لماذا لم يرحل فرانشيسكو توتي عن روما طيلة الـ24 عامًا؟
عامًا بعد عام، وموسمًا تلو آخر، تستمر كرة القدم بتذكيرنا بأننا نشيخ ونتقدم في العمر كلما حان نهاية كل موسم كروي توديع أحد لاعبي الجيل القديم، لاعبون أثروا فينا عندما بدأنا متابعة كرة القدم في الصغر، وحَبَّبونا بها وجعلونا أكثر تعلقًا باللعبة بسبب تأثرنا بشخصياتهم وأدائهم. القائمة والذكريات طويلة وتطول، ابتداءً من زين الدين زيدان، إلى أوليفر كان وراؤول جونزاليس، مرورًا بستيفن جيرارد، و انتهاءً بفرانشيكسو توتي الذي أنهى رحلته الطويلة مع نادي روما مع ختام الموسم بحفل وداعي لأحد أساطير المدينة وقيصرها وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ المعاصر لها. على الرغم من معرفة الجميع بدُنّو أجل مسيرته الكروية واقتراب موعد نهايتها، إلا أن الوداع كان استثنائيًا ومؤثرًا، وغلب على طابعه الحزن والدموع والتصفيقات الحارّة من جماهير ولاعبي روما. في هذا المقال سنسلط الضوء على أهم المراحل في حياة توتي وأبرز اللقطات في مسيرته مع النادي.
فرانشيسكو توتي – في خطابه الوداعي خلال مباراته الأخيرة
أوليمبيكو الحب والجمال
أن تكون طفلًا من روما، يعني أنك ستكون أمام خيارين فقط: إما أن تكون أحمر أو أزرق، إما روما أو لاتسيو. وفي عائلة توتي، كان هناك خيار وحيد ولا إمكانية لحدوث غيره. فحب روما تم توارثه عبر العائلة، من جده جيانلوكا، إلى أبيه الذي نقل بدوره هذا الحب لطفله الصغير فرانشيسكو.
يَعتبر توتي نفسه محظوظًا لأبعد الحدود؛ لأن جده ترك له أثمن هدية ممكن أن يحصل عليها المرء، فروما بمثابة جزء من العائلة، هي الروح والدم الذي يجري في العروق، هي أكبر من مجرد كرة القدم. في صغره وعندما كان في السابعة من عمره، ذهب توتي إلى الأولمبيكو بصحبة والده للمرة الأولى، ويصف توتي هذه التجربة بأنها من أفضل الأمور التي اختبرها في حياته وأثرت في خلق هذا الترابط الروحي بينه وبين روما بغض النظر عن الحب الذي ورثه عن أبيه.
الأم مدرسة
في أزقة فيا فيتولونيا وسان جيوفاني، في الشوارع المرصوفة بالحصى، كان توتي يلعب كرة القدم مع أصدقائه، وهذه الأزقة تشهد بأن الكرة كانت بالنسبة لتوتي أكثر من مجرد حب أو متعة، فكان لديه بالفعل طموح كبير لجعل الكرة جزءا من مستقبله وحياته. كما أي طفل صغير،كان لديه ملصقات وقصاصات من الصحف لها مكان في جدران غرفته، وكان الرمز بالنسبة له هو قائد الفريق «جيانيني»، فكان أيقونة ومثالا يحتذى بالنسبة له باعتباره طفلاً من المدينة، من روما، مثل توتي تمامًا.
قبل ما يقارب 3 عقود، كان هناك أحد ما يقرع باب منزل العائلة، يقول توتيإن والدته فيوريلا ذهبت لفتح الباب، وعلى الجهة الأخرى من الباب تواجد أشخاص من شأنهم أن يحددوا مستقبله بشكل عام ومسيرته الكروية على وجه الخصوص. عندما فتحت والدته، وجدت مجموعة من الرجال الذين عرفوا عن أنفسهم بأنهم يعملون في أحد أندية كرة القدم الإيطالية. لم يكونوا من روما، بل كانوا يرتدون الأحمر والأسود، كانوا من AC ميلان. وأرادوا مني أن أنضم للميلان بأي ثمن لكن كان لوالدتي رأي حاسم يعرفه الجميع بالطبع.
