لماذا جاء «سالجادو» و«سيدورف» إلى أفريقيا؟
في أحد المقاطع الدعائية القديمة التي كانت تنتجها شركات المنتجات الرياضية، ظهر المدرب الهولندي «لويس فان خال» كرئيس لمجموعة من اللاعبين تسعى للسطو على كرة بتصميم جديد من شركة «نايك»، كان ذلك ضمن سلسلة إعلانية يقوم فيها النجوم بمهام سرية في أراضٍ مجهولة تعتمد على قدراتهم في التلاعب بالكرة.كنا نشاهد هذه المقاطع دون أن نعلم في أي منصة تُعرض هذه الإعلانات، وكان من البديهي الظن أنها تعرض على القنوات الأجنبية التي لا تصل لأكثرية سكان وطننا العربي. تقام بطولة أمم أفريقيا لعام 2019 على أرض مصر، ونجد أن 3 أسماء بارزة في الكرة الأوروبية تواجدوا ضمن الأطقم التدريبية لمنتخبات القارة السمراء؛ «ميشيل سالجادو»، و«باتريك كلويفرت» و«سيدورف». وبوضع الطبيعة المعيشية في هذه القارة ضمن معايير الحُكم، نتأكد أن تواجد نجوم بهذه القيمة لا يمكن أن يمر دون فحص. فربما تكون مهمة سرية -واقعية- جديدة، لكننا نعلم على أي منصة تُعرض، ولم تُصبح الأراضي التي تتم فيها مجهولة، لكن ما زالت المهمات سرية إلى حين.
خطة في منتهى الوضوح
وصل «سالجادو» إلى القاهرة رفقة «خافيير أجيري» المدرب الجديد للفراعنة. منصب وصف في الصُحف المصرية بأنه مستشار فني للمدرب المكسيكي، و أكد الإسباني نفسه أنه قد جاء للتخصص في متابعة المحترفين المصريين بالخارج.قُوبل تواجد لاعب ريال مدريد السابق بالترحاب أولًا من الجمهور المصري، كونه نقلة نوعية في الأسماء التي تتواجد في الجهاز الفني للمنتخب، لكن في المعسكر الأخير قبل المعترك الأفريقي والذي أقيم في التوقف الدولي من شهر مارس/آذار من 2019 انقلبت الآية، بدأت الألسنة تتحدث عن السبب الحقيقي لتواجد سالجادو في مصر.نص العقد المبرم بين الطرفين المصري والمكسيكي على تواجد المستشار الفني داخل مصر في أوقات المعسكرات فقط، وعلى أن يتحصل على أجرٍ قدره 5 آلاف دولار غير ثابت؛ أي يُدفع بالقطعة، كما وصفه أحد ممثلي الاتحاد، أو أن يتكفل أجيري بأجر مساعده الشخصي من ضمن قيمة ما يُدفع له إذا ما اعترض الطرف الثاني على المعاملة بالقطعة.لكن الأسماء المنضمة لقائمة المنتخب في معسكر مارس كانت كالفتيل الذي أشعل النار في وجه المكسيكي ومستشاره، حيث ضمت القائمة لاعبين صغار في السن ومحدودي الخبرة الدولية، وآخرين معدومي الخبرة تمامًا بل ولا يشاركون مع أنديتهم محليًا. لتنتشر في كل الصحف المصرية تكهنات تُشير إلى أن الدور الخفي الذي جاء من أجله الإسباني هو تسويق اللاعبين الشباب واستغلال معسكرات المنتخب الودية وحتى الرسمية من أجل زيادة السجل الدولي لبعض اللاعبين الشباب، من أجل تسهيل إنهاء تصاريح عملهم في أوروبا.
صورة من حساب وكيل اللاعبين «ممدوح عيد» رفقة «خافيير أجيري» المدرب المكسيكي للمنتخب المصري
كان «نادر شوقي»، وكيل الجناح المصري «رمضان صبحي»، ورئيس شركة كرة القدم بنادي الجونة، أشار إلى وجود خطة تجمع سالجادو وأجيري ووكيلهم المصري، أو بالأحرى صديقهم، «ممدوح عيد»، وكيل اللاعبين الآخر، من أجل زيادة السجل الدولي للاعبين بعينهم، وزعمت بعض الصحف المصرية أن هؤلاء اللاعبين قد تلقوا اتصالات هاتفية من أحد الوكلاء لتوقيع عقود معهم، ومن ثم تفاجأوا بانضمامهم إلى قائمة المنتخب المصري المشار إليها في مارس.في الواقع، لم تستحق خطة الاتحاد المصري كل هذا العناء حتى تنكشف، فالأمر كله واضح ومعلن بتكليف رئاسي؛ نقصد هنا رئاسة الجمهورية، وليس رئاسة اتحاد الكرة.
