||إننا مازلنا في الأعمّ الأغلب ننظرُ إلى التأريخ كأرض مشاع يستطيع كلّ من أمسك قلمًا أو تأدّب بنوع من الأدب أن يلجها ويعبث فيها كما يشاء. تُرى أيطمع أي منّا في أن يُؤلف في الرياضيات دون أن يقفَ على دقائق أسلوبها، أو أن يمارس الفيزياء أو الكيمياء أو الطب دون أن يتدرب في مخابرها ويفني السنين الطويلة في دراستها نظرًا وتطبيقًا؟ فلماذا لا نُقرّ للتأريخ بمثل هذه الحاجة إلى فنّ ودراية وتدرّب عقلي صارم؟ إنّ البحث التأريخي هو – عند التحقيق – أشدّ دقة وأبعدُ منالاً من الأبحاث العلمية الطبيعية؛ لأن مادته أصعب من مادتها، وأشدّ تعقّدًا، ومقاييسه أخفى من مقاييسها وأعسر تحديدًا. فلا بدع في أن يكون – كما قال بعضهم – “أصعب العلوم”. إن هذه الحقيقة لا تزال خافية عن سواد الناس عندنا، بل لنقل أيضًا إنها تخفى عن سواد الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار، ولكن آن لها أن تبدو للخاصّة من مثقفينا، وأن تدفعهم لأن يفرضوا على أنفسهم وعلى كل من يتصدّى للتأريخ منّا توفية الشروط التي تتطلبها هذه الصناعة. فالحقيقة التاريخية مطلب بعيد، وخصم عنيد لكل عبث في القول أو وهم في الخيال أو خفّة في الحكم. يُضاف إلى هذا أن الضرر الذي يحدث من الأحكام التأريخية الفاسدة قد يعمّ الناس ويسري في عقولهم ويؤثّر في تصرّفاتهم حتى ليصبح من الصعب إزالته، خصوصًا إذا لقيت هذه الأحكام هوىً في النفوس، وتجاوبًا في الصدور؛ فليس أعسر عندئذ من العودة إلى رؤية الحق والاهتداء بهديه والتزام طريقه[1]

*****

صراعُ الديكة على الإرث التاريخي!

الحقّ أن هذا الاقتباس الطويل –والذي قد يخالف الأعراف الأكاديمية في الاقتباسات– كان من المحتّم علي في بدء هذه السلسلة من المقالات عن قصة ومشارب الكتابة التاريخية أن أُصدّره بها؛ ذلك لأنه ما عانت الحركة الإسلامية من غياب الوعي التاريخي مثلما عانت في الأعوام الخمسين الأخيرة، فقد انتشر نمط من الكتابة العاطفية التي توقفت عند المحنة دون الاعتبار بالأخطاء الذاتية، أو باستلال عظائم الحضارة الإسلامية دون الاعتبار بالانتكاسات؛ وإن عُذر هذا النمط الأخير من الكتابة لأنه ما ظهر إلا كردة فعل على الهجمة الشرسة التي نالت من التراث الإسلامي وتاريخه؛ فإن المقارنة بين التاريخ الإسلامي – بكل ما له وما عليه – بتاريخ الإمبراطوريات التي ظهرت على أنقاضها الدولة الإسلامية أو حتى الحضارات المعاصرة يكشف الهوة البعيدة بين تعامل كل منهما مع الإنسان والبيئة وأثر التصور العقدي على المعرفة والثقافة العامة/ النموذج ورؤيته للأشياء.

وفي غمرة هذا الدفاع المحموم بين التيار الإسلامي وغيره من التيارات والأيديولوجيات كالمادية الماركسية والقومية القطرية ثم الاتجاهات العلمانية الليبرالية فيما بعد، طفت على السطح سلبيات كل فريق على الحقول المعرفية المختلفة وعلى رأسها الرؤية التاريخية، وإذا كان الاقتباس النفيس الآنف ذكره المؤرخ اللبناني قسطنطين زريق قبل أكثر من خمسين عامًا، فإنه هو نفسه قد انتقد مدارس التأريخ المختلفة، فالإسلامية والمسيحية قد سمّاهما بالمدرسة التقليدية، وانتقد بشيء من الاستحياء المدرسة القومية – الغالبة آنذاك – والماركسية، ومدح بشيء من الاختصار المدرسة العلمية التي سنقف معها لاحقًا.

أقولُ: إن الوصول إلى الحق المطلق في العلوم الإنسانية ضرب من الشطط، وإن الانتقاص المستمر لاتجاه من الاتجاهات التأريخية ضرب من عدم الإنصاف، فكل اتجاه في العلوم الإنسانية – والتاريخ منها – له ما له وعليه ما عليه، طالما أن كلا منها يسعى للوصول إلى الحقيقة التي هي غاية تلك العلوم.

ومن ثم فإن هذه السلسلة من المقالات لا تهدف إلى ترجيح كفة مدرسة تأريخية على أخرى بقدر ما هي سلسلة توصيفية تعريفية، ستقف – إن شاء الله – مع الرؤية التأريخية للمسلمين في تاريخهم الثقافي والتدويني، ومع أهم المدارس التأريخية التي ظهرت في العالم الغربي ما لها وما عليها، ومع علوم المنهج التاريخي “الميثدولوجيا” المعاصرة وأهم ما استفادته من تاريخ التراث الإسلامي الذي كان أسبق في التحري والضبط والعدالة من هذه المدارس الميثدولوجية المعاصرة، ومع أهم القراءات التاريخية المعاصرة وأثرها في الوعي الجمعي للمتلقين في العالم العربي، سواء في الدراسات الأكاديمية أم في التيارات الثقافية بمختلف مشاربها.

بين التاريخ والتأريخ!

لكلمة “التاريخ” تاريخ من التطور الدلالي في الغرب، فقد استُخدمت كلمة Istoria في الحضارة اليونانية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد للدلالة على البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة، ثم أصبحت مقتصرة على الأحداث التي رافقت نمو هذه الظواهر، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع، وأخذ الرومان تلك الكلمة بمبناها ومعناها، وظلت كلمة historia تعبيرًا فنيًا لم تتبدل حروفه بانتقاله إلى اللغات الرومانية كما كان يحدث لو كانت هذه الكلمة دارجة الاستعمال عند العامة، غير أنّ معناها في الاستعمال الشعبي أخذ يتدهور في اللاتينية واتخذ أشكالاً مختلفة أخذتها اللغة الإنجليزية من الفرنسية[2].

ويقصر أغلب المؤرخين معنى التاريخ على بحث واستقصاء حوادث الماضي كما يدل على ذلك لفظ historia المستمد من الأصل اليوناني القديم، أي كل ما يتعلّق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض، بتسجيل وصف أخبار الحوادث التي ألمّت بالشعوب والأفراد، وقد تدل كلمة تاريخ على مطلق مجرى الحوادث الفعلي الذي يصنعه الأبطال والشعوب، والتي وقعت منذ أقدم العصور، واستمرّت وتطورت في الزمان والمكان حتى الوقت الحاضر.

وفي اللغة العربية التاريخ والتأريخ والتوريخ يعني الإعلام بالوقت، وقد يدلّ تاريخ الشيء على غايته ووقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتّفق من الحوادث والوقائع الجليلة، وهو فنّ يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله المفصّلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة للإنسان وفي الزمان[3].

وقد تعددت الأقوال في أصل كلمة أرخ أو ورخ، فثمة من نسب الجذر العربي إلى اللفظة اليونانية arch الذي يُنطق في اليونانية “أرخ” ومعناه القديم أو القدم[4]، وثمة من نسبها إلى جذور سامية في اللغتين الأكادية والعبرية بل بعضهم نسبها إلى اللغة العربية العاربة الجنوبية في اليمن، لأنه لم توجد لها جذر في لغة العرب المستعربة في الشمال.

وأيًا ما كان أصل الكلمة، فإن ثمة محاولات مهمة استطاعت أن تفرّق بين التاريخ والتأريخ بشيء من المنطقية والموضوعية؛ إذ اكتنف لفظة “التأريخ” نوعًا من اللبس؛ فهي تارة تُطلق على الماضي البشري ذاته، وتارة على الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضي ورواية أخباره، أو العلم المعني بهذا الموضوع، وما فتئ العقل البشر ينتقلُ عفوًا بين تلك المعاني دون تمييز دقيق بينها، وقد كان هذا اللبس ذاته في اللغات الأجنبية الحية، فكانت هذه المحاولات في المنهجية التاريخية قد تمكنت من التفريق بينهما، فأطلقت “التأريخ” (بالهمز) على دراسة الماضي، و”التاريخ” (بالألف اللينة) على الماضي ذاته[5].

فإذا كانت دراسة الماضي تعني “تأريخًا”، فإن هذا التأريخ يدخل في جل العلوم العلمية والإنسانية على السواء، بيد أنّ العلوم الطبيعية ليست غاية العالِم فيها الأحداث الماضية بذاتها، بل غايته استخلاص القوانين التي تربطُ هذه الأحداث أو النظريات التي تفسّرها، ووضع العلوم الاجتماعية شبيه من هذا القبيل بوضع العلوم الطبيعية في أنها ترمي إلى استنباط القوانين التي تنتظم بها الأحداث البشرية، ولا تكتفي بمجرد إدراك تلك الأحداث بالذات، بالرغم من أن هذه الغاية في العلوم الاجتماعية أبعد منالاً وأصعب سبيلاً منها في العلوم الطبيعية؛ لأن مادة تلك العلوم – وهي الإنسان فردًا ومجموعًا – أشدّ تعقيدًا، وأعمق غورًا، وأبلغ فعلاً من مادة العلوم الطبيعية، والتأريخ يشارك العلوم الاجتماعية بمادته الإنسانية، لكنه يختلف عنها في أنه ينصرف إلى هذه المادة من وجهة نشوئها وتغيّرها وتسلسلها الزمني؛ فإذا شاء أن يتعدّى هذا إلى استخلاص قوانين التغير أو التطور فقد دخل في حيز دراسة أخرى يمكننا أن نميزها عن التأريخ الصرف؛ هذه الدراسة هي فلسفة التأريخ أو علم الاجتماع التأريخي، أو علم “العمران البشري” كما دعاه ابن خلدون (ت808هـ)[6].


*باحث في التاريخ والتراث

[1] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ ص83، 84. دار العلم للملايين – بيروت، 1985م.

[2] فرانز رزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح أحمد العلي ص19. مؤسسة الرسالة – بيروت، 1983م.

[3] حسن عثمان: منهج البحث التاريخي ص12. دار المعارف، الطبعة الثامنة.

[4] حسين مؤنس: التاريخ والمؤرخون ص7. دار المعارف، 1984م.

[5] زريق: نحن والتاريخ ص14.

[6] زريق: نحن والتاريخ ص52.