لماذا تعاطف الجميع مع «ريان» من دون أطفال العالم؟
بينما كان التعاطف مع الطفل المغربي ريان يتصاعد في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي عالميًا، كان السؤال الأهم: لماذا يتجاهل كل هؤلاء ملايين الضحايا من الأطفال في مناطق أخرى من المنطقة نفسها، في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وغيرها؟
الإجابة تظهر في دراسة لعالم النفس السياسي في جامعة أوريغون، بول سلوفيتش، التي كشفت أن العقل البشري ليس بارعًا جدًا في التفكير والتعاطف مع ملايين أو مليارات الأفراد، وأن قيمة حياة الشخص تتناقص بسرعة مع تزايد العدد، فيما وصفه بـ«التخدير النفسي».
لا قيمة ثابتة لحياة الإنسان
في السبعينيات، عمل باحثا علم النفس المعرفي، دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي، على نظرية الاحتمالات. وركزا على تقدير الأشخاص للأشياء التي بحوزتهم مع زيادة التكلفة. فوجدا أن للتغييرات على المستويات الصغيرة تأثيرًا كبيرًا، وبعد ذلك، مع زيادة التكلفة، استغرق الأمر المزيد والمزيد من الاختلاف حتى يمكن ملاحظته.
وجد الباحثان الفرق بين 0 جنيه و100 جنيه، على سبيل المثال، يبدو أكبر من الفرق بين 100 جنيه و200 جنيه، حتى تنعدم ملاحظة الفارق تمامًا حين تصل إلى الفارق بين 5800 جنيه أو 5900 جنيه، فيبدو أمام المتابع أن كليهما متماثل، على الرغم من أنه لا يزال فرقًا قدره 100 جنيه بين كل هذه المستويات.
من هذه الأرضية، راقب عالم النفس السياسي، بول سلوفيتش، مدى انطباق نفس النظرية على الأرواح، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن النتيجة نفسها تتحقق في حالة المآسي الإنسانية؛ لأنه لا توجد قيمة ثابتة لحياة الإنسان، ولأن قيمة الحياة الفردية تتضاءل إن كانت جزءًا من مأساة أكبر.
يقول سلوفيتش: «مع زيادة عدد الضحايا في مأساة ما، يتناقص تعاطفنا واستعدادنا للمساعدة بشكل موثوق. يحدث هذا حتى عندما يزداد عدد الضحايا من واحد إلى اثنين»، أو بتعبير آخر: «هذا ما يمكن تسميته بالتخدير النفسي. كلما زاد عدد الضحايا، زادت اللامبالاة».
تأثير التفرد
الجانب الآخر من نفس الظاهرة وصفه سلوفيتش بتأثير التفرد، وهو يعني أن الحياة الفردية تحظى بتقدير كبير. كلنا نبذل قصارى جهدنا لحماية فرد واحد أو لإنقاذ شخص ما في محنة، ولكن بعد ذلك مع زيادة الأعداد، لا نستجيب بشكل متناسب لذلك.
يهتم الناس بالأفراد. وهذا نراه مرارًا وتكرارًا في حالات أبسط كثيرًا من حالة الطفل ريان. تذكر مثلًا حين يحتاج طفل إلى عملية جراحية دقيقة، بينما لا يستطيع والداه تحمل تكاليف هذه العملية. تصل القصة إلى مجموعة أو صفحة عبر «فيسبوك»، لتتدفق التبرعات المالية والدعم بشكل هائل، فيما يصفه الباحث بأن «الناس يهتمون بدعم الأفراد، بينما يبدون اهتمامًا أقل بتوسيع دائرة الاهتمام، حتى لو كانوا قادرين على ذلك»؛ باعتبار أننا «مضطرون لمساعدة الأفراد، بينما مشكلات العالم أكثر تعقيدًا بكثير من أن يمكن حلها بجهد فردي».
يضيف أن الحل الوحيد هو التركيز على القصص أو الصور الفردية؛ باعتبارها دائمًا ما تثبت فاعلية لبعض الوقت في لفت الانتباه ورؤية صورة مصغرة من الواقع، ودفع الناس لإلقاء نظرة خاطفة على المشهد الأكبر والأكثر تعقيدًا، بما يساعد على فهمه، والتواصل معه عاطفيًا، ثم البحث عن وسيلة ما للتدخل في تخفيف وطأته.
هل تذكرون آلان كردي؟
في 2011، اندلعت الحرب الأهلية السورية، وارتفع عدد القتلى سريعًا وبلا هوادة من العشرات إلى مئات الآلاف، وبدأت وسائل الإعلام في التركيز أكثر على المواقف السياسية. لكن فجأة، ظهرت صورة الطفل الصغير جثة هامدة على الشاطئ، لتتحرك مجددًا موجات التعاطف مع ضحايا سوريا.
