من يموّل سد النهضة؟
في أبريل من عام 2011، وفي خضم الثورة المصرية، أعلنت إثيوبيا عن شروعها في بناء سد النهضة الكبير في منطقة بني شنقول بالقرب من الحدود السودانية.
مشروع جريء بلغ ارتفاعه 558 قدمًا، وبتكلفة قُدرت بـ4.8 مليار دولار- أي نحو 7 % من الناتج القومي الإجمالي الإثيوبي لعام 2016، وبجهد نحو ثمانية آلاف وخمسمئة عامل في إحدى أكثر الدول فقرًا على مستوى العالم.
تعرض المشروع منذ الإعلان عنه لكثير من التحديات التي أرادت إعاقة استكماله، في ظل حالة من الافتقار إلى التمويل الدولي للمشاريع على نهر النيل الأزرق منذ فترة طويلة، نتيجة الجهود المصرية المستمرة للحفاظ على حصتها في مياه النيل.
لكن تلك الظروف لم تمنع الحكومة الإثيوبية من الاستمرار فيه، بل تمكنت في يوليو من العام الجاري من إنجاز نحو 73% منه، ومن المتوقع أن تكتمل أعمال ما قبل التوليد بحلول ديسمبر 2020 ويتوقع الانتهاء من المشروع بحلول عام 2022.
ما ساعد إثيوبيا في ذلك، هو اتباعها «نهجًا مبتكرًا» كما وصفه خبراء التنمية في تمويل المشروع، إذ اعتمدت في تمويله رغم ظروفها المادية العثرة على عدة مصادر داخلية وخارجية كي تتمكن من استكماله وإيقافه على قدميه.
مصادر التمويل الداخلية
في خطوة غير عادية، اتخذتها إثيوبيا رغبة منها في إضفاء صفة القومية على المشروع وإثبات قدرتها على الوقوف في وجه التحديات المالية، اتجهت إثيوبيا إلى التمويل الذاتي للسد عبر حشد مجموعة من المصادر الداخلية، والتي تمثلت-وفق ما هو مُعلن- في: [1]
1. قروض البنك الإثيوبي
تمثل المصارف الإثيوبية أحد مصادر التمويل الداخلية، إذ تتولى البنوك تقديم قروض منخفضة الفائدة للحكومة بنحو 27% عن قيمة القروض التي تقدمها للأفراد والشركات.
تلك الممارسة وفقًا لصندوق الدولي، كان من شأنها أن تبطىء النمو الاقتصادي للدولة، لكن ذلك لم يكن ضمن اعتبارات الحكومة خاصة وأنها تنظر إلى السد على أنه سيكون سببًا رئيسيًا في إنعاش الاقتصاد الإثيوبي وتعويض ما تم إنفاقه في تمويله، وذلك عبر توليده لنحو ستة آلاف ميجاوات من الكهرباء تكفي الاستهلاك المحلي والتصدير.
2. السندات
يعد السند طريقة لزيادة رأس المال من خلال الوعد بعائد مع وقت انتظار أطول نسبيًا، وهو ما اعتمدت عليه الحكومة الإثيوبية كمصدر رئيسي لتمويل المشروع.
وذلك عبر تقديمها في الخامس عشر من ديسمبر لعام 2017، مجموعة متنوعة من السندات تبدأ من فئة 25 بر، ودون حد أقصى، وذلك بقيمة تتراوح بين 0.9 إلى 36 ألف دولار أمريكي، وبفائدة تقدر بـ5.5% للاستحقاق حتى خمس سنوات و6% للفترات الأطول.
ويُصدار السند من قبل بنك التنمية الإثيوبي، ووكلاء آخرين مفوضين، وتستخدام اللوحات الإعلانية الوطنية والعروض الموسيقية ذات الصلة لزيادة تعبئة وجمع الأموال للسد لإضفاء صفة القومية على المشروع وتشجيع المواطنين على المشاركة فيه.
