للحج قدسية لم يكتسبها غيره من فرائض الإسلام؛ قدسية تنبع في الأساس من فكرة «زيارة بيت الله». تمتلئ النفس هيبة بمجرد التعمُّق البسيط في الفكرة؛ فلرب الكون بيت على أرضنا، التي هي نُقطة في كون لا متناهٍ، لكن الله اختار أن يكون له هنا بيننا بيت، مقصد معلوم، يدعو القادرين من المؤمنين به إلى زيارته، في موعد محدد من كل عام. هذا موعد المشتاقين والمريدين، وذلك «بيت الله»، مَن دخله فهو آمن، ولا يخرج منه زائره إلا وفي نفسه نورٌ مما سوف يجده فيه.

وفي مصر، البلد الذي تزخر ثقافته بمظاهر الاحتفالات الدينية، منذ عهد الفراعنة على امتداد تاريخها الديني وتنوعه؛ اكسبت كل عقيدة اعتنقها أهلها مظهرًا «مصريًّا» لا تخطئه العين أبدًا؛ فالمصريون شعبٌ يميل للاحتفالات الجماعية، كما يمارس الحزن في جماعات أيضًا؛ فكان لا بد للحج بما فيه من قداسة أن ينال نصيبه من خلطة التديُّن المصري، وأن ينال زوار بيت الله بعضًا من طُهر وقداسة مقصدهم، قداسة تستحق الاحتفاء، والاحتفال الجماعي بها.

موكب بهجة الحجيج في عصر المماليك

علاقة مصر بصناعة كسوة الكعبة ممتدة؛ فلقد بدأت منذ عهد الخليفة «عمر بن الخطاب» – رضي الله عنه – بعدما طلب من والي مصر «عمرو بن العاص» أن يرسل لمكة كسوة للكعبة، مصنوعة من القماش «القباطي» الذي اشتهرت مدينة الفيوم بصناعته، وسُمي بهذا نسبة لأقباط مصر.

وقد كان لـ «شجر الدُّر» يد السبق في البدء بفكرة «المحمل» الذي يخرج من مصر حاملًا كسوة الكعبة وصولًا إلى المسجد الحرام، إلا أن الاحتفال بموكب الحجيج بشكله المميز بدأ في عصر السلطان المملوكي «الظاهر بيبرس»، كما يرصده كتاب «احتفالات الحج المصرية في عصر سلاطين المماليك»، حيث كان المحمل يطوف القاهرة بكاملها، يصاحبه الطبل والزمر، وتعم مظاهر البهجة في الأرجاء كتزيين المحلات التجارية والرقص بالخيول، وكان الوالي أو مَن ينوب عنه يحضر خروج المحمل، الذي يطوف في القاهرة ثلاثة أيام، وموكبه عبارة عن جمل يحمل كسوة الكعبة، وخلفه الجمال التي تحمل المياه وأمتعة الحجاج، ومن خلفه الجنود الذين يحرسون الموكب حتى الحجاز، ومن ورائهم رجال الطرق الصوفية الذين يدقون الطبل ويرفعون الرايات.

حالة كاملة من الاحتفال يعيشها البلد، من رأس الدولة حتى الحرافيش، وينضم حُجاج شمال أفريقيا من بلاد المغرب؛ ليتحركوا بصحبة نظرائهم من المصريين في الموكب المهيب.

هذا عن الاحتفال الشعبي العام الذي تشارك فيه وتؤسس له الدولة، أمَّا احتفالات الأهالي فقد كان لها شأن آخر، فبيت الحاج يتحول على مدى الشهر الذي يسبق تحركه للحج لمزار الأهل والأحباب، الذين يأتون لتقديم التهنئة، وتحميله بالدعوات لهم في بيت الله المبارك.

