بالأرقام: لماذا تحطمت أسطورة داعش الاقتصادية؟
يومًا بعد الآخر، تنصهر التحصينات المادية لتنظيم داعش الدموي، وتذوب وتتحطم قلاعه الاقتصادية، التي مكنته طوال الأعوام الماضية من السيطرة على مساحات مترامية الأطراف من سوريا والعراق، بعدما جعلها قيادة مركزية له، تمد جميع أطرافه في العالم بالمال والعتاد والرجال، ويبدو أنه بات وشيكًا، وفقًا لأرقام وإحصائيات الخلاص من سرطان خبيث، دمر خلال أعوام قليلة، موارد المجتمع العربي والإسلامي، وخلق عنه صورة ذهنية مرعبة ليس بالسهولة التبرؤ منها.
«بيت مال داعش» تحت المهجر
بداية، ليس سهلا أن تبحث عن أرقام حقيقية، في الموارد الفعلية المغذية لـ«بيت مال داعش»، ولكن هناك مراكز بحثية اهتمت بالأمر منذ توحش التنظيم مرورًا بمؤشرات انكساره، وعنونت أفكار وتمركزت خلفها، للتأكد من حتمية انهيار داعش في القريب العاجل.
في عام 2014، وفي ظل عنفوان التنظيم، كان من المستحيل تقدير مصادره لجلب الأموال اللازمة، لتسمين قوته العسكرية وتحقيق أهدافه التوسعية، بسبب عوامل عدة، على رأسها سرية التنظيم، ونشاطه في السوق السوداء دون غيرها، وندرة التغطية المعلوماتية لكافة المناطق التي يسيطر عليها. إلا أن العديد من المراكز البحثية استندت لبعض الوثائق المالية المسربة، التي تتعلق بمناطق محدودة، خلال فترة زمنية قصيرة، بالإضافة إلى شهادات المقبوض عليهم من جنوده، والتقارير الحكومية، ودراسات مراكز الفكر، والمقابلات التي أجريت مع الخبراء والمسئولين الحكوميين.
وكانت أهم المصادر التي يمكن تتبعها وتوقعها بسهولة، أموال الزكاة وعوائد النفط والنهب ومصادرة الأملاك والغرامات، بينما لم تتوفر لأهم المراكز التي عنت بالأمر، وعلى رأسها المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي أي أدلة على وقوع التمويلات الخارجية في صدر التأثير المالي لعوائد التنظيم المالية.
كيف تدهورت العائدات المالية للتنظيم؟
في السنوات التي أعقبت عام 2014، ظهرت جليًا مؤشرات على انهيار عائدات التنظيم السنوية، بعدما تراجعت من 1.9 بليون دولار إلى ما يقرب من 870 مليون دولار خلال عام 2016، بحسب تقديرات خاصة للمركز العربي للبحوث، وأدى فشل التنظيم في تنويع مصادر دخله بفعل المحاصرة من قوات التحالف الدولي، إلى إرباك موازنته المالية المتداعية.
ويبدو أن سياسة تجفيف منابع الملف المالي للتنظيم، أثبت فعاليتها بعد وقوع داعش في مصيدة «الفقر» أصابه في مقتل منذ عامين؛ ما انعكس على خسارته حوالي 62% من الأراضي التي يسيطر عليها في العراق، و30% في سوريا، حسب تقديرات قوات التحالف نوفمبر/ شباط الماضي.
ويواجه التنظيم حاليًا شبح الهبوط إلى حدود الفقر المدقع، في ظل تراجع عدد السكان الخاضعين لسيطرته، وغلق الأعمال التجارية التي كان ُيفرض عليها الضرائب بسبب القتال الدائر، بجانب قلة عوائد حقول البترول والغاز بعد سقوط مدينة «الموصل» أكبر مصدر كان يدر عليه أموالاً لا تحصى في السابق.
مؤشر هبوط ميزانية داعش في 3 أعوام.
1ـ البترول
امتلك التنظيم من النفط في بدايات 2014 حوالي 400 مليون دولار، وفي هذا العام الذهبي له على كافة المستويات، لم تؤدّ خسارته لأراضٍ على النمو الموالي لموازنته المالية، بل على العكس زادت حصيلته، وارتفعت عوائده إلى 800 مليون دولار في عام 2015.
وكان ارتفاع مدخرات التنظيم في 2015 بسبب استماتته في الحفاظ على حقول البترول، وهو الأمر الذي تعقبه التحالف الدولي؛ لأنه كان يعلم جيدًا أن استمرار التنظيم في السيطرة على هذه الأذرع المالية يعني مزيدًا من الخسائر وإطالة أمد المعركة، دون انتزاع منابع النفط، وهو هدفه الأسمى من وراء الانزلاق في مستنقع داعش.
ولتطويق مصادر الأموال، استهدف التحالف أسواق النفط الرئيسية في سوريا والعراق، ولم يكتف بضربها وحدها، بل ذهب إلى مواقع استخراجه من المصافي إلى الشاحنات الناقلة، ما كان له أبلغ الأثر في إحداث عمليات شلل لموارد التنظيم، وهبطت العوائد سريعًا إلى 250 مليون دولار في عام 2016.
