لماذا خرج 150 ألف فلسطيني لتشييع سبعة من «شهداء الإعداد»؟
لم تكن حادثة استشهاد سبعة من مقاتلي «كتائب القسام» أثناء ترميمهم أحد الأنفاق هي الأولى التي تفقد فيها الكتائب خاصة والمقاومة الفلسطينية عامة بعضًا من مقاتليها خلال الإعداد والتجهيز؛ فعلى مدار تاريخها وبالأخص منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، سقط الكثير من الشهداء أثناء الإعداد العسكري، حيث كان سماع الأخبار التي تتحدث عن استشهاد مقاتلين أثناء «مهمات جهادية» أمرًا يألفه سكان غزة، لكن بعد الأداء القتالي المميز لكتائب القسام أثناء حرب 2014، ازداد احترام المجتمع الفلسطيني لشهداء هذه الظاهرة، إذ بات سكان القطاع على إدراك بأن هؤلاء هم الركيزة الحيوية لأي أداء قتالي مستقبلًا، وهذا ما ترجمته الجنازة المهيبة التي خرجت لتشييع الشهداء السبعة الذين قضوا أثناء الإعداد، حيث تشير معظم التقديرات إلى أن عدد المشاركين في الجنازة تجاوز 150 ألفًا.
ماذا تعرف عن «شهداء الإعداد»؟
«شهداء الإعداد» مسمى تطلقه المقاومة الفلسطينية على شبابها الذين يقضون في مجالات الإعداد العسكري المختلفة كالتصنيع، والتدريب، وحفر الأنفاق.
«شهداء الإعداد» هو المسمى الذي تطلقه المقاومة الفلسطينية على شبابها الذين يقضون في مجالات الإعداد العسكري المختلفة كالتصنيع، والتدريب، وحفر الأنفاق. ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، دأبت فصائل المقاومة على تطوير قدراتها العسكرية المختلفة لتفادي النقص الحاد في السلاح، وتجاوز عدم القدرة على الحصول عليه.
هذه المحاولات التي بدأت من الصفر وبوسائل بدائية جدًا وبخبرات متواضعة، كان من الطبيعي أن يرافقها خسائر بشرية متواصلة، ففي النصف الأول من عمر الانتفاضة كان معظم شهداء الإعداد خبراء في التصنيع العسكري، نظرًا لحاجة المقاومة الماسة للمتفجرات والصواريخ، لكن بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة والتطوير الكبير الذي لحق بالعمل العسكري لفصائل المقاومة فيها وخصوصًا كتائب القسام وتوسع مجالات العمل ودخول تكتيكات وأساليب عسكرية جديدة كالأنفاق والكوماندوز البحري، ازداد عدد شهداء الإعداد العسكري كثيرًا.
كما أن كم الشهداء يرتفع بارتفاع الاستعداد والإعداد، وهذا يعود في المقام الأول لبدائية الوسائل المستخدمة، التي تتسم بها المقاومة الفلسطينية بمرور الوقت، فالعدد يرتفع كل عام عن سابقه، حتى وصل عدد شهداء كتائب القسام وحدها في شهر يناير 2016 إلى عشرة من بينهم القائد «عبد الرحمن المباشر» أحد عناصر وحدة الظل التي احتجزت الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط».
الصبر والإعداد، كيف تغير المقاومة معادلة الصراع؟
تحرص المقاومة وعلى رأسها «كتائب القسام» على الاستفادة من دروس كل حرب تخوضها، في تطوير الأداء القتالي، والتصنيع، والإعداد الدفاعي والهجومي.
نظرًا لتغير طبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي بعد الانسحاب من غزة، انتقلت المقاومة من العشوائية المعتمدة على الكر والفر، إلى مقاومة شبه منظمة، تمتلك كيانًا عسكريًا مشابهًا للجيوش النظامية، حيث فرض عليها الواقع الجديد ضرورة «صنع الإنجاز».
