من يكتبُ التاريخ؟!(3)!
نهج المؤرخون الأولون[1] في جمع الأخبار وتدوينها نهجًا اتَّسم بالاهتمام بالجانب الجمعي دون غيره؛ فمن الملاحظ أن مجال التدوين التاريخي في القرون الثلاثة الأولى انصبَّ على جمع الروايات وتدوينها وتصنيفها في كتب دون التدخُّل في نقدها وتمحيصها[2]؛ ولذلك استشعر بعض المؤرخين ذلك العيب الخطير؛ فعبَّر عنه الطبري (ت310هـ) في تاريخه بقوله:
||فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤْتَ في ذلك من قِبَلِنَا، وإنما أُتِيَ من قِبَلِ بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أَدَّيْنَا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا||[3]
ولم يكن الطبري -الذي أعلن صراحة عن منهجه في جمع الروايات دون تمحيصها- هو وحده الذي انتهج ذلك النهج دون غيره؛ إذ كان أمرًا عامًّا بين الأخباريين وبعض المؤرخين، لكن جُلّ ما عَمِلَه هؤلاء الأخباريون أنهم جمعوا الروايات المتعلقة بالموضوع الواحد ووضعوها في كُتب مفردة، وكان أبرز هؤلاء الزهري[4]، وأبو مخنف[5]، وسيف بن عمر، والواقدي، والمدائني[6]..[7]
ولذلك أصبح التاريخ بوتقة لكل أنواع الأخبار الصحيحة والضعيفة والموضوعة، وكل ما استطاع المؤرخون الأولون أن يُقَدِّمُوه لنا، أنهم جعلوا عهدة هذه الروايات على رواتها؛ ولذلك حرصوا على إيراد سلسلة الرواة وإن طالت، ولم يشذَّ عن هؤلاء إلا القليل ممن تعمَّد أو أغفل ذلك، واعتبروا ذكر رواة الأخبار أمرًا مقدَّسًا؛ فاطمأنت نفوسهم إلى ذلك؛ من حيث إن المدقِّقين في هذه الروايات سيقبلون الأخبار من الرواة الثقاة، ويرفضون ما دونها.
ومن ثَمَّ يأتي السؤال المهم: هل يمكن تنقيح هذه الروايات التاريخية؟ وأي المناهج أسلم وأنجع؟ وهل حقًّا يمكن أن يكون بين أيدينا تاريخًا صحيحًا نقيًّا من كل عيب، مستصفًى من كل شائبة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلَّب مِنَّا أن نُوَضِّح أمرًا مهمًّا حقًّا، وهو إذا تراءى لدى بعض القُرَّاء أن المؤلفات التاريخية الإسلامية تحمل فجوات وثغرات خطيرة، فيجب التنبيه على أن طريقة الإسناد، وإيراد كافة الروايات المتعلقة بالموضوع الواحد، ليُعَدُّ من الابتكارات الحقيقية للعقلية الإسلامية، فليس هناك مثل هذه الدراسات والقواعد في أي تاريخ أو شريعة أخرى؛ ولذلك تَنَبَّه الإمام ابن حزم الأندلسي رحمه الله إلى هذا الأمر، فعبَّر عنه قائلاً:
||نقلُ الثقة عن الثقة حتى يبلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) شيء خُصَّ به المسلمون دون جميع الملل والنحل، أمَّا مع الإرسال والإعضال[8] فيوجد في اليهود لكن لا يقربون به من موسى قُرْبَنَا من نَبِيِّنَا، بل يقفون حيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين نفسًا، وإنما يبلغون إلى نوح وشمعون، وأمَّا النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق..||[9]
ولذلك فمع هذه الثغرات والفجوات التي وُجِدَتْ في تاريخنا الإسلامي، إلا أنه لا توجد مقارنة من حيث المنهجية ومن ثَمَّ الدقة مع ما كتبه اليهود والنصارى في كتبهم المقدسة وشرائعهم، فضلاً عن تاريخهم وتراثهم الإنساني؛ ولذلك يقول عالم الاجتماع الأمريكي هاري بارنز:
||في عهد الإمبراطورية الرومانية المتأخِّر أبدى بعض أبناء الكنيسة شكوكهم في صحَّة أفكار تقليدية معينة عن تأليف الكتاب المقدس، ولكن أَوَّل دارسٍ أَثَار مسائل على جانب كبير من الأهمية من ناحية الآراء التقليدية كان عالم العهد الوسيط ابن عزرا، الذي تحدَّى في سنة (1150م) فكرة تأليف موسى (عليه السلام) للأسفار الخمسة. وفي القرن السابع عشر أبدى الفيلسوف الناقد الشهير توماس هوبز شَكَّه في تأليف موسى (عليه السلام) للأسفار؛ على أساس اعتبارات منطقية ومفاهيم الإدراك العامِّ، لا على أساس الدراسة التاريخية للنصوص، وأشار إلى أنه ليس من المألوف أن يُشير مُؤَلِّف وهو يكتب سيرته الذاتية إلى موته، ويفخر بأنه قد أُحسن دفنه، إلى حَدِّ أنه لم يستطع أحدٌ لمدة سنوات عِدَّة أن يعرف موضع قبره!||[10]