حينما هرب «هنري»
فور إعلان رحيل المدرب الأرجنتيني «هيكتور كوبر» بدأت المساعي المصرية في البحث عن بديل، وكان الاسم الأبرز والأقرب هو الفرنسي «تيري هنري»، والذي أكدت أغلب الصحف أنه وافق على كل الشروط الخاصة للمهمة، وينقصه فقط أن يتعرف على خطتهم للمستقبل والتي لم ترق له في النهاية فتوقف كل شيء. على مر التاريخ، شعر الجمهور المصري بالنقص في قوام منتخب بلاده مقارنة بمنافسيه داخل القارة الأفريقية. فمن غير المنطقي أن يفشل الفريق الذي يملك الرقم القياسي في عدد مرات الفوز بأكبر بطولة في قارة أفريقيا، في الصعود إلى كأس العالم من تصفيات تقام في نفس القارة وضد نفس الفرق!أكد أغلب المُطلعين أن ذلك يعود إلى ضعف الجانب المصري في خانة المحترفين. فمثلًا، تتواجد في المعترك المونديالي بشكل شبه مُستمر منتخبات تتفوق على نظيرها المصري في عداد المحترفين بِأوروبا: كغانا والجزائر والمغرب مثلًا، وحينما نجح المحترف المصري الأبرز عبر التاريخ «محمد صلاح» في الصعود ببلاده إلى نهائيات كأس العالم عام 2018، ثَبُتت الرؤية.أكد صلاح -نفسه- ذات مرة أن تجربته كمحترف ألهمت المصريين، خاصة أهل قريته، الذين باتوا يجبرون أبناءهم على ضرورة لعب كرة القدم وأن يحتذوا به. وصل ذلك الهوس إلى الإدارة المصرية، وأعلن المحترف السابق «أحمد حسام ميدو» بنهاية عام 2018، أنه كُلف من الرئيس المصري بإخراج 400 محترف على شاكلة لاعب ليفربول، حتى يتسنى للمنتخب المصري الاستفادة منهم في المستقبل. اقرأ أيضًا: مشروع الألف صلاح: مسمار جديد في نعش الرياضة المصرية بالتالي، فإن خطة الاتحاد المصري الواضحة هي «تكرار صلاح»، لأنها الأمل والخلاص بالنسبة للمصريين؛ أولًا لقتل النقص الخاص بعداد المحترفين، وكذلك للاستفادة التسويقية منهم، وهو الأمر الذي فشل فيه الاتحاد المصري مع «مو صلاح» وأدخلهم في مشاكل عدة.يبدو أن هنري لم تقنعه فاعلية خطة مصر فتواجد سالجادو، الذي يرغب في سَلك درب وكالة اللاعبين ورعاية الناشئين برئاسته لإحدى الأكاديميات بدبي، وكذلك تواجد لاعبين صغار في معسكرات المُنتخب لا يحتاج إلى عناء التكهنات والتفاسير خفية.
لأن أوروبا تعرف السر
في عام 2000،هدد نجوم المنتخب الغاني بمقاطعة منتخب بلادهم إذا قرر الاتحاد إقالة المدرب الإيطالي جوزيبي دوسينا لصالح مدرب محلي، كان ذلك ضمن سلسلة طويلة، لم يكن ذلك الحدث بدايتها ولا شكل نهايتها، من ارتباط اللاعبين الأفارقة بالعقلية الأوروبية، الذين بذلوا كل ما يملكون من مجهود من أجل الاحتراف للتدرب تحت أيديها، فبات من الصعب عليهم تقبل العمل وفقًا لعقليات يظنون أنها أضعف وأقل من الناحية التكتيكية.وبالرغم من أن الإحصاءات والأرقام تنصف المدرب الأفريقي على نظيره من القارة العجوز، لكن دائمًا ما كانت تستسلم الاتحادات المحلية إلى رغبات الشعوب واللاعبين ويتم التعاقد مع أحد العناصر الأوروبية.وفي هذا الصدد، كان اختيار سيدورف منطقيًا في ظل أزمة طاحنة يعيشها الاتحاد الكاميروني؛ تفكك في صفوف اللاعبين، ومشاكل في جانب المستحقات، ومن ثم هزائم واتهامات بالتلاعب بالنتائج. كلها أشياء ساعدت في إقالة المدرب البلجيكي «ستيف بروس» بالرغم من الفوز بأمم أفريقيا عام 2017، لأن الخيبة التي ضربت البلاد في كأس القارات ومن ثم الفشل في الصعود إلى كأس العالم 2018، كانا بمثابة طفح الكيل، وعليه كان لابد من تجديد الدماء.يقول «باتريك مبوما» إن اختيار الهولندييْن لقيادة منتخب بلاده كان اختيارًا خاطئًا لأن كليهما لا يعرف شيئًا عن الكرة الأفريقية. لا يمكن نفي هذا بالطبع، لكن الغرض الأسمى بالنسبة للاتحاد كان أعظم من ذلك، فقد كان المسعى هو وجود اسم لامع يجذب كافة الأنظار إلى منتخب الكاميرون مرة أخرى، وكذلك اختيار مدرب بقيمة سوقية ضخمة تجعل المحترفين يرغبون في التدريب تحت ولايته، ويعطي قراراته أفضلية جماهيرية فور صدورها.
