لماذا كفّ العرب عن عدائهم لإسرائيل؟
لا بد في البداية من توضيح أن «العرب» في العنوان شكلٌ بلاغيّ يُدعَى «مَجازًا مُرْسَلًا علاقته الكلّية»، يُشَار فيه إلى الكل مع أن المراد أو المقصود هو الجزء. كما في القول: «شربتُ ماء زمزم»، حيث «ماء زمزم» مجاز مرسل علاقته الكلية، لأنه أشار إلى ماء زمزم كله مع أن المراد أو المقصود هو جزءٌ لا يتعدى زجاجةً أو كأسًا من ذلك الماء. كذلك الأمر هنا، إذ لا تشير كلمة «العرب» في هذا السياق إلى من لا يزالون على عدائهم لإسرائيل، ولا إلى من لم يعادونها أصلًا كي يكفّوا عن عدائها، بل تشير، على وجه التحديد، إلى «عرب» كانوا يعادونها حقًا أو يزعمون عداءها وباتوا يجاهرون بأنهم لم يعودوا كذلك، بل وبأنها قد تكون لهم الذّخر والحليف في مواجهة أعدائهم الجدد، سواء كانوا خارجيين أم من بني جلدتهم.
حين زار الرئيس المصري الأسبق «أنور السادات» القدس في عام 1977، بدا الأمر كأن رجلًا فردًا هو الذي اختار الصلح المنفرد مع إسرائيل لأنه فقد عقله (أو لأنه وجده، بحسب الروايات وأصحابها). وراحت الكتابات العربية تهطل في تخوين هذا الفرد (أو مديحه) والنَّبْش في تاريخه الشخصي وبنيته النفسية عما يفسّر جبنه (أو شجاعته)، من دون أن تحظى بنية البلد والمنطقة وتاريخها السياسي الاجتماعي الاقتصادي بأكثر من كونها خلفية بعيدة يصنعها ويديرها أفراد مثل هذا الفرد. ولعل كتاب «محمد حسنين هيكل» الشهير الذي تُرجم إلى عشرات اللغات، «خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات» (1983)، أن يكون واحدًا من أهم الأمثلة التي لم تقتصر على تمثيل هذه الرؤية بل عززتها إلى أبعد حدّ.
قبل ذلك بسنوات، في عام 1972، أخرج «يوسف شاهين» فيلم «العصفور» الذي يحكي عن الهزيمة في حرب حزيران 1967. لكن أحداث الفيلم تدور قبل تلك الهزيمة التي يُختَتَم الفيلم بها وبإعلان الرئيس المصري «جمال عبد الناصر» تنحيه عن منصبه وخروج الشعب المصري إلى الشوارع غاضبًا، رافضًا الهزيمة ومتمسكًا بالصمود والحرب حتى التحرير. وما تدور حوله تلك الأحداث ذاتها هو تحقيق صحفي يجريه أحد الصحفيين حول عدم اكتمال بناء مصنع من مصانع القطاع العام بسبب سرقة آلاته وأدواته، ليكتشف أن ثمة تنسيقًا في ذلك بين مسؤولين فاسدين في أجهزة الحكم ومجرم تطارده السلطة مع رجاله في صعيد مصر، بغية بيع الآلات والأدوات للقطاع الخاص.
من الواضح أن ما يقوله الفيلم هو أن النظام هُزِمَ من داخله قبل هزيمته العسكرية، وأن الانتصار على العدو الخارجي مستحيل من دون القضاء على السوس والفساد الداخلي الذى أدى إلى الكارثة، وأن ثمّة حلفًا للهزيمة هو، بحسب الفيلم، أجزاء من النظام وأجزاء من القطاع الخاص ومجرمين فارين من وجه العدالة. وتتلاقى في اللقطات الأخيرة من الفيلم جموع الشعب التي ترفض الهزيمة وتصرخ «حنحارب» بالشاحنات المحمّلة بالمسروقات وكلٌّ ماضٍ في اتجاه معاكس للآخر، مع لحظات تضطر فيها تلك الشاحنات للتوقف هنيهة بسبب الحشد قبل أن تتابع إلى وجهتها من جديد.