3. جمع اليانصيب ورواتب موظفي الخدمة المدنية
اعتمدت الحكومة الإثيوبية على نظام اليانصيب القائم على الرسائل النصية عبر الهواتف المحمولة والمتربط بمكافآت كمنازل أو سيارات أو مبالغ كبيرة من المال، كمصدر تمويل مهم في رأس المال المطلوب لبناء السد.
علاوة على استغلالها الأحداث الرياضية لجمع الأموال من عامة الناس، ودفع موظفي الخدمة المدنية للمساهمة بجزء من رواتبهم في بناء السد.
ووفقًا لتقرير صادر عن معهد بروكينجز، فإن العديد من موظفي الحكومة قد تعرضوا لضغوط هائلة لشراء السندات المطروحة من قبل الدولة، وأنه على الرغم من ارتفاع تكلفة السندات، فإن العديد من موظفي الحكومة قاموا بشرائها اضطراريًا، فضلاً عن ترويج الدولة لكون المشاركة في هذا المشروع دليل إثبات وطنيتهم ورفض ذلك بالطبع سيكون خيانة!
المصادر الخارجية للتمويل
لم تكتفِ إثيوبيا بالاعتماد على مصادر التمويل الداخلية، بل دعمها في تمويل وبناء وإدارة المشروع عدة مصادر خارجية أخرى، أهمها:
1. الصندوق الصيني والشركات الصينية
سهّل رأس المال الصيني وصعود الصين كقوة دولية من مسألة تحقيق الشراكة الاستراتيجية بينها وبين الدول الأفريقية وغيرها من البلدان النامية، فقد باتت الصين مصدرًا للتمويل البديل للمشاريع من حيث الترويج للقروض التي تمنحها باعتبارها غير مشروطة بأي قضايا داخلية كسوء الإدارة وحقوق الإنسان أو الفساد.
وبخصوص قضية سد النهضة، فإن الصين تستثمر بكثافة في إثيوبيا في الفترة الحالية، ووفقًا لبيانات القروض الصادرة عن مبادرة أبحاث أفريقيا الصينية في جامعة «جونز هوبكنز الأمريكية»، فإن إثيوبيا قد تلقت من الصين في عام 2017 نحو 652 مليون دولار في شكل قروض.
وبينما لا تمول الصين تكاليف بناء السد على نحو مباشر، إلا أنها قامت بجلب الشركات الصينية إلى إثيوبيا وإشراكها في معظم أعمال البناء، معتمدةً على الخبرة الصينية في قطاع الطاقة الكهرومائية.
وعليه، مُنحت الشركات الصينية عقودًا تستهدف التسريع من خطى المشروع بقيمة 40.1 مليون دولار، كما تم منح شركتي «جيزوبا جروب» و«فويث هيدرو» عقودًا بقيمة 112مليون دولار.
ورغم عدم مشاركة الصين بشكل مباشر في الإقراض لبناء السد ذاته، فإنها قدمت تمويلاً كبيراً في عام 2013 قُدر بنحو 1.2 مليار دولار لبناء خطوط الكهرباء والبنية التحتية ذات الصلة التي تستهدف إيصال الكهرباء في نهاية المطاف إلى البلدان المجاورة.
كما قامت شركة « ستيت جريد» الصينية بتشييد خط النقل عالي الجهد لنقل الطاقة بتكلف قُدرت بنحو مليار دولار، وهو ما تم اكتماله في أغسطس 2017.
وفي أبريل من عام 2019، قامت كل من إثيوبيا والصين بتوقيع اتفاقية بقيمة 1.8 مليار دولار لتمويل خطوط نقل وتوزيع الطاقة الكهربائية، إضافة إلى بناء الخط الثاني للسكك الحديدية بين أديس أبابا وجيبوتي الثاني ومدن مختلفة في الدولة.
