لماذا قتلت «الأنا» الجميع إلا كريستيانو رونالدو؟
يُحكى في الأساطير اليونانية القديمة أنه كان هناك فتًى خارق الجمال يدُعى «نركيسوس»، عُرف عنه غروره الشديد، وشدة تباهيه بجماله، وعزفه عن كل من يقع في حبه، لاعتقاده أنهم أقل منه جمالًا.
أرادت الآلهة معاقبته، فدفعته ذات مرة للبحيرة، وأثناء تحديقه في الماء، وقع أسيرًا لانعكاس صورته، التي ظل يحدق فيها أيامًا وليالي لا يتحرك من مكانه، حتى انزرعت ساقاه في ضفة النهر، وتبدل حاله، فصار شاحب الوجه، وتساقط شعره، وصار زهرة النرسيس – أو النرجس – التي تنمو على ضفاف الأنهار، وتنحني تراقب صورتها في الماء.
ألهمت قصة نركيسوس العديد من الكتاب والمفكرين، وعلى رأسهم المحلل النمساوي «سيغموند فرويد»، الذي دفعته شخصية نركيسوس لإطلاق مصطلح «الأنا السيكلوجي»، أو النرجسية. على مر التاريخ كانت النرجسية، أو الأنا العالية، مرضًا قاتلًا لمعتنقيها، ولنا في «هتلر» و«ستالين» خير دليل، وفي التاريخ الرياضي وتحديدًا الكروي تتعدد الأمثلة، «إيريك كانتونا»، و«ماريو بالوتيلي»، و«روي كين»، وغيرهم ممن كانت تومئ موهبتهم بأنهم سيُخلَّدوا ضمن الأفضل في التاريخ، وهو ما لم يحدث لعدة أسباب، أهمها الغرور، أو الأنا العالية.
لكل قاعدة استثناء، والاستثناء في كرة القدم كان بلا شك النجم البرتغالي «كريستيانو رونالدو»، فكيف صنعت الأنا مسيرة رونالدو؟
رونالدو قبل كل شيء
عندما يتعلق الأمر بكريستيانو رونالدو فلا مجال للرمادية، إما أن تحبه أو تكرهه، وفي كلا الحالتين تطرَّف معظم وجهات النظر، فرونالدو أفضل لاعب في التاريخ في رواية أحدهم، وفي الأخرى هو الرياضي الأسوأ على الإطلاق، وكذا تُعامل تصريحاته عن نفسه بهذا القدر من عدم الحيادية في تناولها، فتُدلل هذه التصريحات على المثالية التامة التي يجب أن يكون لاعب الكرة عليها، وهي نفسها التي تُستخدم لإبرازه كشخص كريه، لا يأبه إلا لذاته.
دائمًا ما سعى رونالدو لإثبات أفضليته على منافسيه، وتحديدًا الأرجنتيني ليونيل ميسي، وفي سبيل ذلك لم يتوانَ عن فعل كل شيء يتيح له تلك الأفضلية، الانضباط والصرامة في التدريبات هي الرواية الأبرز التي تروى عن رونالدو في كل مكان لعب له.
