بين الاختزال والتدافع: لماذا يؤمن العرب بنظرية المؤامرة؟
قال أرسطو، إن عدد أسنان الرجال يزيد بطبيعة الحال على عدد أسنان النساء، وهو ما دفع البعض إلى التساؤل لماذا لم يكلف أرسطو نفسه عناء النظر في فم زوجته ليتأكد من صحة رأيه. [1]
نحن نرتكب نفس خطأ أرسطو، الذي ظل سائداً في أوروبا حتى عصر النهضة، ولا نُكلف أنفسنا عناء البحث عن العلل والأسباب لفهم الأحداث، سواءً في قراءتنا للماضي أو الحاضر. فما حدث ويحدث يكون وفقًا لقانون الحتمية أو السببية، أو ما يُعرف لدى الفلاسفة المسلمين بـ«العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا».
ولكننا بدلًا من البحث عن علل الأحداث وأسبابها، نُعلّق ما جرى وما يجري على «شماعة» المؤامرة، التي ازدهرت وربت في فترة القومية العربية، حتى كانت أَمَرّ هزيمة تعرض لها العرب في التاريخ الحديث، في يونيو/حزيران 1967، والتي صُنّفت كـمؤامرة من الإمبريالية العالمية.
يقول الكاتب المصري «نبيل راغب»:
وقد استعادت نظرية المؤامرة زخمها وازدهارها مع جريان مياه جديدة في بحيرة السياسة العربية الراكدة بأحداث ثورات الربيع العربي، فتبادلت الأنظمة الحاكمة والشعوب الاتهامات بالعمالة والخيانة، فاتهمت الأنظمة أبناءها الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية بالتآمر والخيانة لتقسيم الأوطان وفقاً لخرائط برنارد لويس، وإشاعة الفوضى والحرب الأهلية وفقا لمفهوم «الفوضى الخلاقة» عند وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كوندليزا رايس».
بينما تتهم الشعوب حكامها بالعمالة لنفس القوى، للحفاظ على كراسيها، وذلك ببيع قضية العرب الأولى في صفقة القرن، أو ما يُسمى بـ«الشرق الأوسط الجديد» وفقاً لتعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «شيمون بيريز».
النموذج الاختزالي
إن الخطاب العربي سواء الرسمي أو الشعبي مهووس بنظرية المؤامرة، رغم أنه يستطيع بتحريك أصابعه على «الكيبورد» ألا يقع في خطأ أرسطو بأن عدد أسنان الرجل أكبر من عدد أسنان المرأة، ولكن لأننا نفضل الحلول الجاهزة المُعلَبة، التي تثبت المحاججة المنطقية فسادها وانتهاء صلاحيتها، نفكر وفقاً لما أطلق عليه عبدالوهاب المسيري «النموذج الاختزالي» والذي «يتجه نحو اختزال العالم إما إلى عنصر واحد مادي أو روحي، أو إلى عدة عناصر –عادة مادية- بسيطة، فالظواهر حسب هذا النموذج ليست نتيجة تفاعل بين مركب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة والمجهولة من جهة، وإرادة إنسانية حرة وعقل مبدع من جهة أخرى، وإنما هي نتاج سبب واحد بسيط أو سببين أو ثلاثة قد يكون قانوناً طبيعياً واحداً، أو دافعاً مادياً واحداً، أو قوة مدبرة خارقة، نتطبع على عقل متلقٍ لهذا القانون أو الدافع أو القوة، والعنصر المشترك هنا هو استبعاد الفعل الإنساني ككيان حر مسئول مبدع… لذا فأحداث التاريخ والواقع الإنساني ككل هي نتاج بطولة بطل أو بطلين، أو نتاج عقل واحد متآمر وضع مخططاً جباراً وصاغ الواقع حسب هواه». [3]
وحسب المسيري فإن هذا النموذج يرى أحداث التاريخ والواقع الإنساني تأتي «مدفوعة بالصراع الطبقي أو علاقات الإنتاج أو فكرة التقدم، ولا تختلف عن ذلك بعض الرؤى الدينية التي ترى التاريخ باعتباره تجسداً للمشيئة الإلهية، وليس مجالاً للتدافع بين البشر». [4]
قانون التدافع
ونحن نفسر -بامتياز مع مرتبة الشرف- تاريخنا وحاضرنا وفقا لـ«النموذج الاختزالي»، الذي لا يرى أنهما نتاجٌ للتدافع البشري، رغم أن القرآن الكريم تحدث عن قانون إلهي أودعه المولى، عز وجل، في هذا الكون وهو قانون التدافع البشري:
يقول ابن خلدون: «إن التنازع عنصر أساسي من عناصر الطبيعة البشرية. فكل إنسان يحب الرئاسة، وهو لا يتردد عن التنازع والتنافس في سبيلها، إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك».[7] فـ«التنازع والتعاون هما دعامتا الاجتماع البشري، وقد اتضح لدى علماء النفس بأن الحب والبغض متلازمان في النفس كتلازم التعاون والتنازع في المجتمع، ولا يمكن أن تقوم جماعة بشرية وإلا ويكون حافز التنازع كامناً فيها، فالعائلة التي تعد نموذجاً للتآخي بين الأفراد نراها لا تخلو من تنازع رغم ذلك، ولا تكاد تمر فترة من الزمن على عائلة من العائلات حتى نسمع صراخ الخصام قد ارتقع من بين جدران بيتها». [8]
لذا قال صامويل هنتنجتون: «إن التاريخ الإنساني هو تاريخ الحضارات». [9]
ولكننا نفسر كل تدافع وتنازع وبحث عن المصالح على أنه مؤامرة، رغم أنه قانون كوني وضعه سبحانه وتعالى لعمارة الأرض وحفظ الأفراد والأمم والحضارات من الفساد والعطب وانتهاء الصلاحية، بتوقفها عن البحث في العلل والأخذ بالأسباب والاكتفاء بما أطلق عليه المسيري «الفكر البروتوكولي التآمري» لدى العرب، الذي عادة ما يَنسِب إلى اليهود قوى عجائبية خارقة، ويزعم أن يد اليهود الخفية في كل مكان وزمان تقريباً، خاصة في المواقع الهامة مثل مراكز صنع القرار، كما أن هناك تصوراً عاماً لدى الكثيرين أن اليهود وراء كثير من الجمعيات السرية والحركات الهدّامة، بل يذهب البعض إلى أن ثمة مؤامرة يهودية كبرى عالمية تهدف إلى الهيمنة على العالم، وتحقيق المخطط الصهيوني اليهودي. [10]
ويعتقد المسيري أن هيمنة هذا الفكر التآمري على العقل العربي هو من أخطر الأمور حيث «يزيد من هيبة إسرائيل ويجعلها تكسب الحروب دون أن تدخل أي معارك». يقول المعلق السياسي الإسرائيلي «يوئيل ماركوس» في جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية، في 31 ديسمبر/كانون الأول 1993: «إن كثيراً من الدول تغازل إسرائيل وتحاول أن تكسب ودها نظراً لأن حكام هذه الدول يؤمنون -بصدق- بأن البروتوكولات وثيقة صحيحة، وأن ما جاء فيها هو المخطط الذي يتحقق في هذا العصر والذي سيؤدي إلى سيطرة اليهود على العالم، وأن اليهود يتحكمون بالفعل في رأس المال العالمي وفي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الطريق إلى المعونة الأمريكية يمر من خلال اللوبي الصهيوني والدولة الصهيونية». ثم يشرح هذه المفارقة قائلاً: «إن البروتوكولات تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصاً معادياً لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد النظر». [11]
فهل ننتظر عصراً آخر للنهضة حتى نكتشف كما اكتشف الأوروبيون أن أرسطو كان مُخطئاً عندما لم يكلف نفسه عناء النظر في فم زوجته ليعرف عدد أسنانها، أم نخرج من «النموذج الاختزالي» لدى عبدالوهاب المسيري، ونتوقف عن قراءتنا للماضي والحاضر على أنهما نتاج عقل متآمر علينا، أو نتاج مشيئة إلهية أردت لنا ما نحن فيه من استبداد وقهر وفقر وتخلف، لنبدأ مرحلة «مغالبة القدر بقدر أحب إلى الله»، أو نفر من قدر الله إلى قدر الله كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أو كما يقول ابن القيّم: «ليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله». [12]
- انتوتي جوتليب، “حلم العقل”، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2015، صـ 248.
- نبيل راغب، “ناصر: شهادة إسرائيلية”، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، 1996، صـ 23.
- عبد الوهاب المسيري، “الإنسان والحضارة”، القاهرة، دار الهلال، 2002، صـ 235.
- المرجع السابق صـ 236.
- سورة البقرة، آية 252.
- سورة الحج، آية 40.
- على الوردي، “مهزلة العقل البشري”، الطبعة الثانية، لندن، دار كوفان، 1994، صـ 115.
- المرجع السابق صـ 116.
- صامويل هنتنجتون، “صدام الحضارات”، الطبعة الثانية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013، صـ 67.
- عبد الوهاب المسيري، “اليد الخفية: دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والحفية”، القاهرة، دار الشروق، 2001، صـ 8 -9.
- المرجع السابق.
- محمد الغزالي، “كيف نتعامل مع القرآن”، القاهرة، دار نهضة مصر، 2014، صـ 129.