حفلات إنشاد صوفي مصحوب بالموسيقى كان يقيمها المقتدرون من الحجاج للجيران والأهل، حيث الطعام والابتهالات هو وقود الاحتفال بزائر بيت الله، الذي سيتزين اسمه قريبًا، عقب عودته، بلقب «الحاج»، في زمن لم يكن يُطلق فيه هذا اللقب إلا على مَن حج بالفعل بيت الله الحرام؛ كلقب تشريفي لا يناله أي أحد ولو على سبيل المجاملة؛ فهذا التشريف لا يستحقه إلا الذي بذل مشقة الحج بالفعل؛ فمشقة الحج في ذلك الزمن كانت أضعاف زماننا الحالي، فوسيلة مواصلاتهم كانت الجمال، التي تعبر بهم الوديان والصحارى، وصولًا للبحر الأحمر، الذي يعبرونه في قوارب ومراكب بدائية، في زمن ما قبل اختراع الماكينات البخارية، ومن بعدها ركوب الجمال في صحراء الحجاز؛ وصولًا لبيت الله الحرام؛ فلا بد للمشتاق من تذوُّق المشقة في سبيل الوصول.

زفة العرسان

وديني يا دليل وديني
ع النبي أشوفه بعيني
النبي أهو عدى وفات
على منى وجبل عرفات

صغيرًا كنت أجلس ملتصقًا بجدتي. ما تزال رائحة شالها الأسود تعبق أنفي حتى الآن. كُنَّا يومها في زيارة لإحدى قريباتنا التي كانت ستذهب للحج خلال أسبوعين، أتذكر الأغاني تملأ الأجواء، وأنا أصفق مصاحبًا اللحن بصحبتهم، وإن لم أكن أحفظ الكلمات بدقة مثلهم.

يا رب توعدنا
ونحج بيت الله
ونحج بيت الله ونزور
سيدنا النبي اللي عليه النور
آن الأوان صفر يا بابور
ونحج وننول فرحتنا

تجلس «الحاجة»، التي منحوها اللقب تبركًا قبل أن تنال شرف الزيارة، مبتسمة في خجل، رغم سنين عمرها التي قاربت على الستين؛ كأنها عروس عذراء، جلست بين أقرانها من النساء، يُطبلن ويغنين لها، يزففنها لزيارة بيت الله.

تصدح قريبة لنا تجلس في مواجهتي ممسكة بدف في يدها:

نبينا يا نبينا
يا داخل الجنة بينا
نبينا من جماله
جريد النخل طاطى له
يا هنا من راح وزاره

هكذا اعتاد المصريون على معاملة الذاهب للحج؛ فهو عريس يُزَف للزيارة المباركة؛ فحالة البهجة والفرح والغناء المصاحبة لاحتفالات الذاهب للحج لا يمكن تفريقها عن احتفالات الزواج إلا بمراقبة بعض التفاصيل، ككلمات الأغاني والأناشيد التي تُقال، لكن البهجة هي نفسها. حاج بيت الله لا يرتدي قبل ذهابه إلا الأبيض من الملابس، حتى ما ينتعله في قدميه. يذهب في صحبته إلى السيارة التي ستحمله إلى المطار أو الميناء أو أتوبيس السفر من يقدر من الأهل والأحباب، في ميكروباصات وسيارات، يرفع بعضها «رايات بيضاء»؛ فهذا موكب الزيارة المباركة، التي سيعود الزائر منها – بإذن الله – بقلب أبيض خالٍ من دنس الذنوب.

وعلى جدران منزل زائر بيت الله، خاصةً في الأرياف والمناطق الشعبية، اعتاد المصريون أن يرسموا لوحات بسيطة، تعبر عن أداء صاحب البيت مناسك الحج؛ مثل الكعبة والجمال التي كانت وسيلة نقل الحجيج لمكة المكرمة قديمًا والسفن، وصولًا إلى الطائرات، وكتابة اسم صاحب البيت على الجدار مصحوبًا بكلمة «الحاج»، وعبارات مثل «لبيك اللهم لبيك» و«حج مبرور وذنب مغفور».

