«جمال لم يُقتل، ولا أصدق أنّه قُتل»، غردت «خديجة آزرو»، خطيبة الكاتب والصحافي السعودي المعارض «جمال خاشقجي»، على حسابها في تويتر، بعد أربعة أيام من اختفاء خاشقجي، بعيد دخوله القنصلية السعوية بإسطنبول لإنجاز بعض الأوراق الروتينية للزواج. خديجة هي باحثة تركية تربطها صلة قرابة بـ «ياسين أقطاي» مستشار الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان».

في أغسطس/ آب 2017 يتوجه جمال خاشقجي بالشكر والولاء لولي عهد المملكة الأمير مُحمد بن سلمان «لحرص ولي العهد على عودته إلى الكتابة بعد توقفه عنها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، داعيًا الله ألا يُكسر في عهد الأمير قلم حر وألا يُسكت مغرد». ثم في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام يقول جمال إنه تلقى اتصالًا من شخص مُقرب من القيادة يخبره أن يصمت، وحين طالب جمال محدثه بأمرٍ قضائيٍ أهانه، ليكون ذلك سببًا في مغادرة جمال إلى منفاه الاختياري الولايات المتحدة تجنبًا للمشاكل، على حد تعبيره.

موقفان يوضحان المد والجزر في حياة جمال، وفي المد والجزر تتلخص حكايته.تتم إقالته من منصب رئيس تحرير جريدة الوطن عام 2004، بعد شهرين من تعيينه، دون توضيح أسباب رسمية، لكنه يرد الأمر إلى خلاف حول «سياسته التحريرية».

الجملة ذاتها استخدمها جمال بعد 13 عامًا، عام 2017، حين أنهت صحيفة الحياة اللندنية، المملوكة للأمير خالد بن سلطان، علاقتها معه. حتى عندما عاد إلى رئاسة تحرير الوطن مرةً أخرى في الفترة بين عامي 2007 و 2010، تمت إقالته وأعاد استخدام الجملة للمرة الثالثة، لكن أردفها هذه المرة بأن الإقالة كانت لأنه دفع حدود النقاش والجدل داخل المجتمع السعودي.

بعد أن ترك جريدة الوطن، أو تركته هي ، ينتقل إلى قناة العرب الإخبارية المملوكة للأمير الوليد بن طلال. القناة كانت تبث من البحرين لكن سرعان ما أُغلقت القناة بعد يومٍ واحد من البث، ليس لخلافٍ حول السياسة التحريرية هذه المرة لكن أغلقتها البحرين دون توضيح أسباب.

كذلك بعد أن كان الرجل مستشارًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل أثناء فترة عمله سفيرًا للمملكة في لندن ثم في واشنطن، أعلن مصدرٌ بوزارة الخارجية في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016 أن خاشقجي لا يمثل المملكة بأي صفة، وأن آراءه شخصية لا تمثل مواقف المملكة بأي صورة.


رفيق بن لادن

وُلد جمال خاشقجي كمراسل صحفي بعد إنهاء دراسته في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة. بدأ العمل لصحيفة سعودي جازيت الناطقة بالإنجليزية وهو ابن الثلاثين، ثم أخذ عوده الصحفي يشتد بالعمل كمراسل للعدد من الصحف العربية، لكن صادف ربيعُ عمره فترةَ اضطراب الشرق الأوسط فاتخذ نجمه طريقًا نحو السطوع. وبدايةَ من عام 1991 استطاع أن يُغطي حرب الخليج الأولى وحرب أفغانستان، كما كان متابعًا جيدًا لما يحدث في الجزائر والكويت والسودان.

