التغلغل الهادئ: لماذا أغلقت المغرب مدارس فتح الله غولن؟
بين ليلة وضحاها تبدلت الأدوار وتفككت التحالفات، وتحول الرمز من الصديق إلى العدو، ففي منتصف العام المنصرم تقريبًا عاصرت تركيا ليلة تبددت فيها كل معاني الأمان والاستقرار من القمة إلى القاع، ارتبكت البلاد في تلك الليلة نتيجة محاولة انقلاب عسكري لإزاحة الحكومة من السلطة والسيطرة عليها، لكن سرعان ما تم إحباط هذا الانقلاب البائس الذي اتهمت السلطات التركية «جماعة عبد الله غولن» بافتعاله.
فكان من الصعب أن تمر محاولة الانقلاب في تركيا بكل بساطة ولكن ترتب عليها العديد من النتائج المفصلية كان من بينها محاولة تركيا استعمال قوتها الدبلوماسية لإقناع العديد من الدول لإغلاق مؤسسات غولن التعليمية في بلادهم، ونتج عن ذلك الاستجابة الفورية للعديد من الدول، كان آخرها قرار وزارة الداخلية المغربية بإغلاق مدارس محمد الفاتح التابعة فكريًا لجماعة غولن، وهو قرار بدا مفاجئًا للبعض سيما في ظل خصوصية العلاقة بين جماعة غولن والمغرب ذات النفحة الصوفية.
فكيف وجدت جماعة غولن طريقها إلى المغرب؟، وما هي الدلالات السياسية لقرار إغلاق مدارس محمد الفاتح؟، ولماذا جاء القرار في هذا الوقت تحديدًا؟.
هذا ما سنحاول الإجابة عنه خلال السطور التالية.
كيف بنى غولن إمبراطوريته؟
جماعة غولن شهدت أول ظهور لها في أوائل عام 1970 بمدينة أزمير، وعرفت على أنها جماعة إسلامية ذات توجه صوفي «جماعة الخدمة»، ووضعت في أولوية اهتمامها التعليم والتربية وبناء المدارس والمعاهد التعليمية داخل تركيا وخارجها، ولم تقتصر تلك الجماعة على النشاط التعليمي والتربوي فقط بل اهتمت أيضًا بإنشاء المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والطبية والثقافية.
والجدير بالذكر أن جماعة غولن كونت إمبراطوية شديدة القوة بالنسبة لنشاطها التعليمي والتربوي المنتشر في كافة أرجاء العالم، إذ كونت آلاف المدارس في تركيا وآلاف المدارس في 100 دولة حول العالم، خاصة في قارة أفريقيا التي تعاني من ظروف قاسية، كما انتشرت في قارة آسيا والعديد من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
الأيديولوجية الغولونية والنورسية ترتكز بشكل أساسي على أن الجهل والفرقة والفقر هم المصدر الأساسي لمشاكل المنطقة، ومن ثم فقد صبت كل جهدها نحو التعليم والتثقيف. وبالرغم من أن محاولات غولن تأكيده تبني مفهوم غير مسيس للدين، فإن جماعة الخدمة ترتكز بشكل أساسي على فكرة التغلغل داخل أجهزة الدولة تأهبًا لمشروع سياسي مستقبلي، فيما اعتبره البعض نهجًا للتُقية السياسية تبيح لأعضائها شراء ذمم القضاة والمحامين لتحقيق هذه الأهداف.
وقبيل خلافها مع حكومة العدالة والتنمية في السنوات الماضية، فإن جماعة الخدمة كانت تتبنى نهجًا وسطيًا ومشروعًا غير متجاوز للدولة أو معادٍ للسلطات، بل إنها كانت أميل إلى تبني ضرورة التنسيق والعمل تحت مظلة الحكومات. فترى مؤسسة «راند» البحثية في تقريرها «إسلام حضاري ديمقراطي» فتح الله غولن بأنه صيغة لتحديث الإسلام شديدة التأثر بالصوفية، ويركز على التنوع والتسامح واللاعنف.
المدرسة الغولونية: كيف وجدت طريقها للمغرب؟
تنوعت أشكال غولن للتغلغل داخل المغرب بين ما هو تعليمي وثقافي وتجاري، فقد كانت بدايات الظهور لجماعة غولن بالمغرب عام 1994 عندما قامت ببناء مدرسة ابتدائية في مدينة طنجة بدعم من رجل أعمال مغربي، ثم توسعت الجماعة ببناء العديد من المدارس الأخرى في مدن المغرب كما في الدار البيضاء والرباط ومراكش وأغادير وتطوان والجديدة لتضم تلك المدارس 2400 تلميذ، وسميت هذه المنابر التعليمية «بمؤسسات محمد الفاتح».
تتسم مدارس جماعة غولن بقدرتها التكيفية وفقًا للقوانين المحلية لكل بلد على حدة؛ مما أكسبها قدرة أكبر على الاستمرارية والانتشار الواسع، لتصبح مدارس عابرة للحدود. ففي المغرب قامت هذه المؤسسات بناءً على التنسيق بينها وبين وزارة التربية والتعليم، كما أنها تخضع للرقابة والتفتيش من قبل وزارة التربية والتعليم، وتقوم بجانب دورها التعليمي بالعمل على مكافحة الفساد الأخلاقي في الدول الإسلامية.
