الخطيئة الأبدية: لماذا نعجز عن منع جرائم الإبادة الجماعية؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
صاغ «رفاييل لمكين»، المحامي اليهودي اللاجئ في بولندا، مصطلح «الإبادة الجماعية» عام 1943 لوصف قتل الشعوب وإبادتها، على خلفية أحداث الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية المعروفة بالهولوكوست، وكانت تلك الجريمة بلا اسم – كما وصفها بذلك ونستون تشرشل نفسه – على الأقل رسميًّا، ولكن في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948، تبنى المجتمع الدولي رسميًّا تعريف «الإبادة الجماعية» في الاتفاقية التي أُبرمت في نفس العام، وهي الاتفاقية التي كرَّست شعار «لن يحدث مجددًا» في القانون الدولي.
ولكن التساؤلات حول ما إذا كانت تلك الاتفاقية قد حققت الغرض الذي وُضعت لأجله، ترتكز على ثلاثة محاور: الأول هو أن إطلاق وصف «الإبادة الجماعية» نفسه على الكوارث الإنسانية يحدث ببطء وحذر شديدين. والثاني هو إخفاق المجتمع الدولي في التصرف بفاعلية لوقف الإبادات الجماعية. والثالث هو أن الإدانة الحقيقية لمرتكبي الإبادة الجماعية لم تقع إلا على عدد قليل جدًّا منهم.
فشل التعريف
لنتذكر معًا عدد الإبادات الجماعية التي وقعت منذ إقرار الاتفاقية في 1948 حتى الآن، ولنأخذ في حسباننا أن ثلاثة فقط من بين تلك الجرائم قد وُصفت قانونيًّا بالإبادة الجماعية – ما أدى إلى محاكمة مرتكبيها في النهاية – بموجب تلك الاتفاقية، وهي: رواندا عام 1994، والبوسنة والهرسك (بما فيها مذبحة سربرنيتسا) عام 1995، وكمبوديا تحت حكم بول بوت في الفترة من 1975 إلى 1979.
لقد اعترفت الأمم المتحدة ككل بأعمال القتل والتهجير واسعة النطاق التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد الطائفة الإيزيدية، والاعتداءات المستمرة على مسلمي الروهينجا في ميانمار، بأنها إبادات جماعية، ومع ذلك، لم تُقر بعض الدول إطلاق هذا الوصف رسميًّا على تلك الجرائم، وبالمثل، لم تُوجه أي اتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية بموجب الاتفاقية في دارفور بعد 13 عامًا من التحقيقات الجنائية.
لعل تطبيق التعريف الأكاديمي لهذا المصطلح أوسع نطاقًا من تطبيق تعريفه القانوني، ولكن التطبيق الأكاديمي يخضع لمن يقوم بالتعريف، فعلى سبيل المثال، فقد أطلقت نيكول رافتر، الباحثة في علم الجريمة، وصف الإبادة الجماعية على المذابح في إندونيسيا بين عامي 1965 و1966، وكذلك على المذابح في جواتيمالا بين عامي 1981 و1983.
ومن ناحية أخرى، أطلق آدم جونز، المتخصص في العلوم السياسية، وصف الإبادة الجماعية على الجرائم المرتكبة في حق الأكراد في الفترة بين 1988 و1991 في عهد صدام حسين في العراق، وعلى جرائم قوات باكستان الغربية بحق البنجلادشيين عام 1971، كما أبرز أيضًا الجرائم التي ارتكبت في عهد ستالين، فيما عُرف بالتطهير الكبير، وجرائم الصين في التبت.
وتطول قائمة الجرائم التي تندرج تحت تعريف الأمم المتحدة للإبادة الجماعية على نحو مرعب، وتحقق المحكمة الجنائية الدولية في انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب في عدة دول، من بينها ميانمار بسبب انتهاكها لحقوق أقلية الروهينجا المسلمة، وكذلك الإبادة الجماعية للإيزيديين في العراق التي اعتبرتها الأمم المتحدة إبادة جماعية.
ومن ضمن الإبادات الجماعية الأخرى ما عُرف في أستراليا باسم «الأجيال المسروقة»، حيث تم انتزاع أبناء السكان الأصليين للقارة من عائلاتهم من خلال إجراءات حكومية وقانونية، وهو ما جرى حوله جدل أكاديمي لم يؤدِ إلى الاعتراف الرسمي به كإبادة جماعية.