إن هذه الأسئلة والاستنتاجات المشروعة، التي حيَّرت عقول علماء الغرب لمدة طويلة -وما زالت- تُؤَكِّد لنا أن أخباريي المسلمين ومؤرخيهم تَحَرَّوْا قدر طاقتهم الدقَّة والصواب في إيراد الروايات المتعدِّدَة، وجعلوا الإسناد المحكَّ الرئيس في قَبُول رواية ما أو رفضها، ولأهمية الإسناد -في علم الحديث بصفة خاصة، وبقية العلوم بصفة عامة- نرى عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول:
||الإسناد من الدين؛ لولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء”[11]. ولهذا يعجب المستشرق الألماني سبرنجر من هذه المنهجية، فيقول: “لم تكن فيما مضى أُمَّة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر، الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم||[12]
وبعد هذه التوضيحات المهمة التي تُؤَكِّد لنا أن ما فعله أخباريونا ومؤرخونا الأول كان بمثابة المقياس والمثال الذي تمنَّى الغربيون أن يكون في شرائعهم وتراثهم فضلاً عن تاريخهم القديم، ويبقى أن نعود إلى الإجابة على ذلك التساؤل الآنف، وهو:ما المنهج الذي نستطيع من خلاله أن نُنَقِّح تاريخنا، ونطمئن إليه؟
لا ريب أن الأمر يتعلق بالراوية؛ لأنه لما كان جُلُّ العلم في القرن الأول الهجري، وعقود لا بأس بها في القرن الثاني الهجري يَتِمُّ عن طريق المشافهة والنقل من أشخاص إلى آخرين، وكانت العلوم الشرعية هي الحائز الأكبر على اهتمام المسلمين، وكان علم الحديث من أشرف هذه العلوم وأقدسها -لما يترتَّب عليه من أحكام تشريعية وحياتية غاية في الأهمية- فقد كان من الطبيعي أن يتشدَّد المسلمون في قَبُول الأحاديث -وهي من الناحية الشكلية روايات متناقلة- مما ترتَّب على ذلك أن وضع علماء الحديث وحُفَّاظه -من خلال العقل الجمعي لهم، والخبرة المتراكمة عبر الأيام والسنين- مجموعة من القواعد والمعايير المهمة في قَبُول الحديث أو رفضه، وبدأت تظهر قواعد لنقد الأخبار، والسؤال عن الرجال والرواة، وأخبارهم منذ بداية التدوين؛ ونتج عن ذلك ما أُطْلِقَ عليه علم الجرح والتعديل، التي أُلِّفت فيه الكتب الكثيرة التي تُبَيِّنُ طُرق نقد الأخبار، وكيفية الموازنة والترجيح بينها عند التعارض، ونقد متونها وبيان عللها[13].
وظلَّ الحديث النبوي ميدانًا نشطًا كُتبت حوله الكثير من كتب المصطلح وكتب التراجم؛ مما أدَّى إلى ظهور مكتبة ضخمة مَعْنِيَّة بتراجم الرواة وبيان أحوالهم[14]، وإمكان التقائهم ببعضهم أو عدمه، والحُكْم عليهم من خلال استقراء مروياتهم، بالإضافة إلى رأي معاصريهم فيهم، وقد أسهم كل هذا في حفظ السُّنَّة النبوية، وبيان الصحيح منها والزائف؛ مما نتج عنه علمًا عظيمًا نشأ لخدمة الأحاديث النبوية، بينما لم تحظَّ الرواية التاريخية بنفس القدر من الاهتمام والنقد[15].
لكن اللافت للنظر أن علم التاريخ وعلومًا أخرى[16] قد استفادت من القواعد التي وُضعت لضبط الحديث الشريف، وإن ضمَّن رجال الحديث في كُتبهم بعض الأبواب المتعلِّقة بالمغازي والسير؛ مثل: كتاب المغازي في صحيح الإمام البخاري[17]، وكتاب الجهاد والسير عند الإمام مسلم[18] وكتاب السير في سنن الترمذي[19]، وغيرها من الكتب الأخرى، إلا أن هذه الأبواب والكتب كانت قليلة المادَّة مقارنة بكتب التاريخ والمغازي والسير؛ ويرجع ذلك لحيطة المحدِّثين وأهل الجرح والتعديل للمادة التاريخية ورواتها.