لوحات متفاوتة في إتقانها؛ فبعضها مجرد رسوم ساذجة، وبعضها لوحات مُتقنة رسمها محترفون؛ تمثل تاريخًا كاملًا من احتفاء المصريين بطقس الحج، كعادة المصريين على امتداد تاريخهم في تدوين ما يأملون في أن يتجاوز الزمن مما قاموا بفعله ويعتزون به.

وعلى مدى 10 أعوام، أرَّخت المُصورة الأمريكية «آن باركر»، والكاتبة «آفون نيل»، لهذه الظاهرة من خلال كتاب «رسومات الحج» Hajj paintings، الذي تتبعتا فيه هذه الظاهرة المصرية الفريدة، في مختلف ربوع مصر، من خلال رصد رسوم الحج عل البيوت من الخارج، والجدران الداخلية كذلك، وتحدثوا إلى أصحاب تلك البيوت عن ذكرياتهم مع الحج، ورصد الكتاب التحوُّل الذي صاحب رسوم الحج، منذ أن كان نشاطًا يقوم به أصحاب البيت أنفسهم، أو مَن يقومون بواجب التهنئة للحاج، ثم تطور الأمر ليصبح أكثر إتقانًا وحرفيةً وصار حرفة يقوم بها الخطاطون والنقاشون، فيرسمون قصة الحج على جميع جدران البيت؛ من بداية تمني الحاج أداء فريضة الحج، وارتداء ملابس الإحرام، وتحضير الحقائب للسفر، ووصولًا للأماكن المقدسة.

الاحتفال على الطريقة الحديثة: نقرة على شاشة

أعادت التكنولوجيا تعريف مظاهر الحياة من حولنا بشكل عام. ثم جاءتْ مواقع التواصل الاجتماعي لتعيد تعريف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، بشكل جديد؛ فعرفنا أشكالًا جديدة للسعادة والحزن والمواساة، بعد أن تحولت حيواتنا، بمباهجها ومآسيها، لصور وعبارات وأيقونات مدمجة عبر شاشات الأجهزة المختلفة. للسعادة رمز تعبيري، وللحزن كذلك، مشاركة الفرح والحزن من خلال «التعليقات»، وإذا أردتَ زيادة الود؛ يمكنك أن تبعث رسالة إلكترونية.

لم يفلت الاحتفال بالحج من حالة التحديث التكنولوجي التي عمَّت الجميع، خصوصًا في المدن المزدحمة؛ فكلما ارتفعت الطبقة الاجتماعية، زاد الميل للفردانية، حتى في الاحتفال بشيء مثل زيارة بيت الله. عندها يكفي أن ينشر الحاج صورة له في المسجد الحرام، وفي الخلفية الكعبة، مصحوبة ببعض العبارات؛ لتأتيه عبارات التهنئة ورسائل المباركة.

تراجعتْ مظاهر الاحتفال الجماعي، فيما عدا بعض سكان المناطق الشعبية وأهل الريف والصعيد، الذين ما زالوا يحتفظون بالروح الاحتفالية المقدسة لطقس الحج وزيارة البيت الحرام ومسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يظهر في هذا الفيديو الذي سُجل لمجموعة من السيدات المصريات، اللائي تغلفهن البساطة، وقد جلسن في الحرم النبوي الشريف، وهن يغنين وينشدن بالعامية المصرية؛ احتفالًا بزيارة مسجد الرسول.

https://www.youtube.com/watch?v=zJXuTxKOzXc
استخدم الناس السوشال ميديا؛ لأنهم كرهوا أن يكونوا بجوار بعضهم البعض، ولأنهم خائفون من أن يكونوا بمفردهم.
الروائي الأمريكي «تشاك بولانيك»

ربما تلخص هذه العبارة الفارق بين مظاهر الاحتفال بالحج بين الماضي والحاضر، وإن ظل البعض حتى الآن محتفظين بنفس الدفء الاحتفالي الجماعي؛ متغلبين على إيقاع سريع متلاحق يحكم العالم من حولهم، يخطفون لحظات حقيقية من مشاركة السعادة بينهم في العالم الواقعي، بعيدًا عن برودة العوالم الرقمية.