على خلاف المذهب الشيعي، تعد الإمامة (الولاية السياسية) لدى المسلمين السنة من فروع الشريعة الإسلامية وليس من أصولها. كان هذا على الأرجح السبب الرئيسي الذي نتج عنه الظهور المتأخر للمؤلفات السنية المعنية بالفقه السياسي حتى منتصف القرن الخامس الهجري. كانت أولى الجهود لوضع كتاب مختص في الفقه السياسي هو عمل الفقيه أبي الحسن الماوردي في كتاب «الأحكام السلطانية».

منذ ذلك القرن إلى القرن الجاري، شهدت النظرية السياسية للإسلام السني عددًا من التحولات البطيئة والهادئة على الصعيد المعرفي، في مواجهة تطورات سارت على وتيرة أعلى وأعنف خلال تاريخ العالم الإسلامي على الصعيد الواقعي والعملي، لا سيما في القرنين الماضيين.

النظرية السياسية السنية

عندما ضعفت الخلافة وتصدع سلطان الدولة، ظهرت الحاجة الملحة لوضع صيغة إسلامية مثلى للحكم ليكون تعيين الحكام على أساسها.
المستشرق الفرنسي هنري لاؤوست

يقول المستشرق البريطاني هاملتون جيب إنه لا يمكن فهم نظرية الماوردي في الحكم، دون فهم السياق التاريخي التي دونت فيها، حيث ألف الماوردي كتابه في ظل فترة الضعف التي عاشتها الدولة العباسية، وأدت إلى صعود بني بويه، الأسرة الشيعية الزيدية التي أعلنت نفسها حامية للخلافة العباسية في بغداد، وسيطرت على مقاليد الحكم فيها، على إثر صراعات عنيفة دارت بين الأمراء وكبار القادة في الدولة العباسية، حيث في ظل تلك الحالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، رحب الخليفة المستكفي بالله بتدخل بني بويه. 

بعد وفاة الخليفة العباسي القادر بالله، وتولي الخليفة القائم بعده، التحق القاضي والفقيه أبو الحسن الماوردي ببلاط الأخير، وألف مصنفاته المعنية بالفقه السياسي مثل «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» و«قوانين الوزارة وسياسة الملك» كجزء من علاقته بالسلطة الحاكمة في ذلك، لتعضيد المركز القانوني والسياسي المتزعزع للخليفة أمام وزرائه أصحاب السلطة الحقيقية في ذلك الوقت.

بشكل استقرائي جمع الماوردي الأحكام المختصة بالولاية السياسية كأحكام الخلافة والوزارة والإمارة والحسبة والقضاء، ليشكل بذلك أول نظرية سياسية سنية خلال العصر الوسيط، تستعرض تصورًا كاملاً للخلافة الإسلامية وشروط تولي منصب الخليفة وصلاحياته وشروط عزله.

يقرأ هنا بعض الباحثين العرب بأثر رجعي، هذا الفصل الظاهري لدى الماوردي بين الأحكام السلطانية والولايات الدينية، الذي ينعكس أيضًا في عنوان مؤلف آخر من مؤلفاته، هو «أدب الدنيا والدين»، على أنه تعبير عن موقف علماني يعكس فصل الماوردي بين شأني الدنيا والدين بالمعنى الحديث والمعاصر.

إلا أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري يذهب في المقابل إلى أن ما يوحي به ظاهر العنوان، يختلف عن واقع الكتاب الذي لا يفصل بين الدين والدنيا، بالمعنى المعاصر، لأن هذا كان بحسبه من اللا مفكَّر فيه خلال التاريخ الإسلامي في ذلك الوقت، وإنما عكس العنوان تأثر الموروث الثقافي الفارسي الذي تأثر به الماوردي.

نشأة الفكر الإسلامي الإصلاحي

تعرض العالم الإسلامي خلال نهايات القرن الثامن عشر، وعلى مدار القرن التاسع عشر، لتهديدات كبرى أحاطت به من جميع حدوده الجغرافية، من القيصرية الروسية التي بدأت في حروبها التوسعية مع الدولة العثمانية في آسيا الوسطى، ومن الأساطيل البريطانية التي أحكمت سيطرتها على البحار حول العالم الإسلامي من شبه القارة الهندية شرقًا حتى مضيق جبل طارق غربًا، ومن تهديدات باقي القوى الأوروبية الاستعمارية كفرنسا وهولندا وإيطاليا وغيرها.

صاحب تلك التهديدات العسكرية، تهديدات اقتصادية أخرى من قبيل الاحتكارات والامتيازات الاقتصادية وإغراق الحكومات الإسلامية بالقروض والديون، هذا بجانب التهديد الثقافي من خلال إعادة تشكيل الهوية المحلية للأفراد في معظم مناطق العالم الإسلامي، من خلال تغيير النظام التعليمي والقانوني، وتغريب النخب الاجتماعية والثقافية بدءًا من الملبس وصولًا إلى مختلف العادات والسلوكيات، وانتهاءً بطريقة التفكير ولغة الحديث اليومية.