السؤال الضروري، إذًا، هو عن الوجهة التي مضت إليها تلك الشاحنات، ومن فيها، ومن كانوا يديرون حركتها. فالأمر لم يتوقف عند الهزيمة، بل تطور بعد سنوات إلى تسوية مخزية مع العدو سوف تكررها أنظمة عربية عديدة وتطيح بالمنطقة ولا تكاد تترك لها أي وزن.
وما أشار إليه هيكل من دورٍ للفرد، وما أشار إليه شاهين من دورٍ لمجموعة من الفاسدين والمجرمين يحيطون بزعيم وطني نظيف، لم يعد يكفي لتفسير ما جرى ويجري من إدخال إسرائيل إلى القلوب والعقول وتحويلها إلى حليف ضد أعداء آخرين مختلقين، مثل إيران أو تركيا أو سواهما، مهما يكن الرأي بسلوك هذه الدول في لحظة من اللحظات.
ليس هذا بالمقام المناسب لتحليل سيرورة الانتقال هذه من العداء إلى المصالحة وربما التحالف، فهي سيرورة تاريخية متدرجة، ليست سياسية فحسب، بل اقتصادية واجتماعية وثقافية أيضًا، انتقلت فيها فئات وطبقات بأكملها، بل تحالفات طبقية برمّتها، من خندق العداء النسبي لإسرائيل إلى خندق التسوية معها ومصالحتها، وذلك بانتقالها من وضعٍ كانت تجد فيه بعض المصلحة في ذاك العداء إلى وضعٍ لم تعد تجد لها فيه أي مصلحة في الصراع مع إسرائيل ورفض وجودها الاستعماري الاستيطاني.
لم يكن السادات، إذًا، يعزف منفردًا حين زار القدس، بل كان يمثل درجة متقدمة من درجات تطور حلف طبقي كامل على مستوى مصر وعلى المستوى العربي: حلفٌ جَمَعَ القطط السمان المصرية في القطاعين العام والخاص، ممن جعلوا السلطة مصدرًا للثروة في بلدٍ رأسمالي متخلف وتابع، إلى أنظمة الرجعية العربية النفطية المدولرة، في ظل سيطرة دولية تعزز التبعية وتدفع الخارج ليصير جزءًا من بنية بلداننا الداخلية. وليس الفارق بين الأنظمة العربية على هذا الصعيد سوى فارق في ظروف كل نظام وفي درجة «تطوره» و«نضجه» على طريق محو العداء لإسرائيل. فبنية الجميع هي تلك البنية الفاسدة والقامعة لشعوبها وقواها الحيّة بما لا يتيح مجالًا لعداء جذري لإسرائيل.
واللافت للانتباه في العقود الثلاثة الأخيرة هو التحاق فئات غير قليلة من المثقفين، ذوي الماضي اليساري في الغالب، بتلك الفئات والطبقات والأنظمة، توفر لها ما يحتاجه الحكّام من آلاتٍ ذاتِ أقلام تنظّر للعملية، وتقدم لها المفاهيم والمصطلحات اللازمة، وتنشر عليها التعمية والتزييف الضروريين، وتبرر استبدالها بعدو المنطقة الفعلي أعداء جددًا من جيرانها التاريخيين لا ينبغي تحويلهم إلى أعداء تاريخيين، كما هو حال إسرائيل، مهما يكن الخلاف والصراع في لحظة.
بل إن الأشد لفتًا للانتباه، في السنوات الأخيرة، هو ما يدفع إليه قمعُ الأنظمة الوحشي الذي لا يُطاق وفسادُ أقسام كبيرة من النخب المعارضة وفسادُ تصوراتها ومقترحاتها النظرية والعملية من استجارة –نرجو أن تكون عابرة- تستجيرها فئات شعبية واسعة بكل من تتوهم أنه يمكن أن يمد لها يد العون ولو كان إسرائيل، ومن معاداة لكل من تعتبره حليفًا لتلك الأنظمة عداءً كيانيًّا مبرمًا لا نقاش فيه، على أسسٍ دينية وطائفية غالبًا، من دون أن تجد، إلا لمامًا، من يناقش ويبدد الأوهام ويجلو الحقيقة، ويرفع الصوت بأن وجود ما يدفع باتجاهٍ ما ويفسّر ذلك الدفع قد لا يبرره بالضرورة، وأن اللحظة التي تكاد تتطابق فيها تصورات الشعوب مع تصورات أنظمتها وطبقاتها السائدة هي لحظات كارثية توحي بانتحار حضاري وشيك.