بحسب دراسة أجرتها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، أثبتت صورة آلان تأثيرًا كبيرًا في دفع الناس للاهتمام بأزمة الحرب الأهلية السورية ومآسي اللاجئين، بطريقة لم تجذبهم بها الإحصائيات اليومية عن سقوط مئات القتلى.
تتبعت الأكاديمية ردود الفعل. أبسطها كان محرك بحث جوجل، الذي يظهر هنا كيف سجلت قفزات هائلة في البحث عن كلمات مثل «سوريا» واللاجئين». وعلى الأرض، في السويد مثلًا، التي أنشأ فرع الصليب الأحمر فيها صندوقًا لجمع المال للمساعدة في معالجة التدفق الجماعي للاجئين السوريين، الذين وصل عددهم إلى 140 لاجئًا، تضاعفت التبرعات من 8,000 دولار إلى 430,000 دولار في اليوم التالي لظهور صورة إيلان، لتبقى مرتفعة لشهر تقريبًا، قبل أن تتضاءل مجددًا.
القصص الفردية تمسك أنت
تمنحنا هذه القصص الدرامية للأفراد أو الصور الفوتوغرافية فرصة سانحة للتعاطف، حيث تخرج الأفراد من حالة التخدير النفسي الجماعي إلى التعاطف مع حالة فردية ترى فيها شخصًا قريبًا منك، كأنه ابنك مثلًا، بالتالي تحاول فعل كل ما يمكن فعله لتثبت لنفسك أنك لم تقف مكتوف الأيدي. وغالبًا ما يجد الأفراد فرصة ما للمساعدة.
يقول سلوفيتش:
في حالة الطفل إيلان مثلًا، كانت التبرعات هي وسيلة المشاركة. في حالة الطفل ريان، توافد المغاربة إلى مكان الحادث لتقديم أي مساعدة ممكنة، ولو حتى تقديم الطعام والمشروبات لفرق البحث. أما البقية، فكانت المتابعة باهتمام، والتغريد عبر منصات التواصل الاجتماعي، هي الحل الأكثر مناسبة.
واحد فقط.. اثنان غالبًا لا
الأمر أكثر تعقيدًا، بحسب دراسة أجريت عام 2014، كشفت أن الرغبة في التبرع تنخفض عندما يزداد عدد الضحايا من واحد إلى اثنين. ولهذا سبب نفسي فسره الباحثون بسهولة تصور الكائن المنفرد والاتصال النفسي به.
تخيل مثلًا أنك ذاهب إلى عزاء والد صديقك. ستكون شديد التأثر غالبًا. ماذا لو توفي 3 من آباء أصدقائك في نفس اليوم؟ سيتغير تفكيرك تدريجيًا إلى الذاتية. ستقول لنفسك: «حسنًا. هذه هي الحياة. ولدي مشكلاتي الخاصة. لذا، لا ينبغي أن تتضاءل أهمية الحياة أمام مشكلة كتلك».
يقول سلوفيتش: «الشعور بالتعاطف لا يمكن أن يتضاعف. ولا يتعامل مع الأرقام بشكل جيد. يمكن تعظيمها أمام الرقم واحد، عبر قاعدة: «احم نفسي. أحم الذي أمامي». لذلك يمكن تعزيز التعاطف أكثر مع قصة فردية لشخص يشبهك أو قريب منك؛ إذ تحدث استجابة عاطفية قوية عندما يكونون في خطر.
شعور انعدام الفاعلية
بجانب فقدان الحساسية مع الأعداد الكبيرة، يؤثر الشعور الزائف بعدم الفاعلية على التعاطف مع القضايا الأكبر. هذا الشعور يتأثر بحقيقة أنك تساعد في جزء فقط من المشكلة، بينما هناك كثير من الأشخاص الذين لا تساعدهم ، وهذا يبعث مشاعر سيئة؛ إذ يتم اختراق التوهج الدافئ الذي تحصل عليه من المساعدة بواسطة العناصر السلبية في الصورة.
يستدل سلوفيتش بتجرية حقيقية أجراها عبر مطالبة الناس بمساعدة طفل محدد جائع، فتبرع أغلبهم بمبالغ متفاوتة، ثم كرر التجربة باستخدام صورة نفس الطفل في نفس الوضع، مصحوبًا بأرقام إحصائيات الجوع، فانخفضت التبرعات إلى النصف.
تسمى تلك الحالة انعدام الفعالية الزائفة لأنها تحدث للأشخاص الذين يمكنهم فعلًا إحداث فرق، لكنهم لا يشعرون بأن الأمر يستحق العناء؛ باعتبار أن مساهمتهم وحدهم لن تكون مؤثرة بما يكفي. لكن سلوفيتش يجزم بأنه حتى الحلول الجزئية يمكن أن تنقذ حياة كاملة.