«تبدأ دومًا الحوادث الجسام بعَرضٍ تافهٍ صغير»، هكذا يظن معظم الناس ونكاد نتفق معهم، على الأقل نعرف أن هذا ليس ما حدث في عفرين ومن قبلها عين العرب كوباني، الحقيقة والواقع يقولان هذا، فالحوادث يصح لها أن تكون أسبابًا ونتائج في آن واحد، صغيرة كانت أو كبيرة.

دومًا كان تاريخ وجود الأكراد متأثرًا بأحداث أخرى في دول المنطقة، فقط لأنهم مفرقون قسرًا بين العرب والفرس والترك، على أربع دول هم: إيران وتركيا والعراق وسوريا، شاركوا في الثورة الإسلامية الإيرانية، وأُخذوا على حين غرة بعدها من النظام الإسلامي نفسه، فاستبعدوهم من الحكم واستفزوا بهم إلى المناطق الحدودية، وهمشوا لغتهم وثقافتهم. حصلوا على إقليمهم الفيدرالي المستقل في العراق بعد الحرب الأمريكية ورحيل صدام، واستحكموا على أنفسهم في أربيل، وإن كانت محاولات تطويعه مجددًا ليخضع لبغداد أو حتى طهران، ما زالت جارية في ملفات عدة أهمها النفط.

أما في تركيا، فهم مغلوبون على أمرهم، فصوت الإسلاميين هناك لا يضاهي علوه صوت آخر، طالما يحكم أردوغان والإسلاميون، وهم بطبيعتهم لا يحبون الأقليات. يختلف الأمر تمامًا في سوريا، فقد اعتادوا أن يربوا المظلومية على أعينهم، وهم قلة مستضعفة منذ أن ارتحلوا من تركيا العثمانية، إلى جبال وقرى سوريا الحدودية، إلى أن صار لهم أرض ومرعى وشرطة وجيش.

تقول قوانين الجدل إن الزمن كفيل بكل شيء، وإن التغير يمكن توقعه، فالتغير الكمي الواسع ينتهي إلى تغيير كيفي، وهذا ما حدث مع أكراد سوريا، الذين اعتادوا العيش كصعاليك في الجبال والأوكار الحدودية، بأحسن التقديرات قرى ومدن كردية نائية لا يتجاوز تعدادها بضع عشرات الألوف، مقارنة بالمدن العربية المليونية القريبة، ونحن هنا نتحدث عن مثال عفرين وكوباني مقارنة بمدينة كحلب، إلى أن جاءت الثورة السورية ومن بعدها الحرب الأهلية لتتولى مجريات الأحداث.

تمكين قوات البشمركة من السيطرة على مناطق كبيرة خلت من وجود القوات النظامية السورية فجأة؛ ليس هذا ما حدث في سوريا فحسب، بل في العراق أيضًا، استولت القوات الكردية على مناطق نزاع عسكري مجاورة لإقليم أربيل الكردي، أشهرها مدينة صلاح الدين وضواحيها، ولعل هذا أحد أكثر الملفات التي تحدث التوتر بين بغداد المركزية وأربيل الكردية الإقليمية.

استولت الحامية الكردية في شمالى سوريا على سلطة فرض الأمن وحماية الحدود، في الفترة ما بين 2012 ومنتصف 2014، إلى أن جاءت هجمات تنظيم داعش مستهدفة الاستيلاء على مدينة وقرى عين العرب كوباني. كانت واقعة كوباني مربط فرس لأكراد سوريا خاصة، وللأكراد ككل عامة، فقد تولى الأكراد جبهة القتال على الأرض دونما مساعدة تذكر من الجيش النظامي السوري، وهو ما هيأ سردية المعركة لأن يكون ما بعدها استقلالًا تامًا للأكراد بهذه المنطقة، وخصوصًا أنهم كانوا يحظون بدعم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أسهمت كثيرًا في إنشاء ما عرف فيما بعد بـ«قوات سوريا الديمقراطية»، المكونة بشكل أساسي من الأكراد وتنظيماتهم العسكرية وأحزابهم السياسة.

حسنًا، يمكننا اعتبار كوباني حجر الزاوية الذي تم وضعه من قبل الحامي الأمريكي لمشروع «سوريا الفدرالية».

طُرح حل «سوريا الفيدرالية» من قبل الجماعة الأوروبية على موائد التفاوض، لكنه قوبل بالرفض لأسباب تخص كثيرًا طبيعة أطياف المعارضة السورية، لكن حينما أعيد طرحه من قبل البيت الأبيض، كان يهدف في ظاهره إلى حل الأزمة السورية، ولكن بباطن حقيقته وكما هي عادة الأمريكان دائمًا يصبون إلى مصالحهم وفقط.

لم تكن الفدرلة في المفهوم الضمني الأمريكي ضرورة إلا للإقليم الكردي الحدودي في سوريا، أما لبقية سوريا فهي مصادفة، وهو سيناريو شبيه جدًا بإقليم الكرد في العراق، بات واضحًا بعد موقعة «عين العرب» المشروع الكردي في المنطقة، مع ظهور دعاوى يقودها «مسعود برزاني» في الإقليم العراقي لإقامة الاستفتاء الانفصالي عن العراق، وهو ما اعتبر وقتها محاولة الأكراد لاقتسام مكاسب الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» قبل أن تنتهي.

