لماذا يلجأ المدربون لانتقاد لاعبيهم في العلن؟
عام 2009، كان نادي توتنهام يعاني تحت قيادة الإنجليزي «هاري ريدناب»، حتى إنه لم يستطع تحقيق الفوز على نادي بورتسموث المتواضع. كانت المباراة تلفظ أنفاسها الأخيرة، حين أتيحت فرصة ذهبية لمهاجم توتنهام آنذاك، «دارين بينت»، ليهدرها بطريقة غريبة، ويضعها برأسه خارج المرمى.
عقب المباراة أدلى المدرب الإنجليزي بالتصريح أعلاه، الذي كان مَثار تندُّر طويل للصحف ووسائل الإعلام، عن اللاعب الذي عجز عن إحراز هدف كان يمكن أن تحرزه زوجة المدرب!
اعتذر «ريدناب» عن ذلك لاحقًا، ولكن العلاقة بينهما كانت قد ساءت بالفعل ورحل «بينت» بِنهاية الموسم، واصفًا أيامه تحت إمرة ريدناب بأنها أسوأ سنتين في مسيرته كلها.
من الواضح إذن أن ظاهرة انتقاد المدربين للاعبيهم في العلن ليست وليدة اليوم، وإنما قديمة متجددة. لم يخترعها «تين هاغ» مثلًا بنقده القوي للاعبه «جادون سانشو» مؤخرًا هذا الموسم. والمرجح أنها ستستمر ما استمرت اللعبة والمدربون واللاعبون.
ولكن، ماذا يجني المدربون من انتقاد لاعبيهم في العلن؟ هل هي حيلة نفسية لإخراج أفضل ما فيهم، أم مجرد تشهير وتصفية حسابات وفضيحة تستتر بستار النصيحة؟ والأهم من ذلك، كيف تؤثر تلك الكلمات التي يلقيها المدرب عامدًا أو مرتجلًا، على نفسية لاعبيه وأدائهم في الملعب؟
لأن اللاعب لم يعد مجرد لاعب
قد يستغرب البعض نسبة هذا التصريح لصانع النهضة الحديثة للشياطين الحمر، الذي انتقد «بيكهام» على تأخره عن التدريبات، وانتقد «رونالدو» على فردانيته في الملعب، وانتقد «روني» على زيادة وزنه، وانتقد «سمولينج» على غبائه، كل ذلك علنًا أمام الجميع.
لكن «فيرغسون» وعى بشكل مبكر كيف تتشكل نفسية نجوم كرة القدم، ومدى حساسية الكلمات التي توجه لهم بشكل مباشر. وبخاصة تلك التي تُقال على مرأى ومسمعٍ من الجميع، حتى إن لم يكن دائم الاتساق مع ما يؤمن به.
تتضخم الأنا كنتيجة طبيعية للأموال والشهرة التي تٌغدق على هؤلاء اللاعبين، فيصبح النقد – مهما كان في صميم اللعبة – أمرًا حساسًا ومهمة صعبة على المدرب الذي يتحسس طريقه، كالمقبل على غرفة مظلمة، لا يدري أيصل إلى مقبس الضوء الذي سيرشده فيها أولًا أم سيحطم أغراض الغرفة قبل أن يهتدي إلى مراده؟
يرى آرسين فينغر، مدرب دوري اللاهزيمة مع نادي أرسنال، أن الأموال الضخمة التي تعطى لأولئك اللاعبين تقوِّض سلطة المدربين في أحيان كثيرة، وتجعلهم أخجل من أن يأمروا ويطلبوا، وبدلًا من ذلك يمكنهم أن يحاولوا إقناع اللاعبين بأن تلك التوجيهات ستصب في مصلحتهم بطريقة أو بأخرى.
يقتنع البعضُ ويسلِّم، ويتململ البعض الآخر ويرفض الانصياع، غير تارك أي بديل لمدربه إلا تحيُّن الفرصة وإخراج النقد من طوره الودي الخاص إلى طور علني صريح. فهل هذا هو التصرف الصحيح؟
أقبل مزاحك، وأرفض سخريتك
لم يكن فان خال، مدرب البايرن وقتها وقائل تلك العبارة، مدربًا محببًا لدى ريبري، على المستوى الإنساني بشكل خاص. ولربما لو صدرت تلك الجملة من يوب هاينكس، المدرب المفضل للجناح الفرنسي، مع ضحكة صادقة أو مفتعلة؛ لتقبل الأمر على أنه مزحة جيدة لا تنمر وضيع.
هنالك خيط رفيع للغاية بين المزاح والتنمر، يفرق به لاعبو كرة القدم بين ما يوجه لهم من انتقادات، هذا الخيط يحمل على امتداده مجموعة من العوامل التي تحدد مدى تقبل اللاعب لما يقال عنه، وبالتالي تصنيفه تحت أي من الإطارين.
وقد كان هذا بالضبط موضوع المقال البحثي الذي نشره جيمس نيومان المتخصص في أبحاث الرياضة والنشاط البدني في جامعة شيفيلد، عبر مجلة «frontiers» المتخصصة في علم النفس، على مجموعة من اللاعبين في الدوري الإنجليزي الممتاز ودوري الدرجة الأولى.
إذ تبين أن هنالك ضوابط مشتركة يفرق بها اللاعبون بين المزاح والتنمر. منها: إدراك المدربين لطبيعة ما يقولون، وما إذا كان ذلك متعمدًا، أو في حدود المسموح به، والأهم أن يحمل طابعًا فكاهيًّا بالأساس.