رغم كل المعطيات الصفرية، فهي تدرك أنها تقاتل أقوى جيش في الشرق الأوسط، وبالتالي يجب أن تتحلى بالصفات التي تؤهلها لمواجهته. بعد حرب 2008 أدركت المقاومة الفلسطينية ضرورة الإعداد وأهمية الصبر في أي مواجهة قادمة وضرورة عدم الانجرار لردود الأفعال غير المحسوبة، فدخلت في صراع مع الزمن لإعادة بناء نفسها وبناء قدراتها الدفاعية خصوصًا في مجالي التصنيع الصاروخي وبناء الأنفاق؛ كونهما الركيزتين الأهم في أي مواجهة عسكرية مع الاحتلال.
يلاحظ أن الأداء القتالي لكتائب القسام وفصائل المقاومة يتطور بناءً على استخلاصات كل حرب تمر على القطاع، فالأداء العسكري في حرب 2012 كان أفضل منه في حرب 2008، والأداء العسكري في حرب 2014 أفضل من كليهما. كل هذا كان سببه الإعداد الكبير على كافة المستويات ويشمل التدريب العالي والتصنيع الصاروخي، حيث تمكنت المقاومة من تصنيع صواريخ بمقدورها تغطية كل المدن الإسرائيلية تقريبًا.
فضلًا عن تطوير منظومة الأنفاق الدفاعية والهجومية، فقد لعبت الأنفاق دورًا كبيرًا في حرب 2014، وازدادت درجة خطورتها بتمكنها من الاقتراب من المواقع العسكرية والمستوطنات المحاذية لقطاع غزة، ومن المتوقع أنها ستصبح قادرة في أي مواجهة قادمة على الوصول أكثر لمستوطنات «غلاف غزة»، كما أن معدلات إطلاق الصواريخ التجريبية أصبح أمرًا معتادًا يوميًا في الفترات الأخيرة.
شهداء الأنفاق، صناع «غزة الفولاذية»
«يائير لبيد» رئيس حزب «يش عتيد»
كانت عملية «ناحال عوز» المصورة حدثًا مفصليًا في حرب 2014، فقد تمكنت مجموعة من مقاتلي القسام من التسلل للموقع العسكري وقتل من فيه وتصوير الحدث بكاميرا رأسية. هذا الحدث الذي شاهد الناس تفاصيله الأخيرة كان بفضل الجنود المجهولين الذين يرسمون ملامح المرحلة القادمة ويرسمون أيضًا صورة الرعب الإسرائيلي.
دخلت الأنفاق العمل العسكري المقاوم في بدايات الانتفاضة الفلسطينية الثانية ولكن بشكل ضعيف، واضطلعت بدور لوجستي تقريبًا، من خلال حفر أنفاق صغيرة من رفح إلى مصر عبر «محور فيلادلفيا» لإدخال السلاح والمواد المتفجرة إلى القطاع، ثم حصل تطور نوعي مهم سينقل العمل العسكري نقلات نوعية جدًا في القطاع.
في 26 سبتمبر 2001 كان أول استخدام للأنفاق في أعمال هجومية، حيث حفر نفق بطول 150 مترًا باتجاه موقع «ترميد» جنوبي رفح وتفجيره، ثم تلاه تفجير موقع «حردون» 2003 جنوبي رفح أيضًا، ثم حصلت عملية «محفوظة» 2004 بعد حفر نفق بطول 450 م تقريبًا يصل لموقع «أروحان» العسكري، وهي العملية الأكثر تأثيرًا باستخدام هذا الأسلوب وقتها وستجعل من الأنفاق وسيلة هجومية ضد التحصينات العسكرية لاحقًا، ثم عملية «براكين الغضب» 2004 واستهدفت موقع «معبر رفح» جنوب المدينة، ثم في 25/6/2006 حصلت العملية الأكثر شهرة وتعقيدًا حتى ذلك الوقت، فقد تسللت مجموعة من المقاتلين المنتمين لـ«كتائب القسام» و«ألوية الناصر» و«جيش الإسلام» عبر نفق عسكري إلى موقع «كرم أبو سالم» وتمكنت من قتل اثنين واختطاف الجندي «جلعاد شاليط».
كانت عملية «الوهم المتبدد» هي الأولى التي استخدمت الأنفاق لاستهداف مواقع عسكرية خارج حدود غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منها، لتصبح الأنفاق ركيزة أساسية في الجهاد الفلسطيني، لكن حتى ذلك الوقت كانت الأنفاق لها استخدامات هجومية محدودة، ويمكن رصد أول بوادر الاستخدام الدفاعي للأنفاق في منطقة حي التفاح (شمالي القطاع)، حيث استخدمت الأنفاق لأول مرة في العمل الدفاعي من خلال تنفيذ كمين معدّ مسبقًا في حرب 2008 حينما حاولت مجموعة من كتائب القسام أسر جندي إسرائيلي وتمكنت من ذلك في البداية، لكن الجيش الإسرائيلي طبق بروتوكول «هنيبعل» وقصف الجندي وآسريه.
كانت حرب 2008 درسًا مؤلمًا للمقاومة الفلسطينية، فقد شاهدت لأول مرة نظرية «الأرض المحروقة»، وكيف بمقدورها شلّ الكثير من الدفاعات فوق الأرضية، فبعدها أصبحت الأنفاق العصب الأهم في العمل الدفاعي كونها تؤمن المقاتل من نظر العدو وناره، كما أنها تمكن المقاومة – لأول مرة – من الدفاع عن مناطق ساقطة عسكريًا بمفاهيمها السابقة.
تشير التقديرات الإسرائيلية إلى وجود أكثر من ألف شخص يعملون في الأنفاق، بعضهم بالفعل تجاوز الحدود وبشكل أكثر مما هو عليه في الحرب السابقة، حيث يتضح من خلال كم الشهداء المرتفع الذين يقضون أثناء حفر الأنفاق – خصوصًا بعد حرب غزة الأخيرة – أن هناك توجهًا مكثفًا لزيادة عدد الأنفاق وتطويرها، مما سيرفع تكلفة اجتياح القطاع بشكل كبير جدًا، فالأنفاق محصنة ولا يمكن اكتشافها وتعجز أمامها كل التقنيات الحديثة وتُمكن المقاتلين من الالتحام مع جنود الجيش الإسرائيلي وكسر إرادتهم.
معظم العمليات النوعية في الحرب الأخيرة كانت بسبب الأنفاق: عمليات «الإنزال خلف الخطوط»، وعمليتي أسر «هدار جولدن» في رفح و«شاؤول آرون» في حي التفاح، والكثير من العمليات الدفاعية، فضلًا عن دور الأنفاق في حماية القادة ومستودعات السلاح وتأمين شبكة طرق تحت أرضية أثناء الحرب.
في وثائقي أصدرته الجزيرة بعنوان «المجموعة رقم 9»، يتحدث فيه عن عملية «ناحال عوز»، ظهرت أنفاق جديدة بتجهيزات عالية. كل ذلك يؤكد أهمية هذا السلاح الإستراتيجي في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، ويعزز نظرية «غزة السفلى».
تؤكد الحادثة الأخيرة أن رجال الأنفاق لا تهدأ معاولهم دقيقة واحدة ليلًا أو نهارًا، حتى في أصعب الظروف وأخطرها، فلم يمنع المنخفض الجوي القاسي مسيرة الإعداد، فاستشهد السبعة خلاله. ويمكن معرفة حجم التطور الذي طرأ في مجال الأنفاق من خلال مقارنة النفق الأول، والذي لا يتجاوز طوله 150 مترًا وبين الأنفاق الحالية والتي يصل طول بعضها لأكثر من 2000 متر ومجهزة بتجهيزات لوجستية وخدماتية متطورة.
خاتمة: استشهد أثناء إعداد المقال «أحمد غانم فرحات» و «فؤاد عطيوي» أثناء إعدادهم أحد الأنفاق في قطاع غزة.