«فرنسا لا تساوي شيئا بدون زيدان»؛ قالها ذات يوم «عصام الشوالي» عندما تسبب غياب «زيزو» في انهيار منتخب الديوك وافتقاد شخصية البطل، وبالتبعية توديع المسابقات الكبرى من الأدوار التمهيدية.

لابد أن الأمر بدأ حينما سقط رفاق «تيري هنري» بشكل مروّع بافتتاحية مونديال 2002، فقد دخل الفرنسيون المباراة وهم يحملون لقب النسخة السابقة من البطولة بمواجهة منتخب إفريقي صغير يشارك للمرة الأولى بتاريخه في المونديال ويلعب الأغلبية الكاسحة من عناصره بالدوري الفرنسي، فيما ينتشر (بارتيز، ميكاليلي، فييرا، تريزجيه) بأكبر أندية العالم.

لكن المشهد خرج بصورة غير متوقعة على الإطلاق، فقد تمكن لاعبو السنغال المغمورون من تحقيق المفاجأة المدوية بقيادة المدرب صاحب الكاريزما الاستثنائية والشعر الطويل والنظرات الحادة «برونو ميتسو»، وفازوا على أبطال العالم بهدف دون مقابل، لتبدأ منذ ذلك الحين أحد أكثر الحكايات المونديالية إثارة ومتعة وتحديا برقصة «بوبا ديوب»، و«الحاج ضيوف» الشهيرة.

مثّل «ميتسو» مركز الثقل لكتيبة الموهوبين الذين أتوا من أدغال إفريقيا بشخصية لا تخشى المنافسات الكبرى، ولم يتوقف الأمر عند منتخب السنغال، بل دائمًا ما طغت شخصية الفرنسي وعقله الغارق بالتفاصيل التكتيكية وقراءته الجيدة لطبيعة لاعبيه على أغلب محطاته، سواء بالإمارات أو قطر.

تجربة الفرنسي الثرية كان لها أن تنتهي بالخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 بعد أن خسر مباراة الحياة الشرسة أمام السرطان، تجربة نال خلالها محبة لاعبي وجمهور الفرق والمنتخبات التي تولى تدريبها تاركًا بصمة بنفوس الناس في العالم الثالث عن إمكانية أن يجدوا مكانًا يتسع لفرقهم بالمنافسات الكبرى.


في دونكريك

أصدر المخرج «كريستوفر نولان» قبل ثلاثة أشهر فيلمه الأخير «دونكريك» الذي يصوّر إحدى معارك الحرب العالمية الثانية بمنطقة بالشمال الفرنسي تحمل نفس اسم الفيلم، لم يكن «برونو» بحاجة لانتظار الفيلم على كل حال، فقد نشأ وقضى سنوات عمله الأولى بدونكريك بعد انتهاء الحرب.

في صغره عمل ساعيًا للبريد يتنقل بين جنبات المدينة رفقة الرسائل والطرود، ثم يلحق بتدريبات فرق الهواة، حيث لعب كوسط ميدان هجومي، تدرج بين صفوف تلك الأندية الفرنسية بعد تجربة لم تشهد نجاحًا كبيرًا مع أندرلخت البلجيكي، حيث عاد ليلعب لـ 7 فرق أهمها «نيس»، و«ليل».

لم يكن «ميتسو» لاعبًا مميزًا،أرقامه تشير إلى أنه سجل ثلاثة أهداف فقط في قرابة الـ60 مباراة مع ليل، ولم يحقق الفرنسي أي إنجاز جدير بالذكر سوى قيادته لنادي «بوفاي» للصعود للدرجة الثانية، مما دفعه للاعتزال بعد أن عرض عليه النادي الأخير فكرة تدريب فريق الشباب ثم الفريق الأول.

يقول «أريجو ساكي» إنه لم يحتج أن يكون جوادًا ليصير فارسًا، هذا النموذج الذي عبر عنه المدرب الفذّ دون أن يحظى بمسيرة رائعة كلاعب، ويمثله الآن مدربون كبار كـ (مورينهو، كلوب، ماوريتسيو ساري) انطبق تمامًا على حالة «ميتسو»، فقد نجح الأخير بقيادة بوفاي لمرحلة مستقرة شهدت منافسة النادي على كئوس الشباب، بجانب وصوله لربع نهائي الكأس الفرنسية ليذيع صيته بالمجال التدريبي هناك.

لكن مسيرته كمدرب بفرنسا لم تستمر على هذا النسق، فقد أعاقته مشكلات بعد توليه لإدارة ليل وفالينسيان مع إدارة النادي الأول ومع لاعبي الثاني، خصوصًا بعد اعتراف لاعبي فالينسيان بالتراخي وتفويت أحد مبارياتهم أمام مارسيليا، حينها قرر «برونو» أن الوقت قد حان للمغادرة باتجاه القارة السمراء وقيادة مشروع جديد؛ صدق من قال: مصائب قوم عند قوم فوائده!


في داكار

إنها خسارة كبرى للسنغال، ميتسو لم يساعد فقط كرة بلادنا، ولكنه أضاف لتاريخ السنغال كله
تصريحات رئيس اتحاد الكرة السنغالي أوجستين سنغور.