لم يكن توسع الحركة بالمغرب قائمًا على المستوى التعليمي فقط بل امتد توسعها وتغلغلها للنشاط الثقافي واللغوي، فقد قامت بتدشين المركز الثقافي واللغوي التركي في الرباط في 2011، وأصبحت الجماعة بفضل المركز تقوم بالعديد من الأنشطة المختلفة من عقد ندوات وتنظيمها في العديد من الجامعات المغربية، وبذلك أصبح المركز أحد أهم أشكال التغلغل نتيجة استقطابه للعديد من الفئات المختلفة بالمغرب.
المغرب يعلق مدارس «الفاتح»: هل تنهار إمبراطورية غولن؟
لكن بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في منتصف يوليو/تمويز 2016، وتوجيه أصابع الاتهام في محاولة الانقلاب لجماعة كولن، بدأت تركيا في محاولة تطويق كاملة للجماعة من داخل تركيا وخارجها، وكان أكثر الأنشطة التي أثرت عليها عمليات التطويق هي الأنشطة التعليمية للجماعة.
داخليًا قامت الحكومة التركية بمجموعة من الإجراءات على العديد من المدارس والمعاهد التعليمية والمساكن الطلابية والمؤسسات الخيرية، امتدت تلك الإجراءات لفرض وصاية على المدارس والجامعات التابعة له، كما قامت بإلغاء تعيين العديد من المعلمين التابعين لجماعة غولن الإسلامية، كما قامت وزارة الخارجية التركية خارجيًا بحملة من أجل إغلاق المدارس والمؤسسات الثقافية التابعة لغولن خارج تركيا.
ولاقت الحملة الدبلوماسية التركية الترحيب من جانب العديد من الدول التي سارعت بإغلاق مدارس الحركة في بلادهم أمثال ليبيا والسودان والصومال، لكن الولايات المتحدة الأمريكية وقزغيزستان رفضت مطالب تركيا بإغلاق مدارس غولن من بلادهم، بينما المغرب لم تعلن قرارها إلا في بداية العام الجديد في يوم 5 يناير/كانون الثاني 2017 عندما أصدرت وزارة الداخلية قرارًا بإغلاق المدارس التابعة لعبد الله غولن ومنحت لمجموعة «محمد الفاتح» المسئولة عن تلك المدارس مهلة شهر لتنفيذ القرار، وجاء ذلك حسب ما أعلنت وزارة الداخلية المغربية نتيجة ترويجها لأفكار حركة الخدمة التي يترأسها غولن.
ما هي دلالات القرار المغربي؟
جاء قرار وزارة الداخلية مضمنًا برسالة فحواها أن «هذه المؤسسات التعليمية تجعل من الحقل التعليمي مجالاً خصبًا للترويج لأيديولوجية هذه الجماعة ومؤسسها، ونشر نمط من الأفكار يتنافى مع مقومات المنظومة التربوية والدينية المغربية».
لكن يبدو الأمر أبعد من ذلك كثيرًا، فتوقيت اتخاذ القرار في منتصف العام الدراسي وليس في آخره، إنما يشير هنا إلى سياسات تركيا الدبلوماسية لتطويق جماعة غولن خارجيًا، خاصة في ظل ارتفاع وتيرة العنف في الداخل التركي وتورط جماعة كولن في اغتيال السفير الروسي بتركيا.
اتخاذ القرار من وزارة الداخلية وليس وزارة التربية والتعليم المغربية والتي تتبعها تلك المدارس يدفعنا للتساؤل: لماذا جاء القرار من الداخلية؟
وهو ما يدفع بالقطع إلى القول بأن القرار لا يمت بصلة لمخالفة تلك المؤسسات للمناهج التي تضعها المغرب أو للنظم التربوية المغربية، على عكس ما جاء به مدير التعليم الخصوصي بوزارة التربية والتعليم المغربي بأن هناك فجوة بين البرنامج الرسمي والبرنامج الذي تقدمه مدرسة ليساسفة، إذن قرار الإغلاق هو قرار أمني يشير إلى القبضة الأمنية بالمؤسسات التعليمية.
كما أن الخوف من تمدد نفوذ غولن في البلد الصوفي يعد أحد الأسباب والمبررات السياسية والاجتماعية لقرار الإغلاق، خاصة في ظل الادعاءات بأن هناك تقاربًا بين جماعة غولن والإسلاميين بالمنطقة. يأتي هذا في ظل توقعات بتمدد النفوذ الصوفي في المنطقة العربية في أعقاب فشل تيارات الإسلام السياسي المعتدلة والجهادية في ملء الفراغات السياسية التي خلقتها أنظمة ما بعد الربيع العربي.
يبقى القرار سياسيًا لا يراعي مصلحة التلاميذ المنتمين إلى تلك المدارس في منتصف عامهم الدارسي، كما أن قرار الإغلاق لن يوقف التطرف من التمدد، ولكن التنوع والتعدد ومواجهة الفكر بالفكر والاستعداد التنموي والديمقراطي هو السبيل الأيسر لمواجهته.