من خاطر إلى الدقامسة: مسيرة مقاومة التطبيع العربي مع إسرائيل
حينما تخرج هذه الكلمات من فم أم تنظر إلى فلذة كبدها وهو في قفص الاتهام، وفي انتظار النطق بحكم بالسجن المشدد، فأعلم يقيناً أنها فخورة بفعلته التي أودت به إلى ذلك القفص، وأن الزمن لو عاد للوراء، كانت ستدفعه إلى نفس الفعل دون تردد أو رهبة.رنت كلمات والدة الجندي «أحمد الدقامسة» في جنبات قاعة المحكمة قبل أن تحكم عليها بالسجن المؤبد، ورغم مرور تسعة عشر عاماً على هذه الكلمات إلا أن صداها مازال يتردد في أذُن كل أردني، رفض التطبيع مع إسرائيل، وهتف بحياة ذلك الشاب – الدقامسة – الذي بدأ مسيرة رفض التطبيع حينما أسكن رصاصته في أجساد سبع إسرائيليات استهزئن منه أثناء تأديته للخدمة العسكرية على حدود بلاده.فكان للشعب الأردني مع مقاومة التطبيع حكاية…
هكذا قاوم خاطر التطبيع
كانت هذه أولى الكلمات التي نطق بها الجندي المصري «سليمان خاطر» عقب إصدار المحكمة العسكرية ضده حكماً بالسجن المؤبد لمدة 25 عام. ليضعه التاريخ بعد ذلك على رأس قائمة مقاومي التطبيع في الوطن العربي.هو «سليمان محمد عبد الحميد خاطر»، ولد عام 1961 بقرية «أكياد» البحرية التابعة لمدينة فاقوس في محافظة الشرقية، وهو الأخير من خمسة أبناء في أسرة بسيطة تعمل بالزراعة. فتّح خاطر عينيه على آثار النكسة في 5 يونيو 1967، وبعدها شهد الهجوم الإسرائيلي على مدرسة بحر البقر بالشرقية 1970، والتي استخدمت فيها القوات الجوية الإسرائيلية طائرات الفانتوم الأمريكية، ليُستشهد أكثر من 30 طفل. ثم عاصر نصر أكتوبر 1973.والتحق سليمان بسلاح الأمن المركزي، وبحسب ما نشرت صحيفة الوفد، فإنه في يوم 5 أكتوبر 1985، وأثناء قيام سليمان بأداء نوبة حراسته المعتادة، بمنطقة رأس برقة جنوب سيناء، فوجئ بمجموعة من السائحين الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته، خاطبهم بالإنجليزية بأنه ممنوع العبور لهذه المنطقة فاستمروا بالتسلق، فأطلق رصاصات تحذيرية، لأن ذلك يُشكّل في العرف العسكري وضعية عدائية وخطرة يجب التعامل معها بإطلاق الرصاص الا أنهم لم يستجيبوا، وبالفعل أطلق النار عليهم، وقتل منهم 7 أشخاص.أحيل سليمان إلى المحاكمة العسكرية، التي حكمت عليه بالسجن المؤبد 25 سنة. وبعد الحادثة بثلاثة أشهر، تم نقله إلى السجن الحربي بالقاهرة لقضاء العقوبة الموقعة عليه، وبعدها تم نقله إلى مستشفى السجن بدعوى معالجته من البلهارسيا، وفي 7 يناير 1986 أعلنت الإذاعة ونشرت الصحف خبر انتحار الجندي سليمان خاطر في ظروف غامضة، ولم يتم التحقيق في الواقعة وأُغلقت القضية على ذلك.وقد أثار النبأ غضب الآلاف من المصريين والعرب، وخرجت مسيرات تطالب بالثأر والقصاص، وتؤكد أن خاطر تم اغتياله، ولم ينتحر. وعلى الرغم من مرور 30 عاماً على الحادثة يبقى المرجع لدى معظم المصريين أن سليمان تم اغتياله، ولم ينتحر، وأنه جسّد ثورة المصري لكرامته.
