يبدو الحديث عن التغيير في محيطنا العربي والإسلامي ولمدة طويلة من الزمن أسيرًا لفكرة الدولة، إذ تهيمن الدولة على خيال السياسي والداعية والمفكر حين تراوده أفكار الإصلاح؛ إما بمحاولة الضغط عليها ودفعها لتبني ما يطرحه من أفكار أو سياسات، وإما بأن يسعى للسيطرة عليها لتكون وسيلته لتحقيق ما يؤمن به، وفي الحالتين تكون الدولة دائمًا حاضرة.

تتجلى الهيمنة الفكرية لذلك المصطلح كمصطلح مركزي منذ نهايات القرن التاسع عشر مع وصول الدولة الأوروبية أوج تجليها وفعاليتها كوسيلة تنتظم المجتمعات الحديثة من خلالها، لتخطف ألباب رواد التنوير في العالم العربي والإسلامي فيقعون أسرى المحاكاة والتقليد تارة، وتُفرض تلك البضاعة عليهم عبر الضغط الاستعماري من موقع المنتصر المتفوق حضاريًا، تارة أخرى.

منذ ذلك الحين اهتم العرب بتجليات الدولة الحديثة دون جوهرها، فقد وقعوا في عبادة تجليات السلطة الحديثة من مظاهر بنيوية كالترتيبات البيروقراطية والبنى التشريعية والإدارية للدولة الحديثة State، ولم يولوا سوى اهتمام ضئيل لأسسها الاجتماعية والفكرية، وهو ما خلق لديهم مفهومًا ملتبسًا عن الدولة، يتجلى في واقعنا اليوم في «الدولة» العربية المعاصرة، أو ما يمكننا أن نطلق عليه بالأحرى «الولاية».

مفارقة لغوية

تبدو ترجمة مصطلح State إلى مصطلح «دولة» أمرًا مثيرًا للدهشة، فكلتا الكلمتين بينهما تناقض ظاهر، فبينما يعود مصطلح State إلى الجذر اللاتيني Statique والذي يعني السكون، نجد أن معنى كلمة «دولة» الموجود في المعاجم العربية كالصحاح ولسان العرب وغيره، وكما ورد في القرآن الكريم يعني التقلب والتعاقب والتداول، تقول: دالت دولته أي انقضت أيامه[1].

كما أننا نجد شرح مصطلح State في معجم Oxford يعني: أمة أو قطعة من الأرض تعتبر كمجتمع سياسي منتظم تحت حكومة موحدة، بينما نجد شرح كلمة الدولة إلى وقت قريب جدًا كانت وما زالت تترجم بمعنى «السلالة الحاكمة»، كالعباسيين والفاطميين وغيرهما.

فنجد أن برنارد لويس يشير إلى أن أول مرة ظهر فيها مصطلح «الدولة» بمعناها الحديث الـState كان في مذكرة عثمانية كُتبت حوالي عام 1837، وهو المفهوم الذي لم ينتشر؛ إذ نجد أن قاموس «المنجد» الذي تم تأليفه عام 1908 يورد أن الدولة عند أرباب السياسة هي «الَملك ووزراؤه» دون أن يتجاوز بالمصطلح إلى أبعد من ذلك من معاني الكيان السياسي أو التنظيم الواسع[2].

ظهور المصطلح في الغرب ودلالاته

ظهر مصطلح الدولة الحديثة مع توقيع صلح ويستفاليا عام 1648، والذي توج سلسلة من الحروب اجتاحت أوروبا بين الممالك الكاثوليكية والبروتستانتية استمرت ثلاثين عاماً، إلى أن تم عقد هذا الصلح بين الممالك الأوروبية المتناحرة.

كان جوهر ما تم التوصل إليه من اتفاقات في هذا الصلح ينبع من حقيقة أن الدولة كيان مجرد ودائم، موجود بحد ذاته، لا تتحدد شروطه بشخصية حاكمها أو المصالح العائلية أو مطالب الدين، بل تتحدد بالمصلحة القومية؛ ومن هنا بدأت الدولة القومية في كونها الوحدة الجوهرية في كيان الدولة الحديث؛ حيث ظهر مصطلح «الأمة – الدولة»، كما ظهرت فكرة السيادة لتعطي معنى أبعد للدولة وللحيز الذي تتخذه في المجال العام، فقد ازداد دور الدولة في السيطرة على مواطنيها، وضبط الحدود بينها وبين الدول الأخرى، كما ترسخت حقيقة وجود جيش دائم يعيش على أطراف المدينة في معسكرات دائمة؛ لتظهر بذلك العلاقات المدنية العسكرية ومن أبرزها انبثاق البيروقراطية من هيراركية الجيش وصبغها للإدارة العامة، وكذلك ظهور البيروقراطيات المتخصصة وتحكمها في الاقتصاد، وكذلك تغير طريقة ومناهج التعليم لتدعم تلك البيروقراطية الضخمة[3].