عرف العالم الإسلامي على إثر تلك التهديدات كما يقول المستشار طارق البشري، في كتابه « الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر» عدة موجات من محاولات الإصلاح الديني والسياسي لمواجهة تلك الأخطار المتزايدة، تمثلت الموجة الأولى في الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، والحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدية في السودان، وفي العديد من الدعوات والمبادرات العلمية والتعليمية، التي قام بها رجال إصلاحيون مثل ولي الله دهلوي في الهند والشهاب الألوسي في العراق ومحمد بن علي الشوكاني في اليمن.

وتمثلت الموجة الثانية في المبادرات والدعوات التي ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، علي يد رجال مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي، وتمثلت الموجة الثالثة في الحركات المقاومة للاستعمار، كحركة عبد القادر الجزائري في الجزائر وعبد الكريم الخطابي في المغرب ومصطفى كامل في مصر.

لم يتشكل خلال تلك الموجات الإصلاحية، نظرية سياسية بالمعنى الحقيقي، ولكنها كانت تلك الفترة مرحلة مخاض كبرى أفرزت الفكر السياسي العربي الحديث بمختلف اتجاهاته، وفي قلبها تجاه الإسلام السياسي، الذي نشأ كموجة إصلاحية رابعة للدعوة إلى فكرة الجامعة الإسلامية التي انهارت بعد إلغاء الخلافة الإسلامية في إسطنبول في 3 مارس/آذار من عام 1924.

رغم حجم القاعدة الجماهيرية الكبيرة لتيار الإسلام السياسي، لم يتمتع هذا التيار لعقود بعيدًا عن المحاولات الفردية، بمشروع نظري يعبر عن تصوراته السياسية والاجتماعية بشكل تفصيلي، حتى بدأت الجهود في هذا الإطار أخيرًا على يد إسماعيل راجي الفاروقي وزملائه من مؤسسي المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، الذين دشنوا مشروع «إسلامية المعرفة»، الذي كان يهدف بحسب مؤسسيه إلى أسلمة المعرفة الإنسانية والاجتماعية.

ما بعد الإسلاموية

ساعدت جهود العديد من الفقهاء والمفكرين والمؤسسات الإسلامية، في مقدمتها جهود المعهد المشار إليه، في خلق حالة من الجدل حول العديد من المفاهيم الإشكالية، مثل قضية موقف الإسلام من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي خلق بحد ذاته طيفًا سياسيًا متنوعًا داخل التيار الإسلامي، تتنوع داخله المواقف السياسية بين اتجاهات محافظة وليبرالية، واتجاهات سلفية وتقليدية واتجاهات حداثية، على النحو القائم اليوم.

في هذا السياق، انتقلت عدد من القضايا في الخطاب السياسي المعلن للتيار العام من حركات الإسلام السياسي، كالموقف من الديمقراطية والتعددية وحقوق المرأة السياسية، من المساحة الرمادية، إلى ما يشبه الثوابت في الخطاب والممارسة كما نجد لدى حزب العدالة والتنمية في المغرب وحركة النهضة في تونس وغيرها، وهو ما أدى على الصعيد العملي إلى تحول الأحزاب السياسية لتيار الإسلام السياسي، إلى أشبه ما يكون بأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، على نحو الذي خلق تلك الحالة التي أطلق عليها عالم الاجتماع الإيراني/الأمريكي آصف بيات «ما بعد الإسلاموية».

خلال هذه الحالة «ما بعد الإسلاموية»، تأثر كثير من الإسلاميين بأطروحات ما بعد الحداثة، الناقدة للحداثة الغربية، كأطروحات مدرسة فرانكفورت الألمانية والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، وبعدد من المنظرين العرب غير المسلمين بالضرورة، من أبرزهم المفكر الفلسطيني عزمي بشارة، وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا الأمريكية وائل حلاق، لا سيما بأطروحته في كتابه «الدولة المستحيلة» التي يذهب خلالها الأخير إلى أن مفهوم الدولة الإسلامية في عالمنا المعاصر، هو مفهوم مستحيل التحقق، وينطوي داخله على تناقض داخلي بحسب التعريفات السائدة لما تمثله الدولة الحديثة.

المثير هنا أن حالة ما بعد الإسلاموية في تبنياتها المعرفية الراهنة لأطروحات حلاق وغيره، ولا سيما في فئة المثقفين الذي يمثلون تلك الحالة المتجاوزة الإسلام السياسي بمفهومه التقليدي، يكاد يتطابق موقفها مع اتجاهات ما بعد الحداثة الغربية، وعلى رأسها اتجاه الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز ومدرسة فرانكفورت النقدية الذي لا يتجاوز حدود الموقف النقدي إلى مسألة طرح البدائل العملية، ويكتفي تقريبًا بتقديم الأطروحات الثقافية النظرية الناقدة للواقع الاجتماعي والسياسي الغربي المعاصر، دون تنظير جاد ومنهجي لتغيير هذا الواقع أو كيفية الاشتباك معه.