد صلاح عيسى مسألة إعادة كتابة التاريخ القومي، خصوصًا في أزمات المناخ غير الصحي الذي ساد الحياة الفكرية المصرية في كثير من فترات التاريخ، وتحديدًا في فترات التغير في الأنظمة، أو مع بروز قوى اجتماعية جديدة، وهنا يحدد عيسى ثلاث مدارس للتعامل مع قضية تاريخية.
الأولى منها، مدرسة «الرؤية الاستعمارية» للواقع المصري، وهي رؤية نجدها في كثير من آراء النخبة السياسية والفكرية المصرية لأحد الموضوعات، فنجد مثلاً أنها تجعل من بعض المناضلين، مجرمين أشقياء، وهذه المدرسة مثلاً كانت تكره الحركات الشعبية التي تواجه الاستعمار، وتسعى إلى تشويهها، ومن بينها ولا شك ما فعله عرابي ورفاقه.
المدرسة الثانية، مدرسة صنعها مفكرو «البرجوازية المصرية» وكان يمثلها في مصر منتصف القرن الماضي، المؤرخ عبدالرحمن الرافعي، وهي المدرسة التي عظمت جدًا من دور الفرد، وبالغت في تمجيده، ومن هنا كان الامتنان واضحًا لمصطفى كامل وسعد زغلول، وصولاً إلى جمال عبدالناصر، وحتى عندما تناول الثورة العرابية، تحدث عن دور أحمد عرابي دون النظر إلى الحركة أو الثورة بشكل عام. في حين كانت المدرسة الثالثة وهي التي اتخذت «النظرة الاشتراكية» منهجًا لها، ركزت أكثر على التأريخ العام، دون الوقوف عند الظواهر التاريخية النوعية.
يؤمن عيسى، وكثيرون معه، أن الأجيال التي تعاقبت بعد ثورة يوليو 1952، لم تقرأ التاريخ الوطني على حقيقته نتيجة تداخل هذه المدارس، والتي يقع عليها مسؤولية ظهور صور الأبطال المصريين بشكل تائه مشوه، وراءها كثير من سحب الشك والغموض، على حساب هالات تمجيد على بعض الذين خانوا الكفاح الوطني.
«نظرة كرومر» للثورة العرابية
هل تصدق يا عزيزي القارئ أن نظرة «اللورد كرومر» أشهر معتمد بريطاني في مصر أثناء الحقبة الاستعمارية الإنجليزية، للثورة العرابية، هي التي يصدقها المصريون حتى وقتنا هذا؟
لقد استقصى عيسى جيدًا من خلال قراءاته المتعددة للكتب والدراسات ومحاضر التحقيق التي أرخت للثورة العرابية كل الآراء الخاصة بها، ولكن ما كتبه كرومر في كتابه «مصر الحديثة» مثّل وجهة النظر المعتمدة عن الحدث عند عموم المصريين.
لقد دفع كرومر نحو تلك النظرة السلبية للثورة العرابية برفق وذكاء شديدين، إذ رأى أنها أكبر فتنة عسكرية وسياسية في تاريخ مصر، وهي النظرة التي آمن بها، بل وروج لها كثير من المؤرخين المستشرقين والوطنيين على السواء.
وما يزيد من تراجيديا الثورة العرابية، أن بعض المشاركين فيها لهم أيضًا نفس الموقف السلبي منها، فالكثرة منهم ينتهون إلى إدانتها، وذلك في محاضر التحقيق المثبتة لقادتها والتي لجأ إليها صلاح عيسى. مثلاً محمود فهمي باشا، أحد زعماء الثورة، قال إنها «ثورة مشؤومة، وإن هناك أحوالًا كانت في قلب عرابي مكتومة، لم تظهر حقائقها إلا بعد النفي إلى جزيرة سيلان». كذلك هاجمها محمود سامي البارودي، شاعر الثورة نفسها، في شعره، بينما تبرأ منها الإمام محمد عبده، وانطلق تلاميذه كالوحوش الكاسرة يهاجمون كل من يقول باشتراكه فيها.