يقول العروي في حديثه عن مفهوم الدولة إنه حتى ننجح في وصف نموذج الدولة الحديثة فبإمكاننا اختيار أمثلة تاريخية معروفة وانتقاء العناصر الأكثر ملازمة، أي تلك التي بوجودها تتضح ظاهرة الدولة الحديثة وباختفائها تضمر وتختفي، وهي طريقة استخدمها هيغل في مؤلفاته السياسية، إذ كان يتخذ حينًا فرنسا وحينًا آخر إنجلترا كمثال لبلد تحققت فيه عناصر كان يعتبرها مميزة لدولة العقل، فيلتفت إلى ألمانيا مثلًا ولا يجدها فيها، فيقول إن ألمانيا ما زالت إمبراطورية وليست دولة.

يتبنى العروي ما يؤمن به ماكس فيبر من أن جوهر الدولة الحديثة هو العقلانية؛ وأنه كان العنصر الدافع لتطور الدولة من صورتها في العصور الوسطى إلى الدولة الحديثة، حيث أنه العنصر الذي إذا تم تعميمه عبر التنظيم والتوحيد والتعميم والتجريد فإنه يطبع سلوك الدولة ويمثل عقلها.

ولا يمكن فصل عقلنة الدولة عن السياق العقلاني الذي صبغ أوروبا بأكملها في تقييم العلم والدين والمجتمع وغير ذلك، فالعقلنة تعني: عملية تطبيق العقل المجرد الرياضي على مظاهر الحياة بهدف توفير الجهد ورفع الإنتاج المادي والذهني، والدولة الحديثة بصفة عامة هي مجموع أدوات العقلنة في كل جوانب الحياة.

ويرى العروي أنه من المكن تلمس تلك العقلانية بصورة واضحة في أحد النماذج البارزة للدولة الحديثة؛ وهي فرنسا النابليونية، في أربعة جوانب من تجليات الدولة:

1. الجيش

أثناء الحروب النابليونية ظهر تفوق الجيش الفرنسي الذي كان يتكون من فلاحين على جيوش أوروبا الأرستقراطية المحترفة؛ لم يكن الجيش النابليوني مؤلفًا كله من مواطنين فرنسيين، ولم تكن الجيوش الأخرى كلها مؤلفة من مرتزقة محترفين، غير أن ما لا شك فيه أن الجندي النابليوني كان يُجند وهو ينتمي شعوريًا إلى مقاطعة من المقاطعات (نورمانديا أو الفلاندر)، ويُسرَّح وهو ينتمي للأمة الفرنسية، في حين أن الجندي النمساوي مع ولائه لشخص الإمبراطور، يبقى بالدوام ينتمي إلى المجر أو بوهيميا.

كما كان جيش نابليون أكثر انضباطًا وعقلانية لذلك تغلب في بداية المواجهة، ثم عرفت الجيوش الأوروبية الأخرى إصلاحات جعلتها في المستوى المطلوب، حينذاك انهزم نابليون، وكانت تلك الإصلاحات في بروسيا خاصة: إذكاء الشعور الوطني، تجنيد الشعب، فك احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا.

لذا فقد تميز الأول: بالوطنية والانضباط والديمقراطية، والتي كانت سبب تفوقه على الثاني لأنها عمقت أسباب التلاحم الذي يشكل قوة كل جيش، وبالتالي كان الجيش بصورة من الصور من أسباب انتشار العقلانية بين الجنود، فالجيش الحديث هو بالأساس مدرسة لنشر العقلنة.

2. الإدارة

يقول ماكس فيبر إن مفهوم البيروقراطية يتفرع عن مفهوم الانضباط.

استقلت الجماعة القائمة على تفعيل القوانين والعمل الإداري عن صاحب السلطة، لكونها غير مرتبطة ماديًا أو معنويًا به، لذا أصبحت في وضعية تشبه وضعية الجيش، إذا يلعب مفهوم الانضباط نفس الدور؛ إذ تُطبق أوامره حسب مسطرة معلومة في ظروف معينة، لذا وصفت الطبقة التي نتكلم عنها بأنها جيش مدني.