على الرغم من ارتباط اسمه بشكل وثيق بالسنغال، فإن محطة «ميتسو» الإفريقية الأولى كانت منتخب غينيا الذي تولى قيادته عام 2000 بعقد متواضع وظروف تدريبية صعبة، الظروف التي عبر عنها اللاعب الغيني السابق «تيتي كامارا»بتصريحات نقلها موقع «جول» قال فيها : «ميتسو اشتكى كثيرًا من سوء الإمكانيات بغينيا كضعف البنية التحتية والخدمات الإدارية»، لذلك فإن الفرنسي رحّب بالتعاقد مع منتخب السنغال بعد إقصائه من ربع نهائي كأس أمم إفريقيا على يد نيجيريا نظرًا لتحسن نسبي بالإمكانيات المتاحة سيناله «برونو».

فوجئ عقب توليه المسئولية بقائمة يقدمها له الاتحاد السنغالي عن لاعبين متهمين بالتراخي وبعدم الرغبة في تمثيل منتخب الأسود، خصوصًا بعد الإخفاقات المتتالية، ولحسن حظ السنغال فإن مدربهم الجديد برع بقراءة طبائع وشخصيات اللاعبين وتحديد أفضل سبل التعامل معهم، فقد رأى ضرورة خلق الحافز وتشكيل الأهداف القادرة على توحيد الفريق بالتوازي مع عمل فني ينظم تلك المواهب.

الثقة إذن هي متفاح العلاقة بين «ميتسو» ولاعبي السنغال، لقد وثق بإمكانياتهم التي ستتضاعف داخل إطار العمل المنظم والجماعي، وأراد منهم فقط أن يثقوا بأنه هنا من أجلهم، جاء ليساعدهم للظهور بشكل أقوى وللانتقال لأندية أفضل، ومن أجل تحقيق إنجاز لبلادهم وليس مجدًا شخصيًا.

يقول «ميتسو»: «لو أنك لا تحب لاعبك، فإنك لن تحصل منه على نتائج»، لقد صدق، فبعد عامين من العمل والاحتواء تحققت النتائج بكأس أمم 2002 عندما تمكن الأسود من تجاوز نيجيريا بنصف نهائي البطولة والوقوف ندًا بند في النهائي أمام أحد عمالقة القارة كالكاميرون في مباراة ماراثونية خسرها رفاق «ألو سيسيه» بضربات الحظ الترجيحية.

لقد قرأت عليهم ما قاله بيليه بشأن تقلص فرصنا بمجموعة كأس العالم في غرفة الملابس قبيل مباراة فرنسا، عندها تحول القلق من ملامحهم إلى شرارة وإصرار
تصريحات برونو ميتسو

لم يبدأ تدعيم «ميتسو» للاعيبه أمام تصريح «بيليه»، بل سبق أن اتهمتهم الصحافة بالاستهتار والسهر، ليخرج الفرنسي رافضًا تلك الاتهامات مؤكدًا أنه وحده يعلم مدى التزام لاعبيه -الذين صاروا أصدقاءه في التدريبات- وثقته بأدائهم في المباريات. لم يفهم الصحفيون ما يعنيه الفرنسي إلا وهم يشاهدون الكرة في مرمى «بارتيز» وملامح الدهشة تزاحم الفرحة على وجه «ديوب»، فيما انتفضت دكة الأسود لمعانقة الرجل الأبيض كما أسموا «ميتسو»!

تعادلوا أمام الدنمارك، ثم أضاعوا فرصة للحفاظ على الفوز بمواجهة الأوروجواي، ليجد الثنائي «هنري كمارا، فاديجا» لأنفسهم مقعدًا بدور الـ16 بدلًا من «ريكوبا، فورلان» أو «تريزجيه، هنري»، ثم كان للثنائي السنغالي أن يقطعا أي تشكيك بقدراتهما ويضيفا لمفاجآتهما بدور المجموعات بعدًا آخر عندما أقصيا السويد وتأهلت السنغال على حسابهم لدور الـ8!

ولأن العالم لم يكن يتسع لمعجزتين، فقد قُدِر لأسود الترينجا ملاقاة المنتخب التركي الذي قدم هو الآخر بطولة كبيرة وضم أسماء واعدة، وتمكن من حسم بطاقة العبور لنصف نهائي المونديال بعد هدف ذهبي قاتل بالوقت الإضافي لتودع البطولة منتخب السنغال بمشاعر الاحترام لما قدموه.

لعب «ميتسو» خلال المونديال برسم تكتيكي يقترب من 4/3/3 يقوم على الدفع بثلاثي هجومي قوي وسريع ومهاري يصول ويجول بالمساحات وينتظر الكرات المرتدة، الثلاثي المكوّن من «ضيوف، فاديجا، كمارا/نداي» يلعب أمام ثلاثي آخر قويًا بدنيًا ويجيد الالتحام واستخلاص الكرات والارتداد الهجومي والدفاعي بوسط الملعب، وهم (سيسيه، ساليف دياو، ديوب)، مع وجود رباعي بخط الظهر بأدوار دفاعية بالمراقبة والتمركز وتضييق المساحات للحفاظ على شباك الحارس المميز «توني سيلفا»، لكن «ميتسو» نفسه يرى أن كرة القدم لا تختصر فقط بالجوانب التكتيكية، وأن أي مدرب آخر كان بوسعه تطبيق 4/3/3 مع السنغاليين، لكن الصعوبة تكمن بتطويع هؤلاء اللاعبين لتوجيهاته وخلق الحافز المناسب لهم.