وقد اختلفت نظرة أهل الجرح والتعديل وبعض المؤرخين المتأخرين لرواة الأخبار؛ فمنهم من تشدَّد في قَبُول الرواية من الأخباري كتشدُّدِه في راوي الحديث؛ وهؤلاء يَرَوْنَ الأخباريين ضعاف العقول، سراع التصديق، من حيث قبول الخبر على علاَّته ووهنه، ومن هؤلاء الكافيَجي[20] (ت879هـ) الذي يقول:
||ينبغي أن يُشترط في المؤرخ ما يُشترط في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة||[21]
وفي مقالنا القادم سنستكمل الحديث عن نظرة كل من المؤرخ والمحدّث للرواية التاريخية في القرون الأولى من الهجرة على حدة، وهل يمكن أن نستفيد من هذا التباين في عملية الترجيح والقبول والاطمئنان، وهل يمكن أن نستفيد من آليات نقدية أخرى في عملية القبول، هذا ما سنقف معه في مقالاتنا القادمة.
*باحث في التاريخ والتراث
[1] نقصد بالمؤرخين الأولين أولئك الذين اعتمد عليهم المتأخرون في قبول أحداث تاريخ صدر الإسلام، ومن ثَمَّ فَهُم الرواة والأخباريون وأصحاب التواريخ الشهيرة في القرون الثلاثة الأولى. شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون 1/ 234-264.
[2] محمد صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه ص11، ومحمد أمحزون: تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة ص18.
[3] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 1/ 13.
[4] الزهري: هو أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، الزهري، القرشي، (58-124هـ= 678-742م): أحد الفقهاء والمحدثين، والأعلام التابعين بالمدينة. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 177، 178.
[5] أبو مخنف الأزدي: هو أبو مخنف، لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف، الغامدي، (ت157هـ=774م): راوية، عالم بالسير والأخبار، إمامي، من أهل الكوفة، له تصانيف كثيرة في تاريخ عصره وما كان قبله بيسير، منها: (فتوح الشام). انظر: دائرة المعارف الإسلامية 1/ 399.
[6] المدائني: هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله (135-225هـ=752-840م): راوية مؤرخ، كثير التصانيف، من أهل البصرة، من كتبه: (أخبار قريش). انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/ 400-402.
[7] وليد علي محمد: رسالة ماجستير بعنوان: (مرويات البلاذري في عصر الراشدين.. دراسة تاريخية مقارنة للروايات المسندة المعاصرة) ص11.
[8] المُرْسَل: ما سقط من سنده الصحابي. والمُعْضَل: ما سقط من إسناده اثنين أو أكثر.
[9] الكتاني: فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات 1/ 80.
[10] Harry barens, A History Of Historical p. 19.
[11] البغوي: شرح السنة 1/ 244.
[12] أحمد عادل كمال: الطريق إلى دمشق ص61.
[13] من أشهر هذه الكتب: علل الحديث لعلي بن المديني، والعلل لأحمد بن حنبل، وتذكرة الحفاظ للذهبي، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والتاريخ الكبير والصغير للبخاري وغيرها…
[14] من جملة الكتب التي تحدثت عن الرواة: كتاب الثقات لابن حبان، والكمال في أسماء الرجال لعبد الغني المقدسي، وتهذيبه للمزي، وتذهيب التهذيب للذهبي، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، وميزان الاعتدال للذهبي، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني.
[15] وليد علي محمد: رسالة ماجستير بعنوان: (مرويات البلاذري في عصر الراشدين، دراسة تاريخية مقارنة للروايات المسندة المعاصرة) ص12، 13.
[16] من جملة العلوم التي استفادت من قواعد النقد التي وُضِعَتْ لضبط الحديث الشريف، نجد علم التفسير والفقه والأدب واللغة.
[17] صحيح البخاري: كتاب المغازي 3/ 1435.
[18] صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير 3/ 1354.
[19] سنن الترمذي: كتاب السير 4/ 117.
[20] الكافيجي: (788-879هـ=1386-1474م) محيي الدين، محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود، الرومي، الكافيجي: فقيه، أصولي، محدِّث، نحوي، اشتهر بمصر، ولازمه السيوطي، وسمي بالكافيجي لكثرة اشتغاله بكتاب الكافية في النحو، من تصانيفه الكثيرة: شرح قواعد الإعراب لابن هشام، وجيز النظام في إظهار موارد الأحكام. انظر: السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1/ 549، 550، وعمر كحالة: معجم المؤلفين 10/ 51، والزركلي: الأعلام 6/ 150.
[21] الكافيجي: المختصر في علم التاريخ ص336.