كما جمع القانون النابليوني في كتاب واحد موجزًا لكل القوانين الواجب تطبيقها على جميع المواطنين دون تمييز جغرافي أو عرقي أو طبقي، ونظرة خاطفة إلى البلاد المجاورة –إسبانيا وألمانيا وحتى إنجلترا- حيث تتواجد قوانين خاصة بكل مقاطعة وفي نفس المقاطعة قوانين خاصة بكل طبقة، وهو أمر كاف لإظهار مدى التغير الحاصل في الحياة العامة عندما توحد وتبسط القواعد التنظيمية. بينما في حالة البيروقراطية التي تعمل كآلة لا توجد فروق بين من يخضع لسلطانها فهي لا تراه شخصيًا وإنما ترى صفاته التي تُخضعه لها.

3. الاقتصاد

 يمكن القول، إن عقلنة الاقتصاد سبقت عقلنة الجيش والإدارة، فإذا نظرنا إلى الوحدات الإنتاجية المتطورة كضيعات الكنيسة والإقطاع في القرون الوسطى، وكالشركات التجارية المتخصصة في جلب المحصولات من الشرق أثناء القرنين السابع والثامن عشر، تبين وجود الحاجة إلى نظام محاسبة دقيق وإدارة منتظمة خلقت بيروقراطية متخصصة في كل وحدة من الوحدات الإنتاجية، كل منها كانت تمتلك دستورًا تطبقه إدارتها بمثابرة وانضباط. وكان من يقود المنتجين نحو الإنتاج المتزايد هو البيروقراطية أو الجيش المدني، وهكذا توافق الاقتصاد والإدارة والجيش في مبدأ واحد وهيكل متشابه.

4. التعليم

نظم نابليون التعليم الثانوي وأنشأ المدارس العلمية العليا، وكان التعليم قبله تحت مسئولية الكنيسة فجعله تابعًا للدولة، وأدخل عليه نظامًا يشبه النظام العسكري، ووجّهه وجهة علمية تقنية، ومن الواضح أن التعليم النابليوني ارتبط بالجيش والبيروقراطية والاقتصاد، إذ كان يمد كل هذه الهيئات بالمهندسين والحقوقيين والمحاسبين والعمال المدربين.

وعلى خلاف الدول الأوروبية التي شهدت نهضة تعليمية هي الأخرى، وحّد نابليون لغة التدريس لتقوية التلاحم القومي ولزيادة فعالية الجيش والإدارة، كما وجّه التعليم نحو العلم التطبيقي، مستلهمًا ما كان ينادي به فلاسفة الأنوار في ميدان التعليم والثقافة، ليُجسّد في التعليم المبدأ الذي تجسد من قبل في الجيش والإدارة والاقتصاد: العقلانية[4].

الولاية العربية

إذا أردنا أن ننفذ إلى الخصائص الجوهرية لتلك «الولاية» التي ورثناها عبر القرون بما تحمله من تفاعلات اجتماعية بين مختلف مكونات حضارتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن تاريخًا طويلًا من ذلك الموروث يمكن إجماله في الخصائص الجوهرية لـ«الولاية» التي ذكرها ابن خلدون ليختصر علينا الكثير.

يرى ابن خلدون أن الدولة العربية عبر التاريخ تنازعتها ثلاثة عناصر يسود أحدها على الآخرين وتصبغ باقي الدولة بها.

1. الدهرية العربية

عرف العرب ملوكًا لعدة قرون قبل مبعث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومع اهتمام المؤرخين بالنظام المشيخي الذي كان قائمًا في مكة – لأن النبي بُعث في قريش ولأنها كانت تحتل مكانة خاصة عند العرب- إلا أنهم عرفوا النظام الملكي في مناطق أخرى كاليمن؛ حتى أن قريشًا في بداية الدعوة عرضوا على النبي الملك: «أتريد مُلكًا؟»، أي أن العرب مروا بنفس التطور التاريخي الذي عرفته مجتمعات أخرى من نظام العائلة إلى الملكية والسلطة السياسية. كان العرب إذن يعرفون دولة طبيعية دهرية دنيوية، هدفها ذاتها، أي أنها ومن نظرة خلدونية كانت تتوخى الشهرة والمال والقهر.

