نعيق في الميدان: حكايات وخواطر عن الكتابة
في كتاب «بوذية الزن والتحليل النفسي» من تأليف «إيرك فروم» و«د. ت. سوزوكي»، تُروى هذه القصة:
قرأت هذه القصة في وقت لاحق لكتابتي لرواية «صوت الغراب»، ولكن خبرتي في كتابة تلك الرواية، كانت دليلًا على صدق هذه القصة. لقد عشت خبرة مماثلة دون أن أنسحب إلى غرفتي وأحاول أن أكون تنينًا، بل كانت الشروط والحوادث حولي تدعوني إلى التحول إلى غراب.
عرفت الأمر الآن، كان لابد من التحول –بشكل ما- إلى غراب حتى أتمكن من إدراك الشروط الإنسانية والاجتماعية التي تدفع الناس لأن يتحولوا إلى غربان إذا انغلق الأفق عليهم وحُرموا من التحقق كبشر، لهم رغبة وطموح في أن يكونوا أنفسهم. أدركت مدى ضيق القوالب التي تُحدِّد حياتنا وتفرض علينا طريقة معينة في الكلام والمشي واللبس، وأن يكون المرء –تقريبًا- نسخة ممّن حوله.
عاينت كيف أن أنماط العلاقات الاجتماعية المغلقة تحبط الرغبة في الحرية، ومن ناحية أخرى فإن الطبيعة تُعرِّفنا بأنه لا مناص من نيل الحرية والتحقق، حتى لو أدى الأمر إلى تحطيم المرء لنفسه أو موته أثناء عبوره البحر المتوسط، أو تحوله إلى مريض نفسي أو روح ذابلة تمرر حياتها يوما بعد يوم حتى الموت. لن يقف شيء أمام رغبة المرء في أن يكون كما يريد، حتى لو تحولت هذه الرغبات -إن لم تجد إمكانية في التحقق- إلى عكسها.
لقد رأيت «الحرية المقلوبة» التي عاشها مجموعة من الشباب في أحد ميادين مدينة طنطا وكانوا البذرة التي نمت منها رواية صوت الغراب.
كان ذلك في ديسمبر/كانون الأول من عام 2005، عندما كنت أكتب مقالًا لمجلة «أمكنة»، أخذ بعد ذلك عنوان: «تحديد إقامة»، عن الشباب الذين يغرقون على شواطئ ليبيا، أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط في طريقهم إلى أوروبا.
المقال كان تأملًا في خبر نشرته جريدة الأهرام في مارس/أذار من نفس العام (2005). أظن أنها كانت بداية تلك الموجة من الصراع بين الرغبة في التحقق ونيل المستقبل، أو الموت في جوف البحر التي لم تتوقف حتى الآن، واستدعى ذلك اهتمامي بفكرة «انغلاق الأفق» و«غياب المستقبل»، و«الإحساس بالحبس».
في طريقي إلى عملي ومشاويري في مدينتى والعودة ليلًا من السهر مع بعض الأصدقاء، أمر بمجموعات من الشباب، اتخذوا من التقاء شارع بطرس بشارع سعيد في شرق مدينة طنطا مكانًا لهم. يجلسون على سور «المركز الطبي» وعلى حافة المكان الذي كان قديمًا «جمعية تعاونية» على طراز الستينيات، أو على ناصية شارع قطيني. مركز هذا التجمع كشك أمام عمارة ضخمة يُشاع أنه يبيع المخدرات.
ذات ليلة كنت عائدًا متأخرًا، من سهري مع بعض الأصدقاء. لاحظت مجموعة من الشباب يرتدون جميعًا أقمصة سوداء، يقفون في ظل ذلك الكشك. كان الصمت يغلق المكان؛ فالمدينة تصبح في ليل الشتاء جرداء. ما إن عبرت الميدان حتى سمعت نعيق غراب، تلاه نعيق آخر وآخر. توقفت مكاني واستدرت لأتبيّن المشهد. لا أحد يضحك، لا أحد يعلق بكلمة أستشف منها حقيقة ما يحدث، حتى منْ كان منهم يجلس بعيدًا على سياج سور المركز الطبي انتبهوا، لكنهم عادوا لأحاديثهم (عادي). استمر الصوت يلاحقني بتنويعاته المختلفة حتى عبرت شارع الحلو في طريقي إلى بيتي.
تعلقت هذه اللحظة بخواطري على أنها «رمز» لا أتمكن من فهم دلالته. كنت أعرف قصة الميدان وتحولاته، فقد كان طريقي إلى مدرستي لما كنت صبيًا في المدرسة الإعدادية في بداية السبعينيات، ثم عملت في نفس المدرسة أمين مكتبة في التسعينيات، ووقتها كان أحد أصدقائي يملك محلًا للألبان أمام المركز الطبي، وكنت أسهر هناك مرة أو مرتين في الأسبوع، حتى توفي صديقي مريضًا بالقلب، وأجّر إخوته المحل صيدلية ما زالت قائمة.
أعرف الميدان من أيام ما كان مكانًا مظلمًا، حتى بدأت تحولات التسعينيات –بعد عودة الكثير من الناس من بلاد الخليج- تجري فيه، عندما سكنه هؤلاء الشباب بالليل، وراقبت بدهشة ما قد حدث في سنوات قليلة، فقد اُفتتحت -بعد أن أفرغت شقق الطابق الأرضي من سكانها- محلات للأطعمة والأحذية والملابس والإكسسوارات.
كلما شاهدت مجموعات الشباب تلتم في الليل وتتبدد بالنهار، تذكرت نعيقهم في الميدان، وبدأت أتحرى المعنى الاجتماعي لعيشهم بالليل مرتدين الملابس السوداء ذات الجمجمة والعظمتين، وفكّرت أن أكتب مقالًا عن تحولات المدينة لمجلة «أمكنة»، لكنني لم أتمكن من تفسير نعيقهم، وربطه بانغلاق الحدود وغياب الأمل في التحقق، حتى جاءت أحداث عام 2011.
في تلك الفورة العاطفية، والتطلع إلى المستقبل، وانفتاح الأفق لحظة خاطفة من الزمن، ثم عودته إلى الانغلاق مرة أخرى، بدأ يتشكّل في خلفية وعيي ذلك الشخص الذي يمثل تلك الفترة الراكدة التي استمرت أكثر من ثلاثين عامًا، والتي كرت فيها الأيام، كأنها يوم واحد يُكرِّر نفسه، وحضرت غربان الميدان كشاهد، كتعبير، عن جوهر تلك الفترة.
بدأ الغراب يتشكّل كشخص ملتبس الهوية، يتصرف كإنسان لكنه يدرك أن كائنًا آخر يتشكّل في كيانه لا يدرك ماهيته، وبالتدريج يتعرف على ذاته كغراب يقود جوقة من الغربان تنعق في الميدان؛ إنه منذ البداية يرفض نظام الحياة وعلاقاتها الراسخة التي تحرمه من أن يكون نفسه، لكنه لا يملك ما يقيمه بديلًا لها. كان ذلك يمثل المناخ الشعوري لما يحدث حولي من اضطراب سياسي واجتماعي في الفترة القصيرة التي تلت 2011.
وكان من الصعب أن تفكر في كتابة قصة خيالية على أنها نسيج واقعي، دون أن تأخذ نبرة الفانتازيا. قضيت عامًا كاملًا أتتبع سيرة ذلك الغراب، حتى أنهيت العمل في مارس/أذار 2013، وحتى الآن يُدهشني كيف تحوّلت هذه التفصيلة إلى رواية «صوت الغراب».
كيف شكّلت العمليات الداخلية للعقل (الغراب)، من نُتف متناثرة، من تأملات، وأجواء، وقصص، لم يكن لها علاقة ببعضها وقت حدوثها، حتى وجدتُ في حديث أستاذ الزن «ت. د. سوزوكي» في كتابه «بوذية الزن والتحليل النفسي» ما يساعدني على فهم الأمر.
في إحدى فقرات الكتاب يتحدث عن الكيفية التي يُنشئ بها الفنان عمله، ورغم المغالاة الميتافيزيقية لتحليله، فإنه يمكن الاسترشاد بفكرته من أجل الفهم. فمن وجهة نظره يحاول الفنان إعادة خلق المادة من العقل الباطن، وعندما يتماثل لا شعور الفنان بإخلاص وصدق مع المنابع العميقة للخبرة الإنسانية، والتي يسميها سوزوكي «اللا شعور الكوني» تكون إبداعات الفنان أصيلة، لأنه قد أبدع شيئًا حقيقيًا، وعمله ليس نسخة من شيء؛ إنه أصل. فعندما يصوّر زهرة نابعة من عقله الباطن، ستكون زهرة جديدة وليست محاكاة لأي زهرة في الطبيعة.
إن الفنان عندما يواصل العمل محاولًا إعطاء الموضوع حياة خالصة، فإنه يُجسِّد الموضوع ويُجسِّد ذاته في الوقت نفسه، ليست الذات السطحية بل تلك الذات العميقة التي خلقت التنين.