2ـ عوائد الخطف والفدية
رغم أنها ليست من مصادر التنظيم الرئيسية، إلا أن أرباحها قدرت عام 2014 بحوالي 40 مليون دولار. ومع الإفصاح عن الرقم، وحالة الهلع التي صاحبته، والتحفز الدولي ضد التنظيم، أحاط الدواعش العام التالي بسياج من السرية، لإبعاد القضية عن الصورة في الصراع الدائر، لاسيما وأنها أدت لتراجع شعبية التنظيم في بعض أوساط التيارات الإسلامية، الأقل تطرفًا، والتي تشكل وعاءً محتملاً له، لجلب مجاهدين يستطيعون تعويض النقص المتزايد في صفوفه بفعل الضربات المتواصلة والمتلاحقة من قوات التحالف والقوي الطائفية المناوئة له داخل سوريا والعراق.
وتغيرت الأمور قليلاً خلال عام 2016، ومع تسليط الضوء أكثر على التنظيم، والإيقاع بالمزيد من رجاله في الأسر، توفرت معلومات عن بعض إيراداته من خطف الأقباط، والحصول على فدية نظير إطلاق سراحهم، وأكد أحد رجال داعش أن التنظيم تقاضى نظير الإفراج عن 230 آشوري مسيحي، حوالي 30 مليون دولار، من عائلات المختطفين والكنائس الراعية لهم.
3ـ التبرعات الأجنبية
أبرز ما نتج عن محاصرة التنظيم إعلاميًا وعسكريًا، تجفيف مصادر التبرعات التي كان يتلقاها في السابق من بعض دول الخليج، لاسيما وأن الجماعات المعارضة للنظام السوري تتلقى دعمًا هي الأخرى من نفس الدول، ولكنها لا تلاقي إجماعًا علي تصنيفها تنظيمات خطرة، كما هو الحال مع «داعش»؛ ما يسهل دعمها ولو بطرق ملتوية، بأي حال لم تسجل أي مصادر أمنية أو بحثية معروفة أي تدفقات أو تبرعات خارجية من 2014 إلى 2016.
4ـ ليبيا
بنفس عوامل تجفيف منابع التنظيم، يخوض داعش النزاع الأخير له في ليبيا، بعدما تراجعت حصيلته بشكل كبير من عمليات خطف الأجانب العاملين علي الأراضي الليبية، بالإضافة إلى صده عند الحقول النفطية وخاصة منطقة الهلال النفطي، الممتدة بين بني غازي وطرابلس، والتي لا تبتعد كثيرًا عن مناطق تمركزه في سرت. ورغم تسبب هجماته في حرق العديد من خزانات النفط، وإتلاف ملايين البراميل، إلا أن عدم استحواذه عليها لا يمكنه على الأقل من تدعيم قوته المتداعية.
ويمكن النظر إلى عمليات تكثيف الهجمات الجنونية التي يشنها التنظيم، لنستطيع فهم حجم الأزمة التي يعاني منها. ففي الفترة الممتدة من فبراير/ شباط 2015، وحتى إبريل/نيسان 2016، شن هجمات عنيفة على قوات حرس المنشآت النفطية، وكان ينجح أحيانًا في السيطرة على أجزاء من الحقول النفطية، قبل أن يضطر إلى الانسحاب بفعل الضربات القوية لعناصر جهاز حرس المنشآت، المدعومين بالأهالي ورجال القبائل المدججين بالأسلحة الحديثة، بالإضافة إلى غطاء جوي وتوفره طائرات سلاح الجو الليبي.
وكانت خطة التنظيم تهدف بالإساس إلى السيطرة على نسبة كبيرة من الموارد النفطية في ليبيا، لتوسيع تجارته للنفط في السوق السوداء ما يضمن له الاستحواذ عليها والتحكم في أسعارها، لتعويض فقدانه مصادر تمويله في سوريا والعراق، لاسيما وأن ليبيا تمتلك أكبر مخزون للنفط في أفريقيا، باحتياطات تبلغ نحو 46.6 مليار برميل.
ولم يكن تنظيم داعش يترك بابًا لحصد الغنائم والأموال إلا وفتحه على مصراعيه، فكان يستغل عوامل الفوضى في ليبيا، والحروب الداخلية، والتناحر السياسي، للمتاجرة في تهريب البشر، لدرجة أنه حدد عمولة ثابتة للفرد 1000 دولار، لركوب البحر من الشواطئ الخاضعة لسيطرته.
وبنفس مقاربات الفضائح الإنسانية التي ارتكبها التنظيم بحق أثار مدينة تدمر الأثرية السورية، لم تسلم آثار ليبيا من العبث بها، إذ رصدت تقارير صحفية غربية في منتصف 2015، قيام «داعش» بالتنقيب بمحاذاة ساحل المتوسط في محيط درنة وسرت، للحصول على الآثار وبيعها، بالإضافة إلى فرض الجزية على الفلاحين والموظفين من غير المسلمين؛ ما أدى إلى تهجير الآلاف منهم إلى مناطق لا تخضع لسيطرته.