يقول «بول كليمنت»، المساعدالسابق لكارلو أنشيلوتي في ريال مدريد، عن رونالدو:
ولكنه في المقابل يتوقع من الجميع أن يضعوه في المكانة التي يرى فيها نفسه، عندما تولى أنشيلوتي مسئولية تدريب ريال مدريد للمرة الأولى، كان هناك محادثة مهمة مع نجم الفريق كريستيانو، كان أنشيلوتي مقتنعًا جدًّا بأن خطة 4-3-2-1 هي الخطة المثلى للفريق، ويرى في تطبيقها أن يلعب رونالدو كمهاجم صندوق، بدلًا من أن يكون على الجناح الأيسر، لكن رونالدو أخبره أن يشعر براحة أكبر عند اللعب على اليسار، ويفضل استخدام سرعته على الجناح، والدخول لعمق الملعب، والتسديد كما اعتاد أن يفعل، فكان رد كارلو في غاية الذكاء، وهو ما أثمر تعاونًا ناجحًا بينهما مستقبلًا، حيث قال:
دائمًا ما يتحدث رونالدو عن أفضليته تلك، فلا غرابة أن يكون فريقه فاز لتوه بدوري أبطال أوروبا ويخرج ليتحدث عن عدد مرات فوزه الشخصي بدوري الأبطال، أو أن يُصرح بعد فوزه بأول بطولة دوري إسباني له مع ريال مدريد بأن تقييمه الشخصي في الموسم أعلى من تقييم الفريق، فهو كما يقول عن نفسه:
نقطة الأفضلية الشخصية هي النقطة المفصلية في حياة رونالدو، والتي يترتب عليها أن تكون صديقه أو عدوه، وذلك وفق تصديقك له من عدمه، إيتور كارنكا، المدرب المساعد لجوزيه مورينيو في ريال مدريد، يذكر أن هدف الكمال الذي سعى له رونالدو يومًا تلو الآخر كان دافعًا لتطويره، والوصول لما حققه، يتحدث كارنكا بأن رونالدو كان يسأله يوميًّا سؤالًا مكررًا؛ ألا ترى أنني الأفضل؟
والإجابة كانت في كل مباراة، وفي كل هدف يسجله، لكن كيف أثرت هذه المساعي الشخصية لرونالدو على الفرق التي لعب لها؟
مصلحة الفريق أهم
هناك جانب آخر من تصريحات رونالدو لا تتسم بالفردية في ظاهرها، أو الحديث عن ذاته، وأفضليته، ربما تكون هذه التصريحات كالتصريح السابق، عقب استبعاده من الجوائز الفردية، كالكرة الذهبية، لكنها تشير بشكل صريح إلى أهمية ما يحققه رونالدو من أرقام، للفرق التي يلعب لها.
في مانشستر يونايتد تحول رونالدو من لاعب واعد، يسجل 9 أهداف في كل البطولات موسم 2004-2005، إلى لاعب خارق يسجل 42 هدفًا في كل البطولات موسم 2008-2009، محرزًا لقب هداف الدوري وهداف دوري الأبطال، وحاصدًا لقب الحذاء الذهبي، والكرة الذهبية، مثلت قصة توحش رونالدو، وتضخم أرقامه، نقطة نجاح لمانشستر يونايتد هو الآخر، فالفريق حصد في الموسم نفسه لقب البريميرليج، ولقب دوري أبطال أوروبا.
وهو ما سينطبق على ريال مدريد فيما بعد، فاللاعب الذي صار الهداف التاريخي للنادي، وكان يضع نُصب عينيه ميسي وأرقامه، ساعدت أهدافه بلا شك الفريق في فترة تُعد من الفترات الذهبية في تاريخ النادي الإسباني. والأمر نفسه ينطبق على منتخب البرتغال، فرونالدو الذي صار الهداف التاريخي للمنتخبات، ساعدت أرقامه بشكل أو آخر في حصد البرتغال اللقبين الوحيدين في تاريخها، وهما لقب يورو 2016، ودوري الأمم الأوروبية 2018.
ربما يكون باطن تصريحات رونالدو عن أهمية الفريق على أرقامه الشخصية، أنه لا يولي اهتمامًا لهذه الأرقام والجوائز الفردية فقط حين يغيب عنها، ولكن في كل الأحوال حتى ولو أفادت هذه الأرقام رونالدو أكثر من الفرق التي لعب لها، فإن جزءًا كبيرًا من تاريخ هذه الأندية لم يكن ليُكتب لو لم يلعب ويسجل لها رونالدو هذه الأرقام، وهذا لا يعني بالضرورة أنه كان العامل الوحيد في حصد هذه الأندية للبطولات، ولكنه كان ضلعًا رئيسيًّا ضمن عدة أضلاع ساعدت على ذلك.
والسؤال الآن؛ إن كانت أنانية رونالدو ساعدته وساعدت فرقه، فهل يُعد ذلك دحضًا لنظريات الأنا التي تحدثنا عنها بداية؟
عَض يدي ولا تعَض أفضليتي
إن إرضاء غرور رونالدو يُعد أحد الأعباء التي يتحملها المدرب الذي يتولى مسئولية الفريق الذي يلعب له، فكما ذكرنا موقف أنشيلوتي معه أثناء توليه قيادة ريال مدريد، وأنه كان من الذكاء أن يُرضي رونالدو، ليأخذ منه أفضل ما عنده، كانت هناك مواقف أخرى سلبية، خسر فيها الطرف الذي لم يأبه لأهمية إرضاء رونالدو وغروره.