غير أن الدراسة شددت على الفوارق الفردية، التي تتيح لبعض اللاعبين تقبل ما يراه الآخرون إهانةً وتنمرًا، بروحٍ رياضية وصدر رحب. وهو ما يجب مجابهته بما يشبه اتفاقيات ترسيم الحدود، لتقنين ثوب المزاح الفضفاض، الذي يختلف من بيئة إلى أخرى.
ولكن المشكلة لم تكن ابتداءً في طبيعة النقد إن كان ساخرًا أم جادًّا، ولكن مشكلته في علانيته وما يترتب عليها من نتائج إيجابية أو سلبية. فهل هي …
جناية اللاعبين أم جناية المدرب؟
هكذا تحدث السبيشال وان عن فلسفته الخاصة في هذا الأمر عندما كان في مانشستر يونايتد. وفي كل فريق درَّبه، يمكن أن تسمع قصصًا مشابهة لِنقد لا يعترف بقواعد الزمان والمكان والخصوصية، وإنما يعترف بشخصية قائله الذي لا يتحرَّج من إطلاق نقد لاذع للاعب متخاذل أو توجيه اللوم العلني للاعب فشل في التأقلم، وأحيانًا للاعبٍ أدى مباراة قوية وأحرز هدفًا!
وعلى النقيض، يعتبرها بعض المدربين حيلة نفسية بالفعل. يمكن تسميتها تجاوزًا بحيلة «ذبح القطة». إذ يلجأ المدرب لانتقاد الرأس الكبيرة أمام الجميع، دلالة أنه لا يخاف أحدًا ولن يسمِّي على أحد، وإن كنت تظن أن اسمك ومهارتك ستشفع لك؛ فقد كان اسم هذا النجم ومهارته أولى بالشفعة.
غير أن تلك الطريقة حسبما يرى «ديفيد بليت»، مدرب توتنهام السابق ومدير الكرة، خطرة جدًّا، حين لا يعرف المدرب أين تبدأ وأين تنتهي. بخاصة مع اللاعبين الشبان الذين لو تم انتقادهم بنفس الطريقة أمام زملائهم في غرفة الملابس ناهيك عن فعل ذلك في العلن؛ فذلك بمثابة استخراج شهادة وفاة ثقة لهم.
وقد تنطوي الانتقادات المتتالية للاعبين على مشكلة يعاني منها المدرب نفسه، أهمها مشكلة الضغط التي يتعرض لها لنتائج سيئة أو لعدم الرضا عن حلوله داخل الملعب وخارجه، فيحاول تقديم بعض لاعبيه ككبش فداءٍ، فينجو بنفسه على حساب لاعبيه بدلًا من أن يفتديهم. ولكن بأي ثمن؟
الرمي بالكلمات، أو ما هو أسوأ
نظرًا لطبيعة اللعبة، فإن اللاعبين أنفسهم هم الأكثر تعرضًا للانتقاد، بلا توقف ولا هوادة، وأحيانًا تأخذ تلك الانتقادات طابع التهديد والتخويف. ولكن النقد حين يصدر من المدرب، فتلك قصةٌ مختلفةٌ بالكلية.
يرى دان إبراهام، الخبير النفسي الرياضي الذي عمل مع عدد من اللاعبين الذين وجدوا أنفسهم في مرمى سهام النقد من مدربيهم، أن ذلك الموقف يمثل انتقاصًا كبيرًا من الثقة المتبادلة بين المدرب ولاعبيه.
ويستدرك إبراهام ليوضح أن ذلك لا ينتقص من ثقة اللاعب في نفسه على الأغلب، ولكنه يفتُّ في عضد العلاقة بينه وبين المدرب، فلا يوليه ثقته أو جهده الكامل. هو يدرك تمامًا ما يريده منه مدربه، لكنه لا يشعر بالرغبة في أن يفعل أي شيء من أجله.
أما عن الجانب الإيجابي للنقد، فيدحض ستيف بيترز، المعالج النفسي السابق لنادي ليفربول والمنتخب الإنجليزي، تلك النظرية تمامًا، ويرى أنها تنطبق على حالات معدودة، اعتمادًا على مقدار الألفة والمودة والقبول بين المدرب واللاعب.
زلاتان مثلًا يمكن أن يموت فداءً لِمورينيو، أما بالوتيلي فيرى أنه يحتاج لتعلم الاحترام.
ويرى بيترز أن الأمر لا يتعلق دائمًا بالشخصيةن وإنما بالمعتقدات وتفاوت الأفراد في قدرتهم على إدارة عواطفهم بشكل جيد. وهذا ما يدفع الغالبية العظمى للشعور بالإهانة إذا ما وجدوا أنفسهم موضوع انتقاد علني من مدرب فريقهم. لا تنسَ أن البشر مخلوقات عاطفية بالأساس!
ومن جانب لا يقل خطورة عن الجانب النفسي، صدرت دراسة سويدية عام 2017 لباحثين في جامعة لينكوبنج، أجريت على 36 ناديًا كبيرًا في 17 دولة، للبحث فيما إذا كانت هنالك أي علاقة من نوع ما بين أساليب الإدارة المختلفة لمدربي تلك الفرق وبين معدل إصابات اللاعبين لديها.
وخلصت الدراسة إلى نتيجة مثيرة تثبت أن هنالك علاقة عكسية واضحة بين معدل الإصابات للاعبين، وبين أنماط القيادة الإيجابية التي ينتهجها المدربون.
والحاصل أن علاقة اللاعب والمدرب لا يمكن أن تبقى على وفاقٍ ووئام دائم، وهو ما يستلزم احترافية عالية من كليهما، يعي كل منهما مسئولياته ويتصرف تبعًا لها، دون الحاجة لتوريط أحدهما للآخر في فخٍّ نفسي أو هوةٍ سحيقةٍ لا قرار لها.