سيارة كبيرة مكشوفة كانت تنتظر البعثة السنغالية بمطار العاصمة «داكار» لتطوف بهم البلاد وسط استقبال تاريخي حافل من الجمهور الذي خرج يعبر عن امتنانه لمغامرة كوريا واليابان، ظهر «برونو» وسط لاعبيه بنظرات مندهشة من الحشود وقدرتها على الاحتفال رغمًا عن أي ظروف قاسية يمرون بها؛ لقد عرف أنه سيعود يومًا لداكار حتى لو غادرها الآن لوجهة أخرى.


في أبوظبي

كان «ميتسو» قد قرر أن يخوض تجربة جديدة، بالطبع انهالت عليه العروض بعد ما حققه، لكنه انجذب لقيادة زعيم الأندية الإماراتية العين الإماراتي عام 2002، حيث حظي باحترام كبير بين الإدارة ولاعبيه، وأكد جدارته بهذا الاحترام بعد فوزه بالدوري لعامين متتاليين.

لكن إنجازه الأكبر مع الزعيم تمثل بفوزه بدوري أبطال آسيا موسم 2002-2003 للمرة الأولى بتاريخ العين، بل الأولى بتاريخ الأندية الإماراتية، حيث ظهر الفريق بقوة فائزًا بكل مباريات دور المجموعات، ثم تمكن من العبور بنصف نهائي البطولة من النادي الصيني «داليان شيده»، قبل أن يحسم النهائي لصالحه على حساب نظيره التايلاندي «تيرو ساسانا».

انتقل بعدها عام 2004 لنادي الغرافة القطري الذي أضاف له شخصية قوية وأكسب لاعبيه الخبرات الكافية التي مكنتهم من تحقيق الدوري بموسمه الأول، ليرحل بعدها للاتحاد السعودي، ثم يستقر ثانية بالإمارات، هذه المرة لقيادة المنتخب الوطني الإمارات: أحد أهم محطات «ميتسو».

كانت آمال الجماهير الإماراتية معقودة على كفاءة الفرنسي الذي صار اسمه «عبدالكريم ميتسو» بعد أن أشهر إسلامه لقيادة منتخبهم نحو تحقيق بطولة دولية، لذلك وجد مساندة ودعما واستجابة من المجموعة التي اختارها وقادها لاحقًا للفوز بكأس الخليج عام 2007.

هكذا كانت رحلة المدرب بين دول الخليج، غالبًا ما ترك بصمة مؤثرة فنيًا بكل الفرق التي تولى قيادتها ونال ثقة ومحبة الجماهير بذكرياته الطيبة معهم، المحبة التي امتدت لمؤازرته حين باغته السرطان قبل عام 2012، حيث كان يتولى إدارة نادي الوصل قبل أن يتوقف عن التدريب للأبد.

بأحد الليالي كان قابعًا على السرير بالمستشفى يشاهد إحدى مباريات الوصل، ليفاجئه المصري المحترف آنذاك «محمود عبدالرازق شيكابالا» بالتسجيل ثم الركض حول صورة كبيرة معلقة للفرنسي بالملعب ليقبلها «شيكابالا» تضامنًا مع المدرب الذي امتلك علاقة رائعه معه، يقول «عبدالكريم» إن لاعبًا كالمصري كان بحاجة لتعامل خاص يلائمه!


في داكار مرة أخرى

كان المرض قد اشتد على «عبدالكريم»، لينتقل من العلاج بالخليج إلى فرنسا، كان يعلم أن حالته قد وصلت لمرحلة بحيث العلاج لن يتمكن من إيقاف المرض وهو ينخر بجسده، وعندها أوصى زوجته السنغالية بأن يدفن بالسنغال لا دونكريك!

الطلب الغريب الذي أصرت عليه زوجته عقب الوفاة عام 2013 لا يعكس سوى صدق نادر وإيمان فريد بتجربته مع السنغال، البلد الذي خرج يستقبله كبطل متوّج لأنه فقط وثق في قدرات لاعبيها، هؤلاء اللاعبون الذين حملوه على أكتافهم احتفالًا عام 2002 كانوا ينتظرون نعشه بعد 11 عامًا ليحملوه إلى مثواه الأخير في صورة أعظم ما تكون أبطالها هم «فاديجا، سيسيه».

انتهت مسيرة ساعي البريد الذي عاش يطارد أحلامه بعد أن أوصل رسائل العمل الجماعي والإيمان بالتطوير وخلق الحافز ووزع طرود البطولات لا على دونكريك فقط، ولكن على آسيا وإفريقيا؛ طيب الله ثراه.