وفي الواقع، قد لا تضفي بعض الدول صفة الإبادة الجماعية على جريمة ما، بينما تقوم بذلك دول أخرى، فعلى سبيل المثال، لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية قط بالإبادة الجماعية للأرمن عام 1915.
وأشارت نادية مراد، الحائزة على جائزة نوبل للسلام في العام 2018، والناجية من الإبادة الجماعية للإيزيديين في العراق على يد تنظيم الدولة الإسلامية، إلى أحداث مختلفة تعرض فيها الإيزيديون لنفس الجرائم، ولكنها لم تحظَ باعتراف دولي بأنها جرائم إبادة جماعية.
وبناء على ما سبق، يبدو أن هناك تفرقة في التعامل بين إبادة جماعية وإبادة جماعية أخرى.
فشل التطبيق
يُمثل منع الإبادة الجماعية أحد الأدوار بالغة الأهمية للاتفاقية، ويمكن لأطراف النزاعات مطالبة الأمم المتحدة بالتدخل عند وجود دليل على ارتكاب الإبادة، ولكن تطبيق ذلك في أرض الواقع كان عبثيًّا للأسف.
على سبيل المثال، أقرَّ بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بأن قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة سُحبت من رواندا في الوقت الذي كانت فيه الحاجة إلى وجودهم على أشدها، وأقرَّ أيضًا بالتخلي عن الأبرياء حتى وقعوا ضحايا لمذبحة سربرنيتسا في 1995.
ومن ناحية أخرى، لم يعترف بالجرائم التي ارتكبتها القوات الحكومية ضد أقلية التاميل في سريلانكا بين عامي 1983 و2009 بأنها جرائم إبادة جماعية رسميًّا، ولكن قوات الأمم المتحدة المتمركزة هناك وقفت عاجزة أيضًا عن إيقاف ذبح الآلاف، بينما وقف العالم يشاهد تلك الفظائع بلا مبالاة واضحة.
وفي 15 ديسمبر/كانون الأول 2018، وصف مجلس النواب الأمريكي رسميًّا الجرائم المرتكبة في حق الروهينجا في ميانمار بأنها إبادة جماعية، ولكن ذلك لم يُقابل بأي تحرك لدعم النازحين إلى بنجلاديش على إعادة بناء حياتهم، فيما لا تزال ميانمار مكانًا غير آمن لهم، كما أن تدفق اللاجئين الإيزيديين يزداد، فيما يخشى الكثيرون منهم العودة إلى ديارهم.
لا تزال تجري عدة تحقيقات جنائية في نفس الوقت الذي تستمر فيه الإبادة، ويجب جمع الأدلة على نية القيام بإبادة جماعية في نفس الوقت الذي تكشف فيه الأدلة المادية على القتل، كما يجب تحديد الرءوس المُدبرة والقبض عليهم.
فشل الإدانة
لا يزال العدد الحقيقي لمرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا ويوغوسلافيا السابقة وكمبوديا مجهولًا، بينما أُدين عدد صغير في تلك الجرائم، وحتى الآن، وُجه الاتهام إلى 93 روانديًّا و161 يوغوسلافيًّا سابقًا في ارتكاب تلك الجرائم، ولكن لم توجه الأمم المتحدة الاتهام إلا إلى اثنين فقط في مذابح كمبوديا، وبالفعل، يقضي كل من «نوون تشيا» و«كيو سامفان» عقوبات بالسجن مدى الحياة على جرائمهما ضد الإنسانية في كمبوديا، بينما يعيش عدد لا حصر له من المجرمين بحرية في بلادهم، ولا يستطيع القانون الدولي المساس بهم. ومن ثَمَّ، فمن المؤكد أن هناك ما ينبغي فعله حيال ذلك.
وقالت نادية مراد أثناء توجيهها الشكر للجنة جائزة نوبل إن الجائزة الوحيدة في هذا العالم التي تُمكننا من استرداد كرامتنا المفقودة هي العدالة ومحاكمة المجرمين. وفي ظل قلة المدانين حتى يومنا هذا، فإنه على المجتمع الدولي فعل الكثير حتى يمكن تحقيق أمنية نادية في مستقبل أكثر سلامًا.
لا تزال الإبادة الجماعية، بعد سبعين عامًا من إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية، ممارسة مستمرة في مجتمعنا الدولي المعاصر، وبالنسبة لإيلي ويزل، الفائز بجائزة نوبل والناجي من مذابح الهولوكوست، كان عدم تكرار الإبادة الجماعية بمثابة دعاء ووعد وقسم، ولكن للأسف، أُخِلَّ بهذا القسم معظم الوقت.