لماذا عاد بورقيبة من جديد؟
قرار مثل هذا للباجي قائد السبسي من شأنه إثارة جدل واسع النطاق بين التيارات السياسية المؤيدة أو المعارضة للزعيم بورقيبة، في ظل تغيير موقفي للعديد من القوى السياسية التي عانت من استبداد وديكتاتورية بورقيبة، كما من شأنه إعادة الجدل مرة أخرى للشارع التونسي حول أسباب ارتباط السبسي بالبورقيبية وأتباعها، وما علاقته بما يجري بالساحة التونسية في التوقيت الراهن؟.قرار السبسي يأتي أيضًا في ظل مزامنة ذكرى عدد من الأحداث التاريخية الفارقة بين تاريخ الدولة المستعمرة ودولة الاستقلال، فتحين ذكرى الاستقلال ورحيل الحبيب بورقيبة وذكرى أحداث 9 إبريل، ويقترن دائمًا مع هذه الأحداث اسم الحبيب بورقيبة لما له من رمزية تاريخية في التاريخ التونسي الحديث.
لماذا حظي بورقيبة بالرمزية التاريخية؟
بورقيبة الشخصية الأكثر تأثيرًا في تاريخ تونس الحديث، تمتع برمزية كاريزمية، فكما هو رمز للاستقلال والتحرر الاستعماري في تونس وأول رئيس للجمهورية التونسية المستقلة، هو رمز للانفتاح السياسي والثقافي في البلاد.
.
لم يكن بورقيبة ليحظى بلقب صانع الأمة أو المجاهد الأكبر لولا شخصيته الكاريزمية التي شبّت وترعرعت في ظل سياق تاريخي ثوري ونضال من أجل التحرر جعله يستحق بأن يكون الشخصية الجدلية التي دارت حولها العديد من الإشكاليات حول سياساته وأيديولوجيته.ولد المجاهد الأكبر في 3 أغسطس 1903 بحي الطرابلسية بمدينة المنستير الساحلية، وكان والده ضابطًا متقاعدًا عمل على تعليمه فالتحق بمعهد كارنو الفرنسي ليحصل على درجة الثانوية العامة، وسافر بعد ذلك إلى فرنسا ليحصل على بكالوريوس كلية الحقوق والعلوم السياسية 1927، ثم عاد إلى تونس ليعمل بالمحاماة والصحافة. بدأ الحبيب بورقيبة اهتمامه بالسياسية حينما أصدر صحيفة «صوت التونسي» 1930، وصحيفة “العمل التونسي» 1932، وكانت نقطة التحول في توجهه للسياسة هو انضمامه إلى الحزب الدستوري الذي كان يقوده عبدالعزيز الثعالبي عام 1933، ولكن سرعان ما انشق عنه وأسس الحزب الدستوري الحر الجديد 1934 ، كما تزامن مع دخوله الساحة السياسية احتدام المعركة بين الحركة الوطنية والاستعمار الفرنسي وكان من بينها أحداث 9 إبريل 1938 والتي طالبت ببرلمان تونسي، والتي كان للدستوريين الدور الأكبر في تنظيمها واعتقل الحبيب بورقيبة على أثرها، كما اعتقل أيضًا في أعقاب اندلاع الثورة المسلحة ضد الاستعمار في 1952.لم يكتفِ بورقيبة بالنضال المسلح والثوري ولكنه عمل على استخدام الأداة الدبلوماسية والتفاوضية أيضًا في الحصول على الاستقلال، فسافر إلى عدد من الدول العربية والآسيوية والأوروبية للتعريف بالقضية التونسية، وزار فرنسا 1950 لتقديم مشروع إصلاحات للحكومة الفرنسية، ثم أعلن بعد ذلك عدم ثقة التونسيين في فرنسا، ومع اندلاع الثورة المسلحة أجبر الفرنسيين على الدخول في مرحلة تفاوضية لنيل الاستقلال الذي تحقق في 20 مارس 1956.