وادي عربة وبداية التطبيع الأردني
كان من المفترض أن تعمل معاهدة «وادي عربة»، التي تم توقيعها بين إسرائيل والأردن في 26 أكتوبر عام 1994، على تحقيق سلام عادل ودائم وشامل في المنطقة، وذلك على أسس من الحرية والمساواة، وتعزيز الموقف الفلسطيني في مطالبته بالقدس، وحق العودة، وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة.ولكن، كشف الواقع عن أن هذه المعاهدة مثّلت عبءً ثقيلاً وقيداً شديد الإحكام على الأردن وفلسطين، وفي الوقت ذاته، ظفرت إسرائيل بحدود آمنة لها مع الأردن. وإضافة إلى ذلك، فقد مثّلت هذه المعاهدة التطور الأهم في تاريخ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية.
فالمعاهدة اعتراف بسيادة منقوصة للأردن على أراضيها المحتلة، وخلال معالجتها لتنظيم استغلال نهري الأردن واليرموك، تجاهلت حقوق الدول العربية الأخرى في هذه الأنهار، وأدخلت إسرائيل طرفاً أساسياً في تعاون عربي أو إقليمي في مجال تنمية الموارد المائية، وأسست لهيمنة إسرائيلية على موارد المياه في نهر الأردن والأحواض الجوفية.وبعد التوقيع، سارعت الدول الراعية لما عُرف بالسلام النظري في المنطقة الى عقد مؤتمرات السلام الاقتصادي في عدة عواصم عربية للترويج لمشاريع كبرى يجري تنفيذها مع إسرائيل لتعزيز التنمية في المنطقة. كما تمكنت إسرائيل من إيجاد موطئ قدم ثابت لها في قلب الاقتصاد الأردني، خاصة في القطاع الزراعي، الذي وجدته مكاناً أمثل لذلك، فباتت السوق الأردنية مليئة بمنتجات زراعية إسرائيلية. فخلال العام الماضي فقط 2015، دخل نحو 60 ألف طن من الفواكه والخضار الإسرائيلية إلى الأسواق الأردنية.وقد أخذت إسرائيل، بدورها، وبالتعاون الرسمي مع الأردن، على عاتقها تنويع حوافزها، فعمدت إلى استغلال امتيازات أمريكية، من قبيل المناطق الاقتصادية المؤهلة QIZ وسيلة لتسويق «الفكر التطبيعي».وفي الأردن، وبعد توقيع المعاهدة، ظهرت العديد من الحملات الإعلامية المكثفة التي حاولت إظهار مزايا وإيجابيات المعاهدة، كما كان دعاة التطبيع مع إسرائيل يجدون رعاية رسمية لهم، وكان هؤلاء يجاهرون، في بدايات المعاهدة، بمواقفهم، ويعتبرون أن موقفهم ينبع من حبهم الأردن وسياسته، وإن دعواتهم للتطبيع تصب في التوجه الرسمي للدولة. ولأن المعاهدة كانت، حتى ذلك الوقت، جديدة، فقد اعتمد أولئك في تسويق رؤيتهم على أن الناس لم تلمس فوائد السلام أو سلبياته، وكان لسان حالهم يقول «دعونا نُجرّب».
الدقامسة وشرارة البدء
بدأت الحركة الشعبية لـ «مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني» منذ اليوم الأول لتوقيع المعاهدة، واستمرت إلى اليوم، وما بين التاريخين تعرّضت مقاومة التطبيع لمراحل مد وجزر متفاوتة.وجاء أحمد الدقامسة ليُطلق الشرارة الأولى لمسيرة مقاومة التطبيع في الأردن، بعد ثلاث سنوات فقط من توقيع معادة «وادي عربة».وُلد أحمد الدقامسة عام 1972 في شمال الأردن، وهو جندي أردني كان يعشق فلسطين، ويتألم لما يشاهد من مجازر تُرتكب في حق أبنائها.خدم في قوات حراسة الحدود، وفي يوم 13 مارس عام 1997، وبينما كان الدقامسة يؤدي واجبه في حماية منطقة «الباقورة»، وحينما كان يؤدي الصلاة، إذا بأتوبيس يُقلّ مجندات يهوديات، نزلن المكان للاستجمام، وإذ هو يصلي تقدمت إليه مجموعة من الفتيات، وأطلقن عليه بعض النكات مع ضحكات ساخرة، فما كان منه إلا أن يطلق عليهم الرصاص، فقتل سبعة، وأصاب خمسة.