مع هذا الاستفتاء الذي دعمته قوى دولية فاعلة؛ اتضحت نوايا الأمريكان بخصوص الشأن الكردي المشترك، فإيران التي تسيطر بالوكالة على الغالبية العظمى من مناطق التنازع العسكري، إما من خلال الجيوش النظامية أو الميليشيات والحركات المسلحة، بالإضافة إلى تركيا التي حيدتها أمريكا أثناء الحرب على تنظيم داعش في مناطق الأكراد، والأمريكيون يعرفون أن هذا التحييد لن يصمد طويلًا؛ فالأتراك لديهم الخبرة الكافية للعب بأوراق السياسة الدولية، وأهمها النفط واللاجئون إلى أوروبا.

إذن، لم يتبق للأمريكان وكيل فاعل في المنطقة إلا أن تدعم الأكراد، وعلى حد تعبير أحد الأصدقاء: كانت الدولة الكردية مشروعًا طالما يشبه كثيرًا دولة إسرائيل، كشرطي أمريكا التي تقدر على تنشئته وتهيئته بسرعة اقتصاديًا وتنمويًا وعسكريًا في المنطقة ليحمي مصالحها.

لكن العثرات أمام هذا السيناريو كانت كبيرة، فطبيعة تكوين الأكراد في الدول الأربعة مختلفة حد التباين الشديد، فأربيل التي تشبه كثيرًا مدن الخليج بشوارعها الواسعة ومبانيها الفارهة ونفطها الغزير، تختلف عن عفرين القروية الجبلية، والأكراد المتمدنون هناك يختلفون عن المحاربين في سوريا، وإن اعتادوا أن يشبهوهم فيما مضى، أما أكراد إيران وتركيا فليس تفصيل بيان اختلافهم الثقافي والاجتماعي عصيًا بقدر ما هو واضح، فالبيئة بضرورة الحال تشكل الأحياء بحسب طبيعتها.

الأكراد أيضًا يواجهون تحديًا كبيرًا في انتزاع الموارد من الدول المركزية، ولعل صراع بغداد- أربيل على آبار النفط في الإقليم الكردي بين تعيين قوانين إدارة الموارد وفقًا للدستور الفيدرالي العراقي، هذا الصراع الذي يعد نموذجًا لما قد يواجهه الأكراد في كل دولة على حدة، سواء كان السيناريو الفيدرالي أو الاستقلال محل التنفيذ. أما العائق الأكبر أمامهم هو موازنات ومصالح الدول الكبرى، التي تنكسر لها آمال الضعفاء دومًا بحكم العادة، فالمصالح التي تجمع الأتراك والروس والدولة السورية لا تقع عائقًا أمام مشروعهم فحسب، ولكن عائقًا أكبر إذا ما أرادوا الحفاظ على مكتسباتهم من الحرب.

بخلاف التنسيق المشترك بين كل هؤلاء، يأتي وضع أمريكا المتأزم في رئيس يعتبره أشد المتفائلين فاقدًا لشرعيته، كما أنه لا يمتلك أي رؤية، وبالتالي فقد القدرة على التحكم في الآليات المتاحة كخيار للأمريكان في المنطقة، كمشروع الفدرلة الذي أسسه أوباما. مفاده أن الدول الكبرى المحيطة بالأكراد لا تريد لهم المضي قدمًا بما آلت إليه مكاسب الحرب، لأنه إن حدث فهو يعني وجود قوة جديدة في المنطقة، تقتسم الموارد وخطوط التجارة، كما أنها مدعومة من حليف قوي، ما يعني صوتًا إقليميًا فاعلًا يشبه إسرائيل في قلب الشرق العربي، وهو ما حاربته تركيا من جانبها طويلًا في معارك داخلية مع الأتراك، منذ السبعينات وحتى الآن وصولًا إلى ما يحدث في عفرين.

قد نقول بعد هذا إن الأكراد يمكنهم أن ينسوا مشروعهم الحالم ولو إلى حين، على ضوء ما يحدث في شمال غرب سوريا – عفرين -، من استيلاء للجيش السوري الحر المدعوم بالقوات التركية على معظم مناطق سيطرة الكرد، ولكن الأكيد أنهم سيداومون على تعليم أبنائهم كراهية العرب والفرس والأتراك، وأنهم من خانوا شعبهم وتركوهم لقمة سائغة يمررونها بينهم كخبز القرابين.

ليس محض مصادفة أن ينال الأكراد كل الدعم المعنوي والاقتصادي والعسكري في أحيان كثيرة من إسرائيل، تحت دعاوى محاربة الإرهاب والتطرف… إلخ، ولكن الحقيقة أن الأكراد يشاركون إسرائيل نفس طبيعة المشاعر والعلاقات تجاه الثلاثي: العرب والأتراك والفرس، ومع المسار الذي تخطوه الجماعة الكردية القريب جدًا من النموذج الصهيوني في بدايته، يجعلهم هذا يعتقدون عن نفسهم أن إسرائيل أقرب إليهم من غيرها، لكنهم في ظني أقرب كثيرًا إلى المقاومة الفلسطينية منهم إلى إسرائيل؛ لأنهم لم يسعوا إلا إلى تحرر وحكم ذاتي، على أرض عاشوا عليها طويلًا وأقاموا على وديانها الزروع والعمران.


إهداء إلى الصديق «حسن البنا»، الصحفي والباحث المهتم بالحرب الأهلية والتنظيمات الإسلامية في العراق وسوريا، والمعتقل في مصر على ذمة القضية 442 نيابة أمن الدولة العليا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.