حكمه: الحبيب بورقيبة تولى حكم تونس في أعقاب الاستقلال عن فرنسا 1957 واستمر حكمه حتى عام 1987، وخلال هذه الفترة لم يتبع خطًّا أيديولوجيًّا واحدًا، فهو وإن كان قد بدأ بتبني الاشتراكية إلا أنه سرعان ما وجد نفسه يتحول إلى الليبرالية، وعمل على توطيد الاستبداد المطلق من خلال الاغتيال والتنكيل بمعارضيه وخاصة اليوسيفيين «أتباع صالح بن يوسف» وكذلك عمل على محارية الشيوعيين والإسلاميين، وتبنى فكرة الحزب الواحد وتوطيد علاقة الاتحاد العام للشغل بالدولة، كما قام بتعديل الدستور التونسي ليسمح لنفسه بحكم تونس مدى الحياة في عام 1974. وقام بمساعدة «زين الدين بن علي» على قمع المظاهرات التي خرجت ضده، كما عمل على مهاجمة بعض القيم الإسلامية وسعى إلى تغيير الهوية الإسلامية لتونس من خلال الإجهاز على مؤسسة الزيتونة الإسلامية وإصدار مجلة الأحوال الشخصية والتي جرّمت تعدد الزوجات فيما عملت على إجازة التبني، كما أغلق المحاكم الشرعية ودعا إلى إفطار نهار رمضان ومنع لبس الحجاب، وبدا متأثرًا بالغرب وسياساته في المنطقة ولكنه لم يتخذ موقفًا من الاتحاد السوفييتي، وانفتح على قرار تقسم فلسطين مما جعل بينه وبين عبدالناصر صدامًا مستمرًّا.براجماتية وانفتاحية السياسة الداخلية والخارجية التي تبناها بورقيبة ومحاولته إعادة تطبيق نموذج «كمال أتاتورك» في تونس، في ظل سياق اتسم بالميل إلى الوحدة العربية القومية العربية وسياسة عدم الانحياز والحرب الباردة جعلت منه نموذجًا فريدًا في تاريخ تونس الحديث، حتى تم عزله بطريقة الانقلاب الأبيض من رئيس وزرائه زين الدين بن علي في السابع من نوفمبر 1987، ووضع تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في عام 2000.
كيف عاد صانع الأمة من جديد؟
ما إن نجحت ثورة الياسمين في القضاء على التجمعيين النوفمبريين ونظام بن علي حتى عادت البورقيبة من جديد للمشهد السياسي، خاصة في أعقاب فشل سياسات الترويكا بقيادة النهضة واحتدام الصراعات الحزبية الهووية والثقافوية الاستقطابية بين المشروعات الفكرية والأيديولوجية للمكونات السياسية الإسلاموية واليسارية والعلمانية، وتسارعت المشاريع السياسية المتباينة في تبني خطاب يعيد بورقيبة للمشهد مرة أخرى كونه منقذ تونس وصاحب المشروع الحداثي.السبسي يقلد والمرزوقي يحتفلنداء تونس بقيادة السبسي منذ تأسيسه بدأ يسوّق نفسه بأنه استكمالٌ للمشروع البورقيبي، خاصة أنه عمل على استقطاب وضم الدستوريين في الحزب، كما ذهب السبسي أثناء جولة ترشحه للرئاسة يتشبه بخطاب بورقيبة وإيماءته الجسدية وملبسه، وبدأ يرسم صورة نمطية له تقترب من الصورة الكاريزمية لصانع الأمة فهو يوازن في خطابه بين العامية والفصحى والفرنسية في خطابه ويستعين بالأمثال الشعبية والاقتباسات الدينية، كما وضعت صورة منقذ الأمة في مقرات الحزب. وما إن وصل السبسي إلى الحكومة حتى واصل استكمال منهجه في إعادة إحياء البورقيبية، فمع ذكرى الاستقلال قرر السبسي إعادة تمثال الحبيب بورقيبة إلى موقعه بشارع بورقيبة بالعاصمة التونسية، مؤكدًا على أن الهدف من ذلك هو تمجيد ذكرى الاستقلال، كما أعلنت النقابة العامة للتعليم الثانوي تعليق الدراسة بسبب منشور من وزارة التربية لإلزام الأساتذة بالإشادة بالحبيب بورقيبة وتمجيد حقبته المنصرمة، كما أعادت حركة نداء تونس اللافتة الرخامية لمكتب محاماة بورقيبة إحياءً لذكرى وفاته الـ 16. كما قام الرئيس المؤقت السابق لتونس بإحياء ذكرى الحبيب بورقيبة عام 2014 بمسقطه قبيل انطلاق حملته الانتخابية.