من سرق بندقية أم كلثوم
يتذكر يومها حين كانت الشمس تلفح وجهة الأسمر، تتراص عربات الشرطة يمنة ويسرة تتربص عيون رجالها به، الكل بالرداء والهراوات السوداء متأهب للفتك به، والكل ممن معه متأهب لعلقة ساخنة ستنالهم حتمًا، هذه ليست وجوه يعرفها أبدًا، شيء ما خاطئ حدث في تركيب الكون منذ دقائق لا بد.
كان الخبر بالبارحة، المروحيات الإسرائيلية تقتل ستة جنود مصريين على الحدود في رفح. انتهاك صارخ لا معنى له، تجرأ الكلاب ولم يخرج بعد تصريح رسمي واحد على قدر المسئولية. وقتها كانت تكفيك تغريدة لتجد الشوارع تزدحم بالملبين، وقد كانت الدعوة للنزول والاعتصام أمام السفارة الإسرائيلية، ولكن ما فاجأهم بعدها هو كم أفراد الأمن التي أحاطتهم بعد أيام من اعتصامهم في «احتفالية أمنية» خلفت العديد من الإصابات بين صفوف المتظاهرين. يتحسس بعدها جرحًا غائرًا في وجهه، هل كنا نعتصم أمام وزارة الداخلية أم سفارة العدو؟ نفس الغضبة ونفس الهراوة وربما من نفس الجندي، يدافع عن الساحتين بنفس الحمية. لماذا تساوت الأمور؟ لأنه يبدو أنه قد سرق أحدهم إرث جدتي.
من قال أننا لا نتعلم؟ تكفيني عشر دقائق أسترجع فيها ذكريات أمتي حتى تطل علي تلك الحقيقة؛ أننا نتعلم كل لحظة، ونحوز رضا معلمينا من هول ما نصنعه بسرعة تعلمنا، حتى معلمينا لم يظنوا يومًا أننا نتعلم بهذه السرعة.
مذ متى أصبحنا كذلك؟ وكم سيستغرق الوقت حتى نصير لأسوأ منه؟! تردني أخبار حين كان حديثنا أن نمحو العدو من على وجه البسيطة. كانت الدماء الحارة تكاد تنفر من العروق، والعدو يحتاط كل لحظة أن يستثير أعصابنا، كان حينها يخرج محمد عبد الوهاب ليعلنها «فحق الجهاد وحق الفدا» ولم يكن ليلاقي حينها إلا مزيدًا من الترتيل المستمر من مقاهي القاهرة وصولاً إلى كتائب الجبهة. ويصول الثلاثي نزار، عبد الوهاب، أم كلثوم، فيحرضوا شعوب الأرض و يتفاخروا بأنه «أصبح عندي الآن بندقية»، وأن لا نقاش لا يوجد لفلسطين إلا طريق واحد «يمر من فوهة بندقية».
حينها لم يكن ليعترض أحد بأننا نؤجج صراعًا أو نقذف بأنفسنا للتهلكة، ولم يكن يعلم التاريخ انقسامًا حول ما إذا كانت البندقية حلًا أو حلًا بديلًا. لقد كانت البندقية منهاجًا إذا ما صار هناك عدو، ودارت الأيام في عزها وأرذلها، نتغنى بقذف تل أبيب في البحر، وننشد بأنه لا سبيل إلا بالسلاح الصاحي حتى نلتقط الصورة سويًا في نفس الميدان.
تردنا كل تلك الأيام التي كان فيها عدونا يخشى النظرات حتى بعد انتصاره في 1967. كان يعلم أن جموعًا لو قبضت على شيء من تلابيبه ما أفلتتها إلا على جثتها، يحاول جاهدًا تشتيت الجموع ولكن هيهات، تتشتت قليلاً وتتنافس الأحزاب، ثم يعود الكل مجددًا ليجتمع حول العدو الواحد جاهدًا أن يفتك به.
و ثم تأتي أيام يعلمون فيها أجيالاً أن يمحوا كل تراث آبائهم ويبدأوا يتغنوا بالـ«الاستسلام»، الموصوف بهتانًا بالـ«سلام». أصبحنا من موقع المندفع إلى المدافع بل المنزوي في جحر فأر. يتحول مسار حياتك من الرد بالمثل، إلى الدفاع بالامتثال للأوامر العليا. تحاول بعض جيناتك من قديم الأجيال أن تستفزك لفعل شيء، فتخرج بعض الأغاني الحزينة والتراتيل الصوفية التي لا تتغنى إلا عن كم أننا مظلومون، وحنانيك أيها المجتمع الدولي، هلا بنظرة عطف من أجل الاستسلام الذي نتقنه؟
علمونا بالسياط أن منهاجنا السلام المزيف، سلام الاستغناء والرضا بعقاب ولي الأمر، وأن من طبائع القدر أن الضربة من بندقياتهم إلى صدورنا ليس لها إلا مسار واحد، ويمكنك أن تبكي قليلاً وقتها على أخيك الذي نالته الرصاصة صاحبة المسار الواحد، وترتقب الجهة التي ستنالك فيها الرصاصة القادمة. رسخوا في أدمغتنا أن هذه هي الأدوار التي اختارتها السماء لكلينا نحن والعدو، حتى صرنا نخبئ أشرطتنا الحزينة وشعاراتنا الموسمية من ضربة إلى ضربة، ظانين بأنه أقوى الإيمان ولا بديل عنه.
البديهي صار قابلاً للنقاش! تعال لنتناقش حول من الأحق بالأرض! تعال لنتباكى على وزير دفاع العدو! تعال لنختلف حول من هو العدو أصلاً!، تعال لنطبع ونوثق و نزيف المسميات!. لماذا تصر أيها الفتى التعيس على نبش قصة «بندقية أم كلثوم» بعد كل هذه العقود؟، يا لك من همجي دوني. لكل عصر أذان، ومؤذنك يصدح من أعلى مآذنهم هم لا مئذنتك. من قال لك أن الحقوق لا تسقط بالتقادم؟، لقد سقطت ودفناها سويًا مع بندقية أم كلثوم.