3 دقائق من السعادة
عندما حان موعد المشاركة الأولى بقميص النادي، لم يعلم توتي أنه سيخوض مباراته الأولى إلا قبل ثوان عديدة، حيث قال له المدرب بوسكوف حينها أن يجهز نفسه للإحماء في 28 مارس 1993 عندما كان يبلغ من العمر 16 عامًا، شارك توتي لمدة 3 دقائق فقط ولم يلمس الكرة إلا في مناسبتين، إلا أنه كان سعيدًا للغاية، ليس لأجل نفسه فحسب، بل من أجل عائلته التي كانت مصدرًا لهذه السعادة.
روجيرو ريزيتيلي، لاعب نادي روما الذي حل توتي مكانه عندما شارك للمرة الأولى.
وكانت السعادة ذاتها بادية على محياه عندما دخل فرانشيسكو أرض الأولمبيكو للمشاركة للمرة الأولى في بيته العام التالي، حيث كان يمشي بكل فخر واعتزاز لأنه سيلعب في ملعبه وأمام أبناء مدينته، وكان يشعر بالفخر من أجل والده ووالدته، وبالأخص من أجل جده، وطوال هذه المدة التي قضاها في روما لم يتغير شيء قط، الضغط ذاته والاعتزاز نفسه لم يتغير أبدًا.
القائد الوفي!
إن الرومانسية التي تلازم اسم توتي لم تكن وليدة سنواته الأخيرة في اللعبة، وهذا التعلق بينه وبين جمهور اللعبة ليس بحديث العهد، بل كانت بدايته منذ اللحظات الأولى التي أثبت فيها توتي أحقيته بارتداء القميص، واستمرار نضوجه الجسدي والنفسي والفني مباراة بعد أخرى، وصولاً إلى اللحظة التي حظي فيها بثقة الجميع في غرفة الملابس و و في سن الـ22 ليصبح قائدًا لروما، و أصغر قائد في تاريخ الدوري الإيطالي. وحدث هذا في 31 أكتوبر 1998، خلال لقاء في الأولمبيكو جَمعَ روما بأودينيزي، استلم حينها فرانشيسكو شارة القيادة من البرازيلي ألداير، ومنذ ذلك الوقت لم يتخل عنها أبدًا.
ولم تأتِ شهرة فرانشيسكو من تلك الأحاديث عن وفائه وتضحياته من أجل النادي رغم تعدد خيارات الانتقال أمامه. فبعض مشجعي الجيل الحالي لم يعاصروا توتي في أوج عطائه، ولم يبهرهم بما هو قادر على فعله، ومن الإجحاف أن نقرن شهرته الحالية وهو في سن الـ40 بهذا التفصيل فقط، ونغض الطرف عن مساهمته الكبرى في اللقب الوحيد مع روما، تمريراته ورؤيته المميزة للعبة، قدراته الهائلة في المراوغة، لمسة الكعب الشهيرة، تسديداته الصاروخية، والأهداف الخيالية التي سجلها بمهارة وذكاء شديدين، وأبرزها هدفه الشهير أمام إنتر ميلان.
قيصرٌ عصري
أن تكون على مشارف المشاركة في مباراتك الأربعين في ديربي العاصمة، هذا أمر لا يتكرر كثيرًا ومن النادر حصوله في عالم اللعبة، وكي تترك بصمتك الخاصة بهذه المناسبة عليك أن تسجل أولاً، وأن تبتكر احتفالية تذكرك أنت والجميع أنك مازلت شابًا، وربما أصغر لاعب في العالم رغم تقدمك في العمر ورغم كل الانتقادات المتعلقة بمستواك البدني، ويجب أن تستعد لهذا الأمر بحلاقة جديدة ليكون المشهد مكتملاً ومثاليًا.
