من هو «سانتياجو برنابيو» الذي سمّي باسمه ملعب مدريد؟

التاريخ، نجوم اللعبة، ليالٍ لا تُنسى بكل تفاصيلها، كؤوس لامعة يرفعها لاعبون يرتدون الزي الأبيض لنادي العاصمة مع صرخات الجماهير، الجلاكتيكوس. أشياء تجدها دائمًا في ذهن مشجع نادي ريال مدريد الإسباني، ذكريات لا تُمحى بمرور الزمن، وبالرغم من اختلاف هوية تلك الذكريات، لكن يجمها شيء واحد فقط، وهو ملعب السانتياجو برنابيو.

كلمات كتلك التي نطق بها فلورنتينو بيريز عام 2014 في مؤتمر ضخم عرض فيه التصور الجديد لملعب سانتياجو برنابيو، تخبرك بالمكانة الكبيرة التي يحتلها الدون سانتياجو في نادي العاصمة الإسبانية. فهناك ألفريدو دي ستيفانو، و هناك بوشكاش وراؤول جونزاليس، ومؤخرًا صار هناك كريستيانو رونالدو، فلماذا تفرّد سانتياجو برنابيو بتلك المكانة دون بقية أساطير اللعبة في الميرينيجي خلال القرن العشرين والعقدين الأولين في القرن الـ 21؟

من أين بدأت القصة؟

في الثامن من يونيو/حزيران من عام 1895، في بلدية ألمنسي بمقاطعة البسيط بإسبانيا، وُلد «سانتياجو برنابيو يستي» كأخ سابع لستة أطفال. بعد سنوات قليلة انتقل سانتياجو مع عائلته إلى العاصمة مدريد، وبدأت قصته مع كرة القدم. كان برنابيو يشاهد الأطفال الصغار وكذلك إخوته الكبار يلعبون الكرة في حواري مدريد بشغف أثار استغرابه في البداية.

مع الوقت اندمج برنابيو شيئًا فشيئًا مع زملائه في المدرسة، وكوّن فريقًا مدرسيًا لكرة القدم كان هو قائده والمسئول عنه. المفارقة أن أول بطولة مدرسية يحصل عليها هذا الفريق كانت هي سنة إنشاء نادي ريال مدريد الإسباني عام 1902، وكأن القدر أراد أن يخبر برنابيو بشيء ما، لم يدركه حينها بالطبع.

في عام 1909 عندما أتم سانتياجو 14 عامًا انضم لفريق الناشئين بالنادي الملكي على خطى أخيه الأكبر مارسيلو برنابيو. أراد مدرب الفريق حينها ضمه كحارس مرمى للفريق،ولكن أخاه الأكبر مارسيلو أخبره أنه وُلد ليكون مهاجمًا، فإما أن يلعب كرة القدم كمهاجم وإما لا.

مشوار عطلته الحروب

لعب سانتياجو كرأس حربة للفريق الملكي لمدة 16 موسمًا، أحرز خلالها 70 هدفًا في 80 مباراة وفقًا للموقع الرسمي لنادي ريال مدريد الإسباني. الفوز بدوري المنطقة لـ 9 مرات وكأس إسبانيا مرة واحدة كانت حصيلة بطولات برنابيو مع الميرينجي.

قد يبدو لك عزيزي القارئ أن عدد المباريات التي لعبها سانتياجو قليلة مقارنة بعدد المواسم التي لعبها في ريال مدريد، لكن أريد أن أذكرك أن تلك المواسم قد تخللها 4 سنوات من اضطراب الأوضاع في أوروبا بسبب الحرب العالمية الأولى، والتي بدأت في 1914 وانتهت عام 1918.

اعتزل سانتياجو برنابيو كرة القدم عام 1927 وقرر الاتجاه بعد ذلك لاستكمال دراساته العليا في الحقوق، ليعود بعدها بعامين للعمل في النادي الملكي، ولكن هذه المرة كمدير رياضي للنادي، وبعدها كنائب رئيس للنادي.

حروب لا تنتهي

كانت العلاقة بين مسيرة برنابيو والحروب غريبة بعض الشيء، فمسيرته الاحترافية في الملاعب بدأت بالحرب العالمية الأولى، أما مسيرته الإدارية فقد بدأت بالحرب الأهلية في إسبانيا التي استمرت منذ عام 1936 حتى عام 1939 وراح ضحيتها الآلاف وقضت على الأخضر واليابس في إسبانيا، وأتت بالجنرال فرانشسكو فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار بعد انتهاء الحرب وحتى مماته عام 1975.