كانت أنا رونالدو أحد العوامل الرئيسية التي أثرت – في أحيانًا كثيرة – سلبًا على الأندية التي لعب لها، سواء بشأن المدربين وحتى اللاعبين، كان رافا بينتيز أحد أشهر ضحايا رونالدو، عندما تولى تدريب ريال مدريد، فالرجل لم يعترف بأفضلية رونالدو المطلقة، بل تحدث علنًا بأن الويلزي جاريث بيل هو أهم لاعبي الفريق، والنتيجة هي طرده بعد 7 أشهر فقط من توليه تدريب ريال مدريد.
كيروش كان ضحية أخرى لرونالدو عندما كان مدربًا للمنتخب البرتغالي. لم تكن الأمور على ما يرام بين الثنائي، لقد فهم رونالدو دائمًا قوة صوته.
«اسأل كيروش»، كانت إجابته عندما طُلب منه شرح أدائه المخيب للآمال في كأس العالم 2010. تم إقالة كيروش بعد البطولة.
لا ينبغي لنا أن ننسى رد فعل رونالدو عندما تجرأ ساري على استبداله بعد 55 دقيقة من مباراة يوفنتوس ضد ميلان، حينها سار رونالدو إلى النفق المؤدي لغرفة الملابس مباشرة، قبل أن يغادر الملعب، ويذهب إلى المنزل، وكذلك تذمره على رالف رانجنيك مدرب فريق مانشستر يونايتد السابق، عندما استبدله في مباراة اليونايتد أمام برينتفورد الموسم الماضي في البريميرليج.
كان هناك سؤال رئيسي قبل عودة رونالدو إلى اليونايتد في الموسم الماضي، هو ما إذا كان وجوده في الفريق سيكون له تأثير سلبي على مجموعة المهاجمين الشباب الموهوبين في يونايتد، كان أحد مبررات عودة رونالدو هو أنه سيصبح نموذجًا يحتذى به للاعبين الشباب، فكرة أن البرتغالي سيصبح معلمًا لزملائه عديمي الخبرة مغرية، من منهم لا يريد التعلم من أحد عمالقة الكرة في العصر الحديث؟
المشكلة هي أن هناك القليل من الأدلة التي كانت تشير إلى أن رونالدو في أي مكان قريب من تلك المرحلة في مسيرته أسعده أن يشغل مقعدًا خلفيًّا في الفريق ويساهم في تطوير زملائه، مشاكله مع فريق الشباب بقيادة إيسكو وأسنسيو كانت خير دليل على ذلك، لقد هبطت الأنا الخاصة برونالدو في مانشستر من جديد، وكما كان مُتَوَقعًا كانت اللاعب الرئيسي في الحكاية، وبرهنت أن هناك الكثير لنتعلمه من رونالدو، التزامه مذهل لكنه موجه لمجده أولًا ثم تأتي البقية.
يتبقى سؤال وحيد؛ هل بمرور الزمن وتقدم رونالدو في العمر قلت حدة أنا رونالدو؟
الإجابة الحالية هي لا، فسعي رونالدو لعرض نفسه على أندية مثل تشيلسي وبايرن ميونخ في سوق الانتقالات الحالي ليس لشيء إلا لمصلحته الشخصية، وحتى يتمكن من المشاركة في دوري أبطال أوروبا، حتى ولو كان ذلك على حساب مشروع بيته الأول مانشستر يونايتد تحت قيادة مدرب واعد مثل تين هاج، غير مبالٍ بأي شيء كما فعل دائمًا.
لكننا جميعًا نخشى أن يلقى رونالدو مصير نركيسوس في النهاية، ويقع ضحية الإعجاب الشديد بصورته، خاصةً مع وجود عامل جديد في المعادلة، وهو تقدمه في العمر، فنخشى أن تتغلب القاعدة على الاستثناء كما يحدث دائمًا.