وكان العاهل الأردني حينها «الملك حسين بن طلال»، قد قطع زيارة قصيرة لأوروبا وقت الحادث وعاد إلى المملكة، حيث دان الهجوم ثم زار لاحقاً إسرائيل لتقديم العزاء لعائلات الضحايا الإسرائيليات، التي تلقت تعويضات من المملكة.وحُكم على الدقامسة بالسجن المؤبد، وهو حالياً يؤدي العقوبة في مركز إصلاح وتأهيل أم اللولو قرب مدينة المفرق.وقد ذكرت والدته قبل ذلك أنه «كان يتألم كثيراً عندما يشاهد ما يجري في فلسطين، وأنها عندما سمعت بمقتل إسرائيليات، ذكرت أن والده قال: هذا أحمد». وتقول والدته أنه عندما حضر أحمد إلى المحكمة وكان خافضاً رأسه، صرخت به وقالت له: «لا تخاف.. لا تحزن.. ارفع راسك لفوق».
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، مرت 19 عاماً على سجن الدقامسة دون أن يناله أي عفو عام أو خاص في قضيته، سواء تحت ضغط المطالبات المستمرة بالإفراج عنه، أو بسبب سوء حالته الصحية بعد إضرابه عن الطعام أكثر من مرة.وتنوعت مطالب الإفراج عنه، وكان من أحد المواقف التي طالبت بالإفراج عن الدقامسة، ما فعله وزير العدل الأسبق حسين مجلي الرواشدة في اعتصام نقابي أمام مقر وزارة العدل؛ للمطالبة بالإفراج عن الدقامسة.وفي 27 ديسمبر 2015، طالب 110 من أعضاء البرلمان الأردني بضرورة معاملته إنسانياً والإفراج عنه. قبل أن يُجدد 59 عضواً منهم مطالبهم بالإفراج عنه في يناير 2016. وقال النواب، في مذكرة موجهة لرئيس البرلمان: «نطالب الحكومة بالإفراج عن الجندي أحمد الدقامسة، بسبب تردي حالته الصحية، فضلاً عن معاناته الإنسانية الطويلة له ولأسرته».وتعتبر أحزاب المعارضة والنقابات المهنية الأردنية، وأوساط شعبية واسعة الجندي الدقامسة بطلاً، وأنه انتقم للجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
معارك الشعب الأردني ضد التطبيع
لم تكن رصاصات الدقامسة سوى بداية الإفصاح عن غضب شعبي تجاه عملية التطبيع الأردني مع إسرائيل، حيث انطلقت حملات لمقاومة التطبيع في الأردن، وتنوعت أساليبها لتتمكن من إقناع شرائح واسعة من المجتمع الأردني برفض فكرة التطبيع، واستطاعت بالفعل أن تجد لها قدماً في مجالات مختلفة، فبات لها مناصرون، كتاب وأدباء وسياسيون ونقابيون وحزبيون من تيارات سياسية أردنية.