من المؤكد أن سانتياجو حينها كان يندب حظه ويرى مستقبله شديد الضبابية، لكنه لم يكن يعلم أن تلك الحرب ستكون السبب الرئيسي في تخليد اسمه في ذاكرة التاريخ حتى يومنا هذا، ولكن كيف كان ذلك؟

بعد الحرب كان النادي قد دُمر تمامًا. المنشآت قُصِفَت والملاعب استخدمت كثكنات واللاعبون والمشجعون منهم من مات ومنهم من هُجِّر رفقة 600 ألف إسباني آخر أثناء الحرب. في تلك الأثناء بدأ بزوغ نجم نادي أتلتيكو مدريد، والذي كُوِّن تحت رعاية القوات الجوية الإسبانية وشركة أتلتيكو للطيران حينها.

شعر سانتياجو حينها أن تلك ليست النهاية التي يستحقها نادي العاصمة المدريدي، النادي لا يستحق النهاية أصلًا طالما أن الحياة لازالت مستمرة. فبدأ في إجراء اتصالاته ولقاءاته مع اللاعبين والأعضاء والإداريين السابقين الذي تبقوا من الحرب، وبدأ النادي في الرجوع رويدًا رويدًا. حتى جاء عام 1943، الذي جرت فيه انتخابات لاختيار رئيس النادي، فكانت النتيجة متوقعة بالطبع، سانتياجو برنابيو رئيسًا للنادي الملكي.

ملعب سيذكره التاريخ

بعد 4 سنوات فقط من توليه رئاسة النادي الملكي كان سانتياجو قد بدأ في تنفيذ مخططاته التي طالما حلم برؤيتها على أرض الواقع في النادي. ففي عام 1947 كان برنابيو يقف بجانب أعضاء نادي ريال مدريد وكبار المسئولين في إسبانيا وهو يفتتح ملعب «تشار مارتن» الذي يتسع لـ 120 ألف متفرج، ليصير أكبر ملعب في أوروبا في ذلك الوقت. بالتأكيد ملعب كهذا كان خطوة على الطريق الصحيح، وكفيلًا بأن يعيد الهيبة والأنظار مرة أخرى للميرينجي.

بعد ذلك شرع الرئيس برنابيو في دعم النادي باللاعبين الكبار، فتاريخ الأندية لا يُبنى بالمنشآت، بل يُبنى بأقدام وعرق لاعبيه. وعند بداية النصف الثاني من القرن العشرين استقدم برنابيو لاعبين كبار مثل ألفريدو دي ستيفانو، وبوشكاش، وخينتو، وميجيل مونوز، وكوبا، وغيرهم.

اقترح بعد ذلك الدون سانتياجو على أعضاء الاتحاد الأوروبي إقامة بطولة تجمع بين أبطال الدوري من مختلف بلدان أوروبا. نال الاقتراح استحسان البعض وعدم تحمس البعض الآخر، لكن البطولة قد أقيمت في النهاية ونالت اهتمامًا وصفته صحيفة ليكيب الفرنسية حينها بالمجنون من جماهير القارة العجوز. فاز فريق ريال مدريد بالبطولة خمس مرات متتالية منذ عام 1955 وحتى عام 1960، لتصفه صحيفة ليكيب بالفريق الذي أعاد اختراع كرة القدم.

هل تحتاج عزيزي القارئ أن أخبرك الآن عن سبب تغيير اسم ملعب «تشار مارتن» إلى ملعب سانتياجو برنابيو؟ بالطبع لا. في الاجتماع السنوي لأعضاء النادي عام 1955 تقرر تغيير اسم الملعب ليُنسب إلى الدون سانتياجو الذي أعاد إحياء النادي مرة أُخرى بعد الحرب تقديرًا لما قدمه لهذا الصرح.

يُقال إن سانتياجو برنابيو كان معترضًا على تغيير اسم الملعب حينها، ولكن تلك الأقاويل غير موثقة، ومن الممكن أن تكون أحد أنواع المبالغات من عشاق أي نادٍ لتمجيد أساطير ناديه ونسب الفضائل إليهم. فإن كانت تلك الخطوة قد تمت دون إرادته وبرغبة خالصة من الجمهور فإن ذلك يضيف فضيلة أُخرى لذلك الرجل الذي خلده التاريخ، وإذا كانت رغبة منه فبالطبع لا يوجد في تاريخ ريال مدريد حتى الآن من هو أحق منه بذلك.