حقائق ضرورية
بطريقته الرائعة في الحكي عدّد صلاح عيسى في كتابه «الثورة العرابية» أسباب الاحتلال البريطاني لمصر، فالأرض كانت ممهدة تمامًا للمستعمر؛ قروض لا حد لها، وصلت إلى 68.5 مليون جنيه في سنة 1873، شركات أجنبية عاملة في السوق المصري قدرت بـ78 شركة، برأس مال مدفوع وسندات قيمتها نحو 21 مليون جنيه، وهو مبلغ جُلب بأكمله من الخارج. ولما كانت الدول الأجنبية وتحديدًا بريطانيا وفرنسا تسعى إلى حماية كل هذه الأموال فقد أنشأت «صندوق الدين» في مايو 1876، برقيبين: واحد إنجليزي والآخر فرنسي، وكان هذا الصندوق بمثابة حكومة أجنبية مطلقة تتصرف في مصر كما تشاء، تتحصل على إيرادات وتوردها، تضع النظم الضريبية، تراقب الأموال الداخلة والخارجة، وغيرها من الأمور.
الاحتلال كان سِلميًا للغاية حتى هذا الوقت، أخذ من الديون والقروض والاحتكارات المتعددة في جميع القطاعات، بخاصة الاقتصادي منها، ذريعة للتحكم في مصر، حتى السلطة القضائية لم تسلم من قبضة الاستعمار، حيث أنشأوا محاكم قنصلية، تقوم هي بمحاسبة الأجانب الموجودين في المحروسة، ومن دون أن يُعرضوا على «المحاكم المصرية»، ولكن في سنة 1879 حاولت الدولة المصرية أن تسترد بعضًا من هيبتها المفقودة، فأنشأت «المحاكم المختلطة» كإجراء أولي لمحاكمة الأجانب المرتكبين للجرائم أمامها، كما أصدر الخديوي إسماعيل مرسومًا بتسوية الدين المصري في أبريل من نفس السنة، وقبل شهرين تقريبًا عن رحيله عن الحكم، وهذا ما اعتبرته الدول الأجنبية تجاوزًا من الحكومة المصرية.
الغريب أنك إذا بحثت مثلًا في معظم المصادر العربية عن أسباب رحيل إسماعيل، ستجد السبب الأول هو نزعته الاستقلالية في حكم مصر، وكأن تلك النزعة عيب خصوصًا ما رافقها من محاولات إصلاح فيما يتعلق بالديون والقروض.
على أي حال، بالتأكيد ضغطت الدول الأوروبية على السلطان العثماني، وجعلته يصدر فرماناً بعزل الخديوي إسماعيل في 26 يونيو 1879، وجاء نص الفرمان: «إلى سمو إسماعيل باشا خديوي مصر السابق، إن الصعوبات الداخلية والخارجية التي وقعت، أخيرًا، في مصر قد بلغت من خطورة الشأن حدًا يؤدي استمراره إلى إثارة المشكلات والمخاطر لمصر والسلطنة العثمانية، ولما كان الباب العالي يرى أن توفير أسباب الراحة والطمأنينة للأهالي من أهم واجباته ومما يقضيه الفرمان الذي خولكم حكم مصر، ولما تبين أن بقاءكم في الحكم يزيد المصاعب الحالية، فقد أصدر جلالة السلطان إرادته بناء على قرار مجلس الوزراء بإسناد منصب الخديوية المصرية إلى صاحب السمو الأمير توفيق باشا، وأرسلت الإرادة السنية في تلغراف آخر إلى سموه بتنصيبه خديوياً لمصر، وعليه أدعو سموكم عند تسلمكم هذه الرسالة إلى التخلي عن حكم مصر احترامًا للفرمان السلطاني».
سافر إسماعيل بعد ثلاثة أيام إلى نابولي بإيطاليا، ثم انتقل بعدها للإقامة في الأستانة، وتولى توفيق الحكم، وهنا ظهرت الأطماع بشدة، وظهر ضعف توفيق، الذي أدى إلى فعليًا إلى انقسام في الجيش المصري، بين الضباط الجراكسة الأتراك، والضباط المصريين، وهي المسألة التي ركز صلاح عيسى عليها، كأحد أبرز الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة العرابية، وهي وقوف النزعة القومية المصرية أمام النزعة القومية التركية.