2. الشتات الإثيوبي
يتمتع الشتات الإثيوبي في أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا والشرق الأوسط وبلدان أخرى بإمكانيات كبيرة للمساهمة في تنمية إثيوبيا، وذلك عبر إمدادها بالمهارات الإدارية والتقنية التي تحتاجها الدولة وكذلك التمويل اللازم للمشروعات. الأمر الذي حاولت الحكومة الإثيوبية استغلاله لدعمها في تمويل بناء السد.
في البداية، تمكنت الحكومة من بيع سندات بقيمة 5.8 مليون دولار لنحو 3100 إثيوبي بالخارج. غير أن محاولات بيع المزيد من السندات للمغتربين أثارت المعارضين لسياسات الحكومة، كما تم رفع دعوى قضائية على قانونية بيع تلك السندات.
فضلاً عن ذلك، فإن لجنة الولايات المتحدة للأوراق المالية وجدت أن تلك الممارسة غير قانونية، لذا قامت بتغريم الشركة الإثيوبية للكهرباء بحوالي 6.5 مليون دولار.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الحكومة في بيع السندات للمغتربين، حتى أنه بحلول عام 2016 تم بيع سندات للمغتربين بقيمة 38 مليون دولار أمريكي، جاء نحو 40% منها من المغتربين في الشرق الأوسط، فيما بلغت مشاركة المغتربين من أوروبا وأفريقيا وأمريكا الشمالية نحو 20% لكل منهما، بإجمالي مشاركات ثلاثة ملايين مواطن إثيوبي من الشتات.
3. البنك الدولي
في الوقت الذي ينفي فيه البنك الدولي أي صلة له بتمويل سد النهضة، فإنه يمول خط نقل عالي الجهد بقوة 500 كيلوفولت وألفي ميجاواط، وكذلك يمول مشروع الطريق السريع الكهربائي الشرقي من إثيوبيا إلى كينيا.
فضلاً عن تمويله لتمديد الشبكة الذي يعد جزءًا من مجمع الطاقة في شرق إفريقيا، إذ خصص البنك الدولي نحو 230 مليون دولار أمريكي لأجل تمويل مشروع التمديد. الأمر الذي يستفيد منه بصفة غير مباشرة مشروع سد النهضة.
4. شركات أجنبية مرموقة
لم تكن الشركات الصينية وحدها من نجحت في نيل نصيبها من العقود المربحة في سد النهضة، فقد سعت الحكومة الإثيوبية لاستجلاب الدعم الدولي لمشروع السد عبر منحها عقودًا لكثير من الشركات الأجنبية الكبرى.
ففي مارس 2011، مُنحت شركة «ساليني كوستروتوري» الإيطالية-بدون مناقصة تنافسية-عقدًا بقيمة 4.8 مليار دولار من أجل إنشاء السد، وهي ذات الشركة التي تقوم ببناء سد جيب الثالث المثير للجدل على نهر أومو الإثيوبي، وقامت بمنح شركة «تراتوس» عقدًا لتوفير كابلات منخفضة وعالية الجهد للمشروع.
كذلك، فإن عملاق الإنشاءات الإيطالي «وي بيلد»، ساليني إمبريجيلو سابقًا، يتولى تنفيذ أعمال الإنشاءات الرئيسية لسد النهضة، كما تولّت من قبل أعمال الإنشاءات في سد جايب 3، كذلك ارتبطت الشركة بعقد مع الحكومة الإثيوبية منذ عام 2016 لبناء سد «كيوشا» على نهر أومو.
إضافة إلى العقد الذي مُنح لشركة ألستوم الفرنسية بقيمة 250مليون يورو أي ما يعادل 326 مليون دولار في يناير عام 2013، من أجل توريد ثمانية توربينات ومولدات فرانسيس بقدرة 375 ميجاوات للمرحلة الأولى من مشروع «جراند رينيسانس» للطاقة الكهرومائية.
وكجزء من ذلك العقد، فإن شركة ألستوم تقدم خدمات الهندسة وتشغيل محطات الