من الأهم بينهم: المشجع المصري أم الأوروبي أم الآسيوي؟
من منا لم يستمع لإحدى النوادر التي تجمع أحد سكان صعيد مصر مع اثنين أو ثلاثة أشخاص من أوروبا وأمريكا في غرفة واحدة؟ تلك النوادر التي تخرج لنا جزءًا ساخرًا هزليًا من تصرفات ذلك المصري مقارنة بتطور عقلية سكان المجتمعات الأوروبية والأمريكية.
الآن ربما قد جاءت فرصتنا لأن نتساوى مع سكان تلك المجتمعات، في أننا جميعًا نحل في مرتبة أدنى من صديقنا المستهلك الآسيوي وذلك في نظر النادي الأوروبي الذي نتسابق جميعًا على إثبات ولائنا وتشجيعنا له.
فبالرغم من الفارق الجغرافي وفرصة ذلك الأوروبي في الاقتراب من ناديه أكثر من أي طرف آخر، لكن لو وضعنا جميعًا في غرفة واحدة، أي منا سيكون مفضلًا لإدارة النادي الأوروبي؟
اسم رونالدو باللغة الصينية
علينا الآن أن نعود لإحدى الأساطير الخالدة المُكررة عند كل صفقة شراء لنجم كبير، وهي الأسطورة التي تحدثنا عن قيمة ذلك النجم التي ستؤثر بالإيجاب على بيع قمصان الفريق، مما سيغطي قيمة الصفقة وأكثر. وبالرغم من محاولات النفي الدائمة لتلك الأسطورة، وأنها لا تجدي نفعًا على المستوى الواقعي، فإن الأمر في يوفنتوس كان مُختلفًا.
تكلفت صفقة جلب البرتغالي «كريستيانو رونالدو» إلى إيطاليا، حوالي 350 مليون يورو، وعادت بالنفع المادي على النادي الإيطالي بعد العام الأول للبرتغالي بارتفاع في الأرباح قد بلغ حوالي 100 مليون يورو عن العام الذي سبق وصول رونالدو.
لكن الناتج الأهم كان قد حل في غضون حوالي 3 شهور فقط من الانتقال، حيث ارتفعت شعبية اليوفي في الصين بنسبة 70% تقريبًا. نسمي هذا الناتج بالأهم لأن هذه النسبة قد تأتي بمنافع مادية واقتصادية أكثر بكثير مما قد يظهر في أرصدة النادي أو قد يظهر على بطولات الفريق في ختام كُل موسم.
أطلقت متاجر شركة أديداس قمصان اليوفي باسم ورقم كريستيانو بعد أسبوع واحد من إعلان الصفقة رسميًا، وبعد 24 ساعة من هذا الإطلاق، بيِع 520 ألف قميص، في مقابل 850 ألف قميص قد تم بيعهم في العام الذي سبق وصول الدون.
بحسبة بسيطة، أدخلت عملية البيع تلك ما يساوي 10 مليون يورو تقريبًا في حساب اليوفي في اليوم الأول فقط. كانت حصة السيدة العجوز لتزيد أكثر من ذلك بكثير، لو أنها كانت تعلم قيمة رونالدو الحقيقية في الدول الآسيوية بالقدر الذي تعرفه شركة أديداس، فالقيمة الأكبر من تلك القمصان قد تم بيعها في آسيا، عن طريق متاجر الشركة وليس متاجر النادي.
خلال دراسة قامت بها وكالة «Brand Finance» العالمية للاستشارت المالية في الصين في عام 2017، أظهرت النتائج أن 88% من مشجعي الكرة الأوروبية في الصين قد قاموا بشراء سلع ومنتجات تحمل شعار الأندية التي يفضلون.
حاول ريال مدريد استغلال تلك الإحصائية بأقصى قدر ممكن، ونجحوا في توقيع صفقة مع منصة Alibaba الصينية لبيع سلع الأندية، خلال عام 2017، مما زاد احتمالية وصول سلع النادي الإسباني لحوالي 600 مليون مشتري. لكن كان رحيل رونالدو إلى إيطاليا لينتقص كثيرًا من حظوظ النادي الآسيوية.
لم يكن الحديث عن صفقة رونالدو والفارق بين تعامل اليوفي وريال مدريد في هذا الملف إلى باب يُفتح ليخبرنا كم يمكن أن يُحدث السوق الصيني تأثيرًا واضحًا في الكرة الأوروبية. يقول «آندي مور»، مدير قسم التحليلات في شركة «Brand Finance»، إن الاختلاف فيما تحققه الأندية من أرباح بسبب الأسواق الصينية إنما يعود إلى سرعة إدراك تلك الأندية لقيمة هذا السوق.
دوري السوبر الآسيوي
نجحت الأندية الأوروبية في إدراك قيمة السوق في آسيا أسرع من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. نجد الآن أن جزءًا كبيرًا من تمسك الاتحاد الأوروبي بمشاركة الأندية من الدول الضعيفة فنيًا في قارة أوروبا داخل دوري أبطال أوروبا، إنما يرجع إلى رغبة الاتحاد في تسويق وتوزيع البطولة إلى تلك الدول وكسب مشاهدات مشجعيها، حتى لو سيضعف ذلك المسابقة ذاتها.
وربما كان الاعتراض الدائم من منظمي الاتحاد على تنظيم بطولة جديدة، دوري السوبر الأوروبي، والتي تستهدف فئات جماهيرية مختلفة، لم يكن بسبب الحفاظ على مواريث كرة القدم الأوروبية، بينما للدفاع عن حقوقهم في كسب المشجعين الأوروبيين في معادلة البث والترويج.. أو بمعنى أكثر وضوحًا، أنها لم تفهم أهمية اقتحام السوق الصينية قبل الأندية والاتحادات المحلية مثل الدوري الإنجليزي.
فوفقًا لما نُشر على وكالة رويترز، فإن الخبراء الاقتصاديين أكدوا أن فشل تنظيم الدوري الأوروبي أضاع على الأندية المنظمة فرصة كبيرة للتعمق أكثر في الصين والدول المجاورة. بلغة أخرى، أن تنظيم دوري السوبر الأوروبي كان يستهدف القواعد الجماهيرية في آسيا وليس في أي مكان آخر.
قال «توماس ابراهام» من شركة «SportzPower»، وهي شركة تراقب الأعمال الرياضية في الهند، إن بعض المشجعين في آسيا يؤمنون أن فرصة بطولة عظيمة مثل هذه قد قُتلت بسبب «الولاء لإرث عمره قرن في أوروبا». لا داعي للعجب، فإن المشجعين في آسيا لا يعرفون للولاء طريقًا.
شركات كبرى وصغرى
علينا الآن أن نتفق على أن أندية كرة القدم تمثل شركات اقتصادية صغيرة الأرباح، إذ إنها لا يمكن أن تتساوى بأي قدر مع الشركات الاقتصادية الكُبرى. فمثلًا، في ال ـ6 أشهر الأخيرة من عام 2017، حققت شركة أديداس أرباحًا تزيد عن مجمل ما حققه مانشستر يونايتد، وهو أحد أنجح وأغنى أندية العالم، خلال 139 عامًا من وجود النادي.
لكن تمتلك تلك الشركات الصغيرة ما تفتقده أغلب الشركات الاقتصادية ذات القيم المالية العملاقة، وهي القدرة على صناعة القواعد الجماهيرية في كل مكان في العالم، فهذا النطاق الهائل الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والوطنية والثقافية والدينية واللغوية والعرقية، شيء يتمناه أي كيان في العالم، ولا يمكن بلوغه إلا لكيانات قليلة جدًا.
يمتلك مانشستر يونايتد حوالي 660 مليون متابع حول العالم وفقًا لإحصاء مؤسسة إندبندنت الإنجليزية. لكن على الرغم من سعة القاعدة الجماهيرية لهذا الفريق، وللكيانات الرياضية أمثاله، يصعب الاستفادة من كل هذه الأعداد الغفيرة، على عكس ما تستطيعه الشركات الأخرى، وربما يفسر ذلك الفارق في الأرباح بين كلا النوعين من الكيانات، وهو نفس ما يؤكده الكاتب «سايمون كوبر» مؤلف كتاب «soccernomics».