وبغض النظر عما حدث أثناء الثورة، والتهويل والتضخيم في بعض الأحداث التي ذكرت في الكتب المؤرخة للثورة، على سبيل دعم وجهة النظر القومية، أو التهوين من أحداث أخرى، إلا أن عرابي باشا من وجهة نظر صلاح عيسى نجح في صنع «نصف ثورة»، هنا غلبت المدرسة الاشتراكية الواقعية على تحليلاته ونظرته إلى واقع الأشياء، وهي نظرة إذا أتممت قراءة كتاب «الثورة العرابية»، إضافة إلى ما كُتب في هذا الشأن من «مذكرات عرابي» نفسه، وكذلك تاريخ الرافعي وما كتبه اللورد كرومر، ستجدها صحيحة، لقد نجح عرابي في تحقيق أهدافه على مستوى قريب، ولكنه فشل على المستوى البعيد.
على المستوى القريب والمعلن (ودون النظر إلى خبايا النفوس التي روج لها البعض إن صحت) فإن عرابي كان يستهدف فعلاً أن تكون مكونات الجيش مصرية خالصة، وأن تكون الحكومة وطنية، وأن تنشأ حركة إصلاح كبرى في المجتمع مع تعيين وزارة وطنية يكون همها هو كيفية وقف الزحف الاستعماري «السلس» إلى مصر، والدليل على صحة نجاح الثورة هو تحول دفة القوى الاستعمارية الكبرى من رغبتها في احتلال سلمي سلس، إلى احتلال عسكري بالقوة حدث في 1882، بعد ملابسات عديدة تخللها قصف الإسكندرية، وعمل الخديوي توفيق بشكل واضح ومعلن مع الإنجليز ضد مصر، حتى ولو كان ذلك لحين.
انتهت الثورة أو «الهوجة» كما سماها البعض- تقليلاً منها واحتقارا لها- بهزيمة عرابي ونفيه، ولكن عيسى يلفت نظر القارئ إلى أمر مهم للغاية وهو طبيعة الجيش المصري آنذاك، الذي انحاز بالفعل إلى وجهة النظر القومية المصرية ضد القادة الأتراك الذين كانوا يحكمون البلد، أو القادة الجدد الأوروبيين الذي كانوا يتحكمون في البلد. تحول الجيش وقوامه من الفلاحين المصريين إلى أداة للمواجهة والمقاومة والانتصار لفكرة الوطن الحر المستقل.
الستار الختامي
من أجمل وأروع ما كتب صلاح عيسى في مؤلفاته هو الجزء الأخير من تلك الملحمة، الجزء الذي اختص بمصير قادة ثورة عرابي، ويكفي هنا أن أذكر بعضًا من جمله، فهو يتحدث عن مصير عرابي فيقول: «هذا الرجل حزين العينين، هو أحمد عرابي الحسيني المصري أربعون عامًا نقية طهورة، لم تلوثها يومًا أطماع الطامعين، ولم تضعف أمام نزوة، ما أتعس أن تحب بلدك ثم توطأ بالنعال أمام بصرك، وأنت أعجز من أن تبكي على هوانها».
وعن محمد عبيد كتب: «تناثرت جثته في ثرى التل الكبير وهو يحاول إيقاف الخيانة»، وعن سليمان سامي: «ذلك المثال الغريب على اللوثة الثورية، انهار عقله في لحظة مفاجئة، احرق يا ولد.. خرب يا ولد.. ستسقط الإسكندرية في أيديهم فلا تتركوا فيها حجرًا قائمًا»، أما عن عبدالله النديم فقال: «أما النديم العظيم فقد هرب، قلبي معه، عاد كما بدأ صعلوكًا يعيش في قلب مصر، وتخفيه مصر عن أعين الخونة والوشاة سنوات تسعًا طوالاً، تدثره في قلبها، يدفئه صدرها الحنون في ليالي الشتاء الطويلة»، ويقول عن مصير محمود سامي البارودي: «في المنفى عانيت الغربة، سبعة عشر عامًا ذهب البصر ووهن الجسد وأصاب الأذن صمم، فأين ذهب الأحباب واحدًا بعد الآخر!».
مات غالبية القادة في المنفى إلا ثلاثة عادوا إلى مصر بعد 19 سنة، هم البارودي وعلي فهمي وأحمد عرابي، والذي مات دون أن يملك مصاريف تكفينه ودفنه، واكتفت الصحافة بنعيه في مكان متواضع قائلة: «علمنا أن المدعو أحمد عرابي صاحب الفتنة المشهورة باسمه قد توفي أمس»!