2. التنظيم الهرمي الآسيوي

بعد الفتوحات الكبرى، ورث العرب أجهزة الدولتين البيزنطية والفارسية، إذ نشأت الدولة التاريخية في غرب آسيا مبنية على حق إلهي وسلطة فردية مطلقة، تستهدف الشهرة والقهر والرفاهية، ثم بعد فتوحات الإسكندر المقدوني عمت أنظمة الدولة الآسيوية العالم المتحضر بعد أن اختفى نظام المدينة في بلاد اليونان، وبعد قرون حصل نفس التطور عند الرومان وانقلب الحكم القنصلي إلى نظام إمبراطوري متأثر بأجهزة الدولة الآسيوية، ولما ظهر الإسلام وجد نفسه في عالم لا يعرف سوى تلك الأجهزة، فورثها العرب تلقائيًا، رغم أنها تعارض أهداف الإسلام الأخلاقية والتنظيمات القبلية الشخصية، فمثّلت الدولة الآسيوية عنصر النظام بين الشرع والقبيلة.

3. الأخلاقية الإسلامية

جاءت الخلافة وهي نظام مناف للملك الطبيعي وللدولة الآسيوية؛ حيث إن وازع كل شخص فيها داخلي: من نفسه وهو الدين، ولكنها فترة لم تدم طويلًا، فقد تغيرت فيها الطبيعة البشرية: في شخص النبي إثر الرسالة والوحي، وفي أشخاص أصحابه بسبب الإلهام الرباني. يقول ابن خلدون:

فصار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيير إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبية وسيفًا، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكًا بحتًا.

ومن هنا لا يمكننا التحدث عن الدولة الإسلامية إلا ونحن نعني بالضرورة مركبًا من العناصر الثلاثة، وهو ما يتماشى مع تحليل ابن خلدون السابق عن أنواع النظم، فلا بد من تساكن العناصر الثلاثة: الدهرية العربية والروح الإسلامية والتنظيم الآسيوي، وهي ما يذكرها ابن خلدون بالملك الطبيعي والخلافة والسياسة العقلية، كنماذج حكومية تتعاقب زمنيًا ويرتبها حسب قيمتها الأخلاقية، ولكنه يضيف فكرة أخرى وهي أن العناصر الثلاثة توجد بنسب متفاوتة في كل الدول التي توالت على رقعة الإسلام، ويمكننا أن نخرج بخلاصة تاريخية من هنا؛ أن الحكم الذي جربه المسلمون في الغالب هو الملك الطبيعي الممزوج بشيء من السياسة العقلية بعد أن مرّوا بفترة قصيرة جدًا كان الحكم فيها للخلافة، والواقع القائم هو استمرار الملك الطبيعي المبني على القهر، والخلافة في غالب الأزمان أمل مرتقب ليس أكثر[5].

الولاية العربية الحديثة

ليست الدولة العربية الحديثة في البلاد العربية والإسلامية نسخة باهتة للدولة السلطانية (الولاية) التي وصفناها من قبل فحسب، وإنما هي نتيجة لعمليتين مزدوجتين: عملية التطور الطبيعي الذي أورثها الكثير من الأفكار والأنظمة وأنماط السلوك التقليدية، وعملية إصلاح غيرت شيئًا من التراتيب الإدارية العليا، استعارت من الخارج وسائل مستحدثة للنقل والاتصال بهدف تطوير الزراعة والتجارة، وقد شهدت عملية التطوير تلك محاولتين:

1. محاولة الإصلاح الذاتية

وهي المرحلة الأولى التي حاولت فيها الدولة الإسلامية ممثلة في الخلافة العثمانية إجراء الإصلاح والتحديث بعد الهزائم الكبرى في نهاية القرن الثامن عشر وبعد الحملة الفرنسية على مصر والشام، والتي استمرت إلى حوالي عام 1880، وكانت محاولة مستقلة المنطلق من الدولة السلطانية ذاتها – وإن كانت متأثرة بضغوط دول أوروبا ونصائح قناصلها وسفرائها وكتابها- ولم يُكتب لهذا الإصلاح النجاح، وذلك لأن مفهوم الإصلاح ذاته لم يكن يحمل معنىً واحدًا بالنسبة للسلطان والرعية، فقد عنى الإصلاح للسلطنة تقوية السلطة عبر تثبيت الحكم المطلق ومفهوم المستبد المستنير الذي كان شائعًا أيضًا في أوروبا[6].

بينما بالنسبة للرعية فقد كان مفهوم الإصلاح يعني القضاء على أسباب الانحطاط وعلى رأسها الاستبداد، والرجوع إلى العدل والشورى وتحقيق المصالح العامة، وهو سبيل مواجهة العدو من خلال تقوية المجتمع بالعدل المنافي للاستبداد.

2. الإصلاح على يد الاستعمار

تدخّل الاستعمار دائمًا بخطاب مزدوج يداعب آمال السلطان بالحفاظ على نفوذه، وتحقيق الإصلاح الذي يرغب به الشعب، فطرح نفسه على أنه الجهة القادرة على التوفيق بين أطراف الخصمين، وهذا ما قاله الإنجليز  في مصر بعد ثورة عرابي، والفرنسيون في تونس والمغرب بعد سنوات من الاضطرابات التي مهدوا لها بضغوطاتهم وابتزازهم، وقد وجدت تلك الدعايا آذانًا صاغية عند كثير من أصحاب المصالح، ولكن تلك الإصلاحات تحققت تحت الحكم الأوروبي المباشر ولم تتحقق تحت الحكم السلطاني، وبالطبع حتى وإن توافقت وسائل الإصلاح تلك فقد كانت الغايات مختلفة بين السلطنة الإسلامية التي كانت تهدف لتقوية سلطتها في الداخل والخارج، وبين المستعمر  الذي يسعى لتشجيع الاستيطان وتحسين اقتصاده[7].

«الدولة» العربية القائمة

يقول الباحث التونسي «هشام جعيط»:

إن الدولة العربية ما زالت لا عقلانية، واهنة، وبالتالي عنيفة، مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية، وعلى بنية عتيقة للشخصية.

قد يكون جهاز الدولة قويًا متطورًا، ورغم ذلك تكون الدولة ضعيفة متخلفة، فكما ذكرنا عن الإصلاحات الاستعمارية سابقًا؛ لقد أدخلوا التحسينات من كل نوع على الجهاز حتى أصبح أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى، ولكن هل كان هنالك دولة قوية؟

ونفس الملاحظة تصح على الدولة المعاصرة: جهاز قوي متطور، بل هو القطاع الأكثر تطورًا في الغالب، ومع ذلك يبقى جوهر الدولة بالمعنى الحديث في كثير من الكيانات العربية وحتى الكبير منها موضع شك وتساؤل[8].

على كل حال، اهتم العرب منذ نهاية القرن التاسع عشر بتجليات السلطة، ولكنهم لم يولوا سوى اهتمام ضئيل لأسسها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ضمن مفهوم الدولة الحديث State، فقد تبنوا المظاهر البنيوية للدولة والبيروقراطية على النمط الأوروبي دون أن يتبنوا العقلانية، مما زرع مفهومًا ملتبسًا عن الدولة بداخلهم يتجلى في الدولة العربية المعاصرة.

فما زال الجوهر السلطاني القائم على الطغيان والقمع هو ما يحكمها، مع تغيير بعض الترتيبات الإدارية العليا كما أسلفنا، وهو ما أدى إلى فشلها في تغيير موقف الفرد العربي تجاه الدولة القومية المعاصر بصفتها تجليًا لإرادة عامة أو ضمير جمعي، ففقدت بذلك الجانب الأدبي للسلطة (بالمفهوم الغرامشي: الهيمنة الثقافية)، لذا لم يرتبط «حكم القانون» فيها قط بـ«الضمير الأخلاقي للمجتمع»، ولم يقم حتى الآن رابط عاطفي مع الجماعة أو الأمة في رابط سياسي، سواء كان في النموذج المتحقق للدولة القطرية، أو عبر دولة عربية وحدوية لم تقم إلى الآن[9].

المراجع
  1. محمد جابر الأنصاري، «التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام»، القاهرة، دار الشروق والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999.
  2. نزيه ن. الأيوبي، «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط»، ترجمة: أمجد حسين، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010.
  3. عبد العظيم رمضان، «تاريخ أوروبا والعالم في العصر الحديث»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.
  4. عبد الله العروي، «مفهوم الدولة»، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2011.
  5. المرجع السابق.
  6. خالد فهمي، «كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة»، القاهرة، دار الشروق، 2001.
  7. عبد الله العروي، «مفهوم الدولة»، مرجع سبق ذكره.
  8. نزيه ن. الأيوبي، «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط»، مرجع سبق ذكره.
  9. وجيه كوثراني، «صورة الدولة السلطانية في الوعي التاريخي: جدلية الوحدة والتعدد»، بيروت، دار الاجتهاد للأبحاث والنشر، 1994.