محسن المرزوقي يعارض النداء بالبورقيبيةمحسن المرزوقي _ المنشق عن حزب نداء تونس في أعقاب أزمات داخلية بالحزب العام الماضي أفضت لفقدان النداء أغلبية البرلمان لصالح النهضة التونسية_ أعلن في ذكرى الاستقلال تأسيس حزب جديد «حركة مشروع تونس» مؤكدًا على أن حزبه الجديد يعمل على درب الآباء المؤسسين من روافد الحركة الإصلاحية والوطنية التونسية بمختلف أجيالها وفي مقدمتهم الحبيب أبورقيبة. ويهدف من خطابه هذا تحقيق قاعدة جماهيرية وكسب الرأي العام التونسي خاصة في ظل الأزمات التي تمر بالحزب الذي سوّق نفسه على أنه يحمل مسؤولية تطبيق سياسات البورقيبية.النهضويّون والتطبيع مع بورقيبةبالرغم من أن الحبيب بورقيبة عارض بقوة المشروع الإسلامي وعمل على تضييق الخناق على الحركة الإسلامية وعمل على تذويب الهوية الإسلامية، إلا أن براجماتية النهضة التي تبنّتها في أعقاب خروجها من الترويكا جعلتها تتعامل بخطاب تطبيعي يمجّد الحبيب بورقيبة ومشروعه السياسي، فرئيس الحركة يقول في مارس 2015 في مسقط رأس الزعيم بورقيبة: “يكفي المنستير فخرًا أنها أنجبت أبرز قائد للحركة الوطنية، وأول رئيس للجمهورية”، كما يربط البعض بأن هناك اعترافًا نهضويًّا بالبورقيبية مستندًا إلى تحالف النهضة مع السبسي البورقيبي.
إذن: لماذا يتم إعادة إحياء بورقيبة من جديد؟
إعادة إحياء بورقيبة للمشهد السياسي يأتي في ظل سياق سياسي واقتصادي واجتماعي تعاني منه تونس في ظل تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف الفكري والديني، في ظل بيئة اجتماعية واقتصادية حاضنة للمتشددين، وفي ظل صراع سياسي حزبي وأيديولوجي تشهده الساحة السياسية مع تفاقم الأزمات الداخلية، ومن ثمّ فإن إعادة إحياء البورقيبية لها أبعادها السياسية، فافتقار تلك الأحزاب لمشروع حداثي تنموي يحقق تطلعات التونسيين؛ أدى إلى فشل الأحزاب الإسلامية واليسارية في كسب التأييد الجماهيري الشعبي؛ مما دفعهم إلى الاستفادة من تجربة النداء بالتقرب للجماهير البورقيبية.لا يمكن أيضًا قراءة الجدل الدائر بين الأقطاب السياسية والشارع السياسي التونسي حول استجداء إحياء البورقيبية من قبل النظام السياسي بعيدًا عمّا أثير من أنباء حول نية تعديل الدستور لتوسيع سلطات الرئيس. ومع ذلك يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع البورقيبية حل مشكلات تونس، أم ستظل مجرد وسيلة دعائية لكسب أصوات انتخابية أو تعبئة جماهيرية لتيار ضد آخر؟.
- عادل بن عبدالله، البورقيبية باقية وتتمدد.. هل البورقيبيبة هي الحل؟ 3، عربي 21، 8 أبريل 2016.
- أساتذة الثانوي في تونس يحتجون بسبب "إلزامهم تمجيد الحبيب بورقيبة"، سي إن إن العربية، 1 أبريل 2016.
- كارم يحيي، عودة سياسية للبورقيبية لكن بدون أيديولوجيا هنا المنستير مهد الحبيب الميت الحي، الأهرام،
- منور المليتي، بورقيبة يوحد التونسيين حيا وميتا، ميدل أيست اونلاين، 6 أبريل 2016 .
- آمال الهلالي، هل يعود الاستبداد إلى تونس عبر توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، هافينغتون بوست عربي، 7 أبريل 2016.
- سالم لبيض، اليوم بورقيبة وغدا تمجدون بن علي، العربي الجديد، 20 مارس 2016.