لكن يظل الغريب في القصة هو ما قد يدفع سالجادو وسيدورف وكلويفرت وغيرهم إلى الهبوط إلى أدغال أفريقيا في ظل هذه الظروف الاستثنائية، بدلاً من التمتع بالعيش في أوروبا أو حتى في آسيا!
خريطة الكنز البديل
كرة القدم لعبة للفقراء، تنشأ وتترعرع في الأحياء والساحات الشعبية التي تُمارس فيها بشكل يومي. وخلال مسيرتها عبر كافة القارات، احتفظت قارتا أفريقيا وأمريكا اللاتينية بطابعهما الخاص من هذه اللعبة، والسبب واضح وهو أن شروط اللعبة تتوافر في هاتين القارتين.ما يمكن تلخيصه بأن جذور كرة القدم وشغفها الخالص مدفونان في تلك الأراضي، حيث منبع لنمو المواهب وشغف من كافة الأطياف. يغني مناخ كهذا عن أي ظروف سلبية أخرى، ويدفع أي باحث عن حقيقة اللعبة إلى الذهاب هناك بقلب منفتح.«كلارينس سيدورف»عن رحلته الأولى كمدرب داخل أفريقيا
في الحاضر، ربما نلحظ تفوقًا لقارة أفريقيا على نظيرتها اللاتينية فيما يخص إنتاج المواهب.يؤكد البرازيلي «جيلبرتو سيلفا» تلك الحقيقة، ويشير إلى أن تخطي حواجز الفقر في بعض الدول من أمريكا الجنوبية دفع الأطفال هناك إلى تفريغ شغفهم بكرة القدم عن طريق ألعاب الفيديو، وساعدهم على ذلك، أو بالأحرى أجبرهم، اختفاء المساحات المتاحة للعب بسبب الزيادة السكانية في أماكن من الأصل ضيقة للغاية.
لم تصل تلك الرفاهية إلى الأطفال في أفريقيا، فما زالوا يعتمدون على أرجلهم في تفريغ شغف اللعبة داخلهم كل ساعة تقريبًا. مضافًا إلى ذلك، أن الشعوب الأفريقية البسيطة لا تُعاني من فخر زائد وثقة بالنفس خارجة عن النطاق الطبيعي كما الحال في أمريكا اللاتينية، والتي ربما دخلت في حالة توازي حالة الكرة الإنجليزية التي وصفها الكاتب البريطاني الشهير «بريان جلانفيل» في كتابه «الخصم في كرة القدم»:
يمتاز الجمهور الأفريقي -على النقيض- بشغف وانفتاح على اللعبة لذاتها، يُقدر المُتعة الخالصة ويبحث عن السعادة بين سطور هذه الرياضة لأنه لم يجدها في حياته الطبيعية، بل ولا يكمن في داخله أي حقد على أي طبقة ولا عنصرية عرقية من أي نوع، ويفتح ذراعيه دائمًا لأي جنسية تأتي إليه طالما ستقدم له ما يطلب.
اقرأ أيضًا:لماذا أوصى الفرنسي «برونو ميتسو» بدفنه في السنغال؟
بالتالي، كانت أفريقيا دائمًا ملاذًا لمدربين أوروبيين ولاتينيين عِدة، صنعوا تاريخًا كبيرًا داخل القارة السمراء ما كانوا ليصنعوه لو قضوا حياتهم بالكامل في المحاولة خارج هذه القارة. وفي ظل حالة الانخفاض المستمر في الكرة اللاتينية، ستزداد قيمة التجارب في أفريقيا إلى حدٍ يتخطى سيدورف وسالجادو وكلويفرت، ربما يصل ذات مرة إلى «مورينيو» أو «فينجر» الذي يُعرف عنه شغف بالكرة الأفريقية لا يضاهى.