في أفغانستان والسودان والسعودية يترافق جمال وأسامة بن لادن. يؤكد في حوار له عام 2003 أن علاقة جمعته مع ابن لادن، لكنه يعود للتشديد على أنه سبلهما افترقت حين رأى علامات التشدد على ابن لادن بعد عودته من السودان عام 1996، وحتى ذلك ظل جمال حريصًا على استخدام كلمة «الجهاد» في وصف فترة تعرفه بابن لادن، فيقول إنه تعرّف عليه أثناء جهاده ضد السوفييت.

كذلك أعلن رغبته في تنظيم لقاء مع أبي بكر البغداد، زعيم تنظيم داعش، على قناة العرب. يعلل ذلك بأن وظيفته هي نقل الخبر دون أن يعلن تأييده أو معارضته له. لكن لم تكن تلك السمة المميزة لمقالات خاشقجي، بل كان حريصًا على إبداء رأيه في كل حدث طارئ، خاصةً إذا كان الأمر يتعلق بالمملكة، إذ نقل لزميلته كارين عطية أنه يحب المملكة وأهلها؛ لذا يرى أنه من واجبه أن يكتب الحقيقة عن حاضر بلاده ومستقبلها.


السعودية للجميع

يؤمن خاشقجي بضرورة الوصول إلى سعودية شاملة، دولة تتشارك في إصلاحها جميع قطاعات المجتمع، ليست دولةً تتخلص من السلفية الراديكالية لتثير إعجاب الليبرالية الراديكالية، كما وصفها .اعترض خاشقجي على اعتقال سبعين من الدعاة والعلماء في الشهور الأخيرة، قائلًا إنهم لا ينتمون إلى منظمة واحدة ويأتون من اتجاهات مختلفة، لكن المشترك بينهم كما يراه أن جميعهم مستلقون، وأنهم يعبرون عن قلقهم في قضية أو أخرى. وزاد الاعتراض بعد أن دار حديث بين خاشقجي وصديقه عصام الزامل في واشنطن عن الأوضاع في المملكة، لكن آثر الزامل العودة إلى المملكة ليصل خبر اعتقاله بعد يومين من عودته.

https://www.youtube.com/watch?v=DCQUt6t6M24

كما اتهم خاشقجي بأنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين المصنفة كإرهابية في السعودية والإمارات والبحرين ومصر. الاتهامات بدأت بدفاعه عن مطالبة الداعية يوسف القرضاوي بقتل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي ونظيره السوري الراهن بشار الأسد. تزداد النار اشتعالًا برده على الاتهامات بأن منهج الإخوان هو منهج كل حركة إحيائية. كذلك رفض عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وأوضح ذلك في كتابه «ربيع العرب – زمن الإخوان». ثم جاء رده على متهميه بالانتماء للإخوان، بأنه من الواضح أن الإخوان فكرهم نبيل ما دام أن كل من يؤمن بالإصلاح والتغيير ويعتز بدينه وبحريته يتم اعتباره منتميًا للجماعة المحظورة.

لكن سيرة جمال خاشقجي تؤكد أنه ليس منتميًا لجماعة الإخوان المسلمين، كما أنه ليس كارهًا لولي العهد ولا للمملكة، بل كان دائمًا ما يمدح ثم ينتقد، يعترض حينًا ويوافق حينًا، يناصر بعض ما يقوم به ولي العهد ويعارض البعض. ولم يُعثر على تصريح واحد له يطالب فيه بإسقاط ولي العهد أو المملكة، ولم يشكك في شرعية العائلة الحاكمة ولا كيفية تداول الحكم فيها. بل يتفق في كتابه احتلال السوق السعودي مع رؤية ولي العهد في خصصة القطاعات الإنتاجية وفي ضرورة الاستعانة بالعمالة السعودية بدلًا من احتلال العامل الأجنبي للسوق السعودي برضا من السعوديين.


ليس معارضًا!

ذكر الصحفي ديفيد هيرست، صديق خاشقجي، أنه كان دائمًا ما يتجنب وصفه بالمعارض السعودي في المحافل الدولية. وأضاف أن خاشقجي اعتبر نفسه مملكيًا وابنًا لمنظومة الحكم، وأكد أنه كان مشاركًا بقوة في الديوان الملكي، كما أنه سافر مع العائلة المالكة في مناسبات عدة. والواقع يقول إن خاشقجي كان يُقدم لفترة قريبة كصحافي سعودي قريب من القصر، وعمله في المناصب المذكورة سابقًا يؤكد هذا التقارب.

تباين مواقف خاشقجي يبدو جليًا في حرب اليمن التي تقودها المملكة، إذ أيدها في البداية قائلًا، إن المملكة وحدها هي التي تستطيع إخراج اليمن من الفوضي، لكنه عاد لاحقًا ليصفها بالوحشية التي يجب على المملكة إنهاؤها فورًا. دافع أيضًا عن إحدى حملات الاعتقال التي قادتها المملكة موضحًا أنه يستشعر أن تلك الحملة صادقة في مواجهة الفساد، ثم تراجع عن موقفه في أول مقالٍ له لصحيفة واشنطن بوست بعنوان مُركب كعادته جاء فيه أن المملكة لم تكن بهذا القمع، لكنها الآن لا تُطاق.

حتى مواقفه من الولايات المتحدة التي اختارها لتكون منفى له لم تكن مؤيدةً. في كتابه «علاقات حرجة – السعودية بعد 11 سبتمبر» يوضح أن الولايات المتحدة استخدمت الهجمات لصالحها لكي تخوض بها حربًا على العراق لا تقل همجيةً عن الهمجات التي تعرضت لها. وأردف أن الهجمات قد أحدثت شرخًا في العلاقة بين الولايات المتحدة والعرب عامةً والسعودية خاصةً، لكن تناست الولايات المتحدة أن السعودية بتبرعاتها الوفيرة وزهرة شبابها هي من ساندتها في حربها الخفية ضد السوفييت في أفغانستان.


الزواج يقتل

يعود المد والجزر إلى حياة جمال مرةً أخرى وأخيرة في تركيا. ليتمكن خاشقجي من إنهاء إجراءات زواجه من خطيبته خديجة، عليه الحصول على إفادة من القنصلية السعودية تفيد بأنه غير متزوج. في 2 أكتوبر/ تشرين الأول أخبرته القنصلية أن الإفادة جاهزة وحددت له الواحدة ظهرًا ليتسلمها.

منعت السلطات خديجة من الدخول ومنعته من اصطحاب هاتفه، طال التأخر فتواصلت مع الأجهزة الأمنية. بدأت السلطات التركية سلسلةً من التحريات. لم يجد الأمن التركي شيئًا، ونفت المملكة وجود أي معلومات لديها حول القضية. ثم عاد الأمن التركي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي ليقول إن تحقيقاته الأولية توصلت إلى أن جمال خاشقجي قد قُتل داخل القنصلية السعودية، ليُقابل الأمر بالنفي من الجهات السعودية، وأعلنت أنها تشارك تركيا قلقها حول مصير المواطن السعودي.

لا جثة، لا جريمة. هذه هي القاعدة، لذا سيبقى الوضع قيد البحث والتساؤل حتى يقطع جمال هذا الشك بظهوره مرةً أخرى إما حيًا وإما ميتًا. وإذا كانت الأخيرة فيبدو الطريق طويلًا أمام إثبات علاقةٍ مباشرة بين المملكة وبين الأمر، ربما لا تريد تركيا حدوث هذا الرابط كي لا تبدو بمظهر العاجز عن حماية رعاياها، أو تضطر إلى الدخول في صدام مع المملكة.

وإن ثبت الرابط في النهاية فتلاسن دبلوماسي سرمدي حتى يخفت وقع الصدمة ثم لا شيء، أو قد يؤدي إلى شيء، لا يمكن التنبؤ، فنهاية قصة جمال خاشقجي مركبة، كما كانت في جميع فصولها.