لماذا هاجم الإنجليز تحديداً صناعة كرة القدم في السعودية؟
قبل عام من الآن، كان رئيس الاتحاد السعودي، السيد ياسر المسحل، في مقابلة مع صحيفة ذا أثليتك. كان محور المقابلة عدم التوصل لاتفاق لضم النجم البرتغالي «كريستيانو رونالدو» لاعب مانشستر يونايتد وقتها: «لن يتحقق هذا قبل الانتقالات الشتوية، للأسف». اليوم، وبعد عام من ذاك اللقاء، انضم رونالدو لفريق النصر السعودي، وتبعه كوكبة من نجوم كرة القدم العالمية، على رأسهم البرازيلي نيمار، وحامل الكرة الذهبية كريم بنزيما.
على إثر نشاط وتحركات الأندية السعودية في سوق الانتقالات الصيفية لهذا الموسم؛ أطلق عالم صناعة كرة القدم العنان لمخاوفه حول هذا النشاط، وما يمكن أن يتركه من أثر سلبي على كرة القدم الأوروبية، بسبب انتزاع المملكة العربية السعودية للاعبين ما زال باستطاعتهم تقديم مستويات ممتازة لعدة مواسم. ليس هذا فحسب، بل تعاقدت الأندية السعودية مع مواهب شابة، لم تصل لقمة عطائها بعد؛ على عكس تجارب الدوري الصيني ودوري كرة الأمريكي، حيث يذهب اللاعبون إلى تلك الدوريات قبيل اعتزالهم.
كان من المثير للاستغراب، أن تتصدر الأصوات الإنجليزية هذه الحملة. مُلّاك أندية، وإداريون، ومدربون، ونُقّاد، وصحفيون، ولاعبون قدامى؛ كلهم اتفقوا على مهاجمة المملكة ونشاطها في سوق الانتقالات. لكن لماذا الإنجليز تحديداً؟
رؤية المملكة لعام 2030
في إطار مساعي السعودية لتنويع مصادر الدخل، وذلك ضمن رؤية المملكة للعام 2030، أطلق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية في يونيو/حزيران الماضي. تبع ذلك تخصيص أندية الهلال، والاتحاد، والأهلي، والنصر، لصندوق الاستثمارات السعودي. جاءت هذه القرارات ضمن الخطة التي ترمي لرفع إيرادات الدوري السعودي من 450 مليون ريال إلى ما يقارب المليارين، والقفز بالقيمة السوقية للبطولة من حاجز الثلاثة مليارات ريال لتصل إلى ثمانية مليارات.
يمتلك الدوري السعودي المقومات لتحقيق هذه النجاحات؛ على الصعيد المحلي، الدوري السعودي يعتبر دورياً جماهيرياً، من ناحية الحضور الجماهيري في الملاعب. ومن المتوقع أن يتضاعف الحضور الجماهيري والمتابعة التلفزيونية، لتشمل الفئات الشبابية التي تفضل الكرة العالمية والأوروبية على البطولات المحلية؛ بعد انضمام طيف واسع من نجوم الكرة العالمية لدوريهم المحلي. وتجدر الإشارة إلى أن فئة الشباب تُشكِّل ما يقارب ثلثي تعداد المملكة.
على الجانب الآخر، تتميز المملكة العربية السعودية بفرق توقيت بسيط نسبياً مع دول القارة الأسيوية عموماً، الهند والصين بشكل أخص، إذا ما قُورن فرق توقيت هذه الدول مع القارة الأوروبية، وإنجلترا على وجه التحديد؛ مما يمنحه تسويقاً أفضل، بسبب عدد المشاهدين الكبير؛ حيث يُناهز تعداد القارة الآسيوية خمسة مليارات نسمة. وبالفعل قد بدأت مؤشرات النجاح في تسويق الدوري السعودي خارجياً؛ حيث وقّعت اتفاقيات لشراء حقوق بث الدوري السعودي مع شبكات نقل في الأمريكيتين، وأوروبا، والصين، والهند، وأفريقيا. وقد بلغت قيمة العقد الموقع مع «شبكة دازن»، والتي حصلت على حقوق البث للموسم الحالي في عدد من الدول الأوروبية، ما يعادل نصف مليون دولار، أقل بمائتي ألف دولار فقط مما حصده الدوري من عوائد البث مجتمعة الموسم الماضي.