حيث رصدت تلك الحملات مظاهر تغلغل إسرائيل في الأردن، واعتبرته تنوعاً في خيارات التطبيع ومحاولات للتأثير على الناس، فتعاملت معه بكشف جوانبه السلبية على الاقتصاد الأردني.فكشفت الحملات عن أن المناطق المؤهلة التي تقوم على فكرة استيراد مواد أولية من إسرائيل، في مقابل السماح بالتصدير إلى أسواق الولايات المتحدة، لم تنعكس بشكل إيجابي على القوة الشرائية للمواطن الأردني. ثم جاءت محاولة الموساد الإسرائيلي لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، في عمّان لتشكل ضربة جديدة لجهود التطبيع، ومنحت مقاومي التطبيع مجالاً أوسع وأرحب للعمل.كما عملت الحملات بعد ذلك على إعداد قوائم بأسماء المطبعين، وهو ما قوبل بردة فعل كبيرة من السلطات الأردنية التي أقدمت في بداية الألفية في عام 2001 على اعتقال أربعة من أبرز أعضاء الحملة، ثم أفرجت عنهم بعد أسابيع، وسط تعاطف شعبي.ثم جاء توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة الأردنية وإسرائيل تضمنت استيراد غاز إسرائيلي. وشكّل هذا الأمر حالة تحدّ جديدة لمقاومي التطبيع، فعادت حملات المقاطعة إلى قوتها، وخصوصاً أن التوجه الحكومي لاقى رفضاً نيابياً، وحزبياً وطلابياً ومجتمعياً. وفي ماراثون عمّان السنوي للركض، ألصق خمسة شبان على ملابسهم شعارات تندد بعزم الحكومة الأردنية استيراد الغاز من إسرائيل، رافضين ما اعتبروه إجباراً حكومياً للشعب للتطبيع مع إسرائيل.كما تجلى الجانب العنيف في رفض الشعب الأردني للتطبيع، من خلال تلك الهجمات المسلحة التي نفذها أردنيون ضد مسئولين وعسكريين أمريكيين من منطلق رفضهم لدعم واشنطن لإسرائيل وغزوها للعراق وأفغانستان، ومن منظور تآمرها ضد العرب والمسلمين.وتعدد تلك الحوادث والهجمات نفى أن تكون مجرد حوادث فردية، وإنما مثّلت منحى جديد تبناه الشعب الأردني معبراً عن رفضه لسياسات حكومة بلده، وغضبه تجاه الظلم الذي يتعرض له أبناء الوطن العربي.
ففي 28 أكتوبر 2002 اغتال مسلحون أردنيون الدبلوماسي الأمريكي «لورانس فولي» بينما كان يغادر منزله في عمّان. وفي 25 أكتوبر 2009، قتل الطبيب الأردني همام البلوي سبعة من ضباط جهاز الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان بعد أن اطمأنوا لتجنيده للتجسس على تنظيم القاعدة. وفي يوليو 2015، قتل شاب أردني يُدعى «محمد يوسف عبد العزيز» أربعة من جنود المارينز في ولاية تينيسي الأمريكية. وأخيراً، في 9 نوفمبر 2015، قام نقيب الشرطة الأردني «أنور أبو زيد» بقتل ضابطين أمريكيين بمركز تدريب في عمّان.
- محمد الصاوي، "من هو سليمان خاطر؟"، موقع مصراوي، 6 أكتوبر 2014.
- محمد وطني، "بالصور.. في الذكرى 27 لوفاته.. سلميان خاطر مقاتل مصري دفع حياته ثمناً لكرامة وأمن بلده"، موقع صحيفة الأهرام، 7 يناير 2013.
- "لماذا نرفض معاهدة وادي عربة؟"، موقع المحامي مصطفى فرج.
- مراد المحضي، "الدقامسة والتحقيق باستشهاد زعيتر ملفان أحرجا الحكومات الأردنية"، موقع السبيل، 26 أكتوبر 2015.
- "59 برلمانياً أردنياً يطالبون بالإفراج عن الدقامسة"، موقع عربي 21، 27 يناير 2016.
- جهاد منسي، "عشرون عاماً من مقاومة التطبيع مع إسرائيل في الأردن"، موقع العربي الجديد، 1 نوفمبر 2014.
- سيد أحمد الخضر، "مقتل الأميركيين بالأردن.. رصاصات من وحي الدقامسة"، موقع الجزيرة نت، 11 نوفمبر 2015.