سلعة أم شريك؟
مع تحول كرة القدم لصناعة، والأندية إلى شركات، واللعب القوي إلى نتاج ضخ أموال، بات تحول الجماهير إلى مستهلكين أمرًا مفروغًا منه. وهو شيء اقتنعت به أغلب إدارات الأندية الأوروبية، لكن ما زال لا يقتنع المشجع العادي بأنه تحول في إحصاء ناديه إلى مجرد سعر تذكرة موسمية أو ثمن قميص للنادي أو مقابل مادي لمشاهدة إحدى مباريات الفريق عبر أي منصة إلكترونية.
بينما في آسيا، الأمور أكثر وضوحًا ولا تحتاج لأي شرح أو تفسير. فلقد دخلت الأندية الأوروبية إلى قارة آسيا كعلامات تجارية، وتتعامل معها الجماهير على هذا الشكل بدون امتعاض من الطرفين، ويغيب مؤثر الولاء والعاطفة في أغلب تلك العلاقات، ولذلك هي علاقة اقتصادية تجارية بحتة.
لا يمكن لأي نادٍ الاستغناء عن قواعد مشجعيه المحلية، لكن بالشكل نفسه، لا يمكن الاستغناء عن قواعد مستهلكيه في القارة الآسيوية، حتى لو فرضنا تحول أغلب مشجعي النادي المحليين إلى مستهلكين. حيث يُلحق على الفارق بين المستهلك وبين المشجع العادي، القدرة الشرائية والفارق في العملة بين كل من المستهلك الآسيوي والمستهلك الأوروبي.
للتوضيح، فإن اليونايتد قد قام بتوقيع شراكة مع أحد الكيانات الإعلامية الرقمية في الصين من أجل بث قناة MUTV عبر 165 دولة حول العالم، من بينهم الدول الآسيوية بالقطع، لو فرضنا أن أسفرت تلك الشراكة عن تحويل 1% فقط من الـ660 مليون متابع للنادي (حوالي 6.6 مليون مشجع) إلى مستهلكين لهذا التطبيق، فإن النادي سينعش حساباته بحوالي 80 مليون إسترليني سنويًا.
أما في حالة زيادة عدد المستهلكين من آسيا، فإن زيادة الأرباح لأضعاف أمر متوقع بشكلٍ زائد. فمثلًا، لو قام المستهلك من الهند بدفع 1.6 جنيه إسترليني شهريًا كاشتراك في تطبيق MUTV، فإن ذلك يعادل حوالي 6 جنيه إسترليني في فنلندا نظرًا للفارق المهول في التعداد السكاني.
نحو فناء الجماهير في أوروبا
كان غياب الولاء هو الحل الأمثل لإقامة علاقة تجارية ناجحة بين الأندية كشركات، والجماهير كمستهلكين، لكن استمرار سيطرته على الوضع في السوق يمثل في حد ذاته مشكلة كبيرة قد تنذر بضياع قيمة الجماهير في أوروبا إلى الأبد، أو تحولهم مثل المشجعين المصريين للأندية الأوروبية ذاتها -بدون تأثير حقيقي.
بداية من دوري السوبر الأوروبي، ووصولًا إلى بطاقات الدفع مقابل المشاهدة التي ظهرت في الدوري الإنجليزي في مطلع عام 2021، فإننا على مشارف التضحية بمشجعي الدوريات الأوروبية من داخل قارة أوروبا في حال لم يستطيعوا توفير المقابل المادي الذي يضاهي ما يقدم من آسيا.
تحول الأمر إلى المادة خالية من الولاء يحولنا جميعًا إلى أطراف غير مؤثرة في قرارات وعمر الأندية، فلن نستطيع، لا في أوروبا ولا في مصر وأفريقيا، مضاهاة القوة الشرائية القادمة من القارة الأكبر من حيث الكثافة السكانية، ولا نستطيع سحب واستهلاك سلع كرة القدم بالقدر الذي يستطيعونه هم.
الآن لو وضعنا جميعًا في غرفة واحدة، مصري وأوروبي وآسيوي، فإنك من المؤكد ستجد تصرفات الأوروبي أكثر هزلية، في رؤية الأندية الأوروبية، من تصرفات ذلك المصري الصعيدي في النوادر والنكت المصرية القديمة.