أمّا فيما يتعلق برفع القيمة السوقية للبطولة، فزيادة عدد المتابعين للأندية السعودية في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك حسابات الدوري السعودي على مختلف المنصات؛ يضع ورقة رابحة في يد الدوري وأنديته للتفاوض على شروط أفضل في عقود الرعاية والإعلان، باعتبار التوسع الكبير في قاعدة المتابعين. فعلى سبيل المثال، ازداد متابعو نادي النصر السعودي في موقع «X» (تويتر سابقاً) إلى أربعة ملايين، بعد أن كان عددهم لا يتعدى 100 ألف.
على الجهة المقابلة لهذا المشروع الطموح، استطاع الإنجليز تحويل دوريهم المحلي، إلى أحد أكثر الدوريات متابعةً بالعالم. أخذ هذه العمل سنوات طويلة، بدايةً من انطلاق الدوري الممتاز عام 1992. حتى أصبح أحد أهم صادرات بريطانيا الثقافية كما وصفته صحيفة الفايننشال تايمز. قفزت عائدات بث البطولة من 250 مليون جنيه استرليني قبل ثلاثة عقود، لتتجاوز سقف العشرة مليارات جنيه استرليني في عقد الرعاية الحالي. وهو واقع مشابه للغاية التي تسعى إليها المملكة، فلماذا الغضب؟
ربما أن المخاوف من التأثير سلباً على الكرة الأوروبية هي دافع الانجليز، وأن مستوى الإنفاق البذخي وضخ الأموال السعودية الذي لم تشهد السوق الأوروبية مثيلاً له هو الدافع؟
صرف منْ لا يخشى الفقر
العنوان قد يبدو لوهلة إشارة للأموال التي ضخّتها أندية الدوري السعودي في سوق الانتقالات الصيفية الحالي، بواقع 890 مليون يورو مُمثلاً في صافي الإنفاق. وهو رقم أكبر من معظم الدوريات الكبرى، حيث كان صافي الإنفاق في معظم الدوريات الكبرى إيجابياً (أي إن مداخيل بيع عقود اللاعبين كانت أعلى من تكاليف شراء العقود). وهذه القيمة الإيجابية ترجع بالأساس لنشاط الدوري السعودي، ودوري أوروبي وحيد تجاوز صافي إنفاقه حاجز المليار ومائتي مليون يورو؛ ألا وهو الدوري الإنجليزي.
بالنظر إلى المواسم العشرة الماضية، فإن صافي إنفاق الدوري الانجليزي على شراء العقود بواقع عشرة مليارات وسبعمائة مليون يورو، يُعادل ستة أضعاف صافي إنفاق أندية الدوري الإسباني، والإيطالي، والفرنسي، والألماني مجتمعة في نفس الفترة؛ حيث كان صافي إنفاقها ما يُعادل ملياري وثماني مائة مليون يورو. في موسم 2013-2014 بلغ صافي إنفاق أندية البريميرليغ 470 مليون يورو، وهو مبلغ يعادل ما قيمته 770 مليون يورو هذه الأيام، بعد حساب معدل التضخم. أي إن ما صرفته الأندية السعودية هذا العام يزيد بـ10% على قيمة صافي إنفاق الانجليز قبل عقد من الزمان.
وفيما يتعلق بالكرة الأوروبية، فمن الواضح أن الأندية الإنجليزية الكبرى، التي تنافس في دوري أبطال أوروبا بشكل مستمر، ذات جذب خاص للاعبي كرة القدم. لكن الأدهى والأمر أن أندية وسط الترتيب، بل وأسفل الترتيب قادرة على شراء عقود لاعبي أندية مُشاركة في دوري أبطال أوروبا، بسبب المكاسب المالية التي توفرها هذه الأندية. على سبيل المثال، استطاع أستون فيلا مطلع موسم 2022-2023 من ضم المدافع دييغو كارلوس ولاعب الوسط بو بكر كمارا، من إشبيلية ومارسيليا على التوالي، وكان شراء عقد كارلوس من ناد مشارك في دوري أبطال أوربا إلى فريق احتل المركز الرابع عشر في الدوري الإنجليزي، وكذلك كمارا الذي ترك عقده ينتهي مع وصيف الدوري الفرنسي لينضم لفريق وسط الترتيب الإنجليزي.