ما هو أجمل من ذلك أن تُعيد فريقك إلى المباراة بعد تأخره في النتيحة. هدفان للقيصر في الديربي بمثابة حبة الكرز التي ستزين قالب الحلوى، هدف أول بلمسة مميزة تنم عن خبرة في مداعبة الكرة اكستبها طوال هذه السنين، وآخر بلمسة غير متوقعة من لاعب بعمره، والآن الاحتفالية وصورة السيلفي التي ستبقي هذه التفاصيل في الذاكرة لسنين طويلة يتم تناقلها كحكاية أسطورية من تاريخ المدينة.
اللقطة ما قبل الأخيرة
منح «فرانشيسكو توتي» المدينة بشقها الأحمر الحياة والفخر والحب كما لم يفعله أي لاعب من قبل في روما. يقول «كارل هاينز رومينيجه» الرئيس التنفيذي لنادي بايرن ميونخ، والذي كان لاعبًا سابقًا في نادي إنتر ميلان، إن «مارادونا» فعل الأمر ذاته في نابولي عندما كان لاعبًا هناك، المدينة الفقيرة أصبحت تتنفس اللعبة من رئتي مارادونا وتقتات على إبداعاته، والأمر نفسه بالنسبة لروما مع اختلاف الطابع الاجتماعي والفوارق الكبيرة بين المدينتين.
كان توتي على مدى عقدين من الزمن بمثابة الهوية لنادي العاصمة الإيطالية، فارتبط مع روما ارتباطًا وثيقًا كارتباط الروح بالجسد، وبعد عقدين من الزمن كان أشبه بالشجرة المعمرة التي تضرب جذورها في أعماق فؤاد كل مشجع لروما. تساقطت أوراق الشجرة الواحدة تلو الأخرى عبر الزمن حتى الوصول إلى الورقة الأخيرة قبل عدة أسابيع ليبقى الحطب اليابس.
رغم رغبة توتي المعلنة والمتكررة بالاستمرار كلاعب لعام إضافي مع النادي، إلا أن مونشي – المدير الرياضي الجديد للنادي – قرر فور تعيينه قطع هذه الشجرة بجرأة كبيرة لم يقدر عليها من سبقوه في النادي، ورغم إعلان رحيله ستبقى ذكرياته خالدة في مخيلة كل رومانيستا، بسبب قيمته الفنية الكبيرة وعطاءاته وسحره في أرض الملعب.
الوداع الأخير
في نهاية مايو/آيار الماضي، وخلال جو صيفي مشمس في مدينة روما، لم يكن يوم الـ28 من مايو شبيهًا بأي يوم آخر مقارنة بالعقدين الماضيين. الهواء مختلف عن المعتاد، والشوارع يسودها صمت وهدوء غير مألوف في أيام العطلة؛ لأن المناسبة استثنائية وتكاد تكون أشبه بخسارة الحرب. بالاقتراب من النهر يستلل إلى الآذان صوت ضجيج يزيح هذا الهدوء شيئًا فشيئًا، ويزداد كلما اقتربت من ملعب الأولمبيكو، ويبدو لك أن الصورة تتضح بالتدريج بعد رؤية الأطفال والشباب والعجزة يحتفلون وهم متشحين باللونين الأحمر والأصفر في مشهد لم يعتده الأولمبيكو بهذا الزخم منذ سنين طويلة. المناسبة بكل تأكيد لم تكن حسم روما للقب الاسكوديتو؛ لأن هناك من تكفل بهذا الأمر منذ بضع سنوات.
حضرت جماهير روما بأعداد غفيرة إلى ملعب الأولمبيكو، وملأت كل فسحة صغيرة فيه لتوديع «فرانشيسكو توتي» الأسطورة الحية التي تستعد بشكل رسمي للدخول في صفحات تاريخ النادي بعد ما يقارب 25 عامًا مع الذئاب. نهاية رحلة أمتَع فيها ابن المدينة جماهير النادي بأدائه ولمساته الكروية الراقية، ونهاية حقبة طويلة حافلة بالحب المتبادل رغم قلة النجاحات، ونهاية مسيرة مهنية طُويَت فيها صفحة القيصر إلى الأبد، رغم أنها ستبقى حية وخالدة في ذاكرة كل شخص أحب روما وأحب توتي.