وقد صرّح العديد من المسئولين في كرة القدم الأوروبية عن الخطر الذي يُشكِّله إنفاق الأندية الإنجليزية على بقية الدوريات. ففي أبريل/نيسان الماضي، عبر لقاء مع صحيفة الفايننشال تايمز، عبّر المدير التنفيذي السابق لنادي «أي سي ميلان» عن مخاوفه من تأثير أموال الدوري الإنجليزي على الكرة الأوروبية، وحذّر من الوصول لنقطة الانهيار. وكان «خافيير تيباس»، رئيس رابطة الدوري الإسباني، قد وجّه أصوات الانتقاد لسياسات إنفاق الأندية الإنجليزية، قبل أن يُعلن في مؤتمر يتعلق بالكرة الأوروبية في يناير/كانون الثاني الماضي، عزمه القتال من أجل قوانين تكبح جماح الإنفاق الإنجليزي.
مكاسب مالية أم رياضية؟
في العقد الماضي، الذي شهد تزايد الهوة في الإنفاق بين الدوري الإنجليزي وبقية الدوريات الخمس الكبرى، لم ينعكس ذلك بشكل ملحوظ على النتائج الرياضية. ففي هذا العقد استطاعت الأندية الإنجليزية تحقيق تسع بطولات أوروبية (دوري أبطال أوروبا، الدوري الأوروبي، دوري المؤتمرات، كأس السوبر الأوروبي) من أصل اثنتين وثلاثين بطولة مُمكنة، وهو رقم ضعيف ومتواضع مقارنة بالإنفاق. وفي تشيكلة الموسم للفيفا، في السنوات العشر الماضية، تم تمثيل أندية الدوري الإسباني بخمسة وأربعين لاعباً، أي ما يُقارب ثلاثة أضعاف لاعبي الدوري الإنجليزي الذين سجّلوا بصمتهم بسبعة عشر لاعباً فقط، مناصفةً مع الدوري الألماني. ولم يتفوق الإنجليز سوى على الدوري الإيطالي (9 مقاعد) والفرنسي (11 مقعداً)، والدوريان اللذان لم يبلغ إنفاقهما عُشر ما أنفقه الإنجليز.
جدير بالملاحظة أن الجوائز المالية الذي يتحصّل عليها متذيل ترتيب الدوري الإنجليزي، أعلى من جائزة بطل دوري أبطال أوروبا. وأن الفريق الفائز في المواجهة الفاصلة في ملحق الصعود للدوري الإنجليزي الممتاز، يحصل على مائتي مليون جنيه إسترليني.
من كل ما سبق يتضح جلياً أن كل الانتقادات والاتهامات التي يُلحقها الإنجليز بالدوري السعودي؛ هم غارقون بها حد الوحل، وأن هذه الهجمة لا تعدو كونها حماية لصناعة الترفيه، ممّن يستطيع سحب البساط منهم. فماذا يعني الدوري الانجليزي لبريطانيا؟
قوة اقتصادية ورؤية سعودية
بحسب دراسة أجرتها شركة إرنست أند يونغ عن الدوري الانجليزي، أشارت لتحقيق هذا الدوري إضافة للاقتصاد البريطاني بما يقارب الثمانية مليارات جنيه استرليني في موسم 2019-2020، وخالقاً وظائف لما يقارب المائة ألف شخص؛ في موسم ضرب فيه وباء الكورونا العالم أجمع. وقد استعاد الاقتصاد البريطاني نموه مطلع العام بسبب عودة الدوري الإنجليزي عقب انتهاء كأس العالم. وبعد فشل مشروع دوري السوبر الأوروبي، أعلنت الحكومة البريطانية عن خطة لتشكيل هيئة تنظيمية مستقلة يحمي «أحد أهم صادراتها الثقافية» من أي ضرر قد يحلق بها إزاء أي محاولة لتفتيت الدوري.
تدخل السعودية هذا المعترك، والنجاحات الاقتصادية التي حققها الدوري الإنجليزي أمام أعينها، وهي تسعى لتنويع مصادر دخلها وفق رؤية عام 2030، وتسعى لاستضافة كأس العالم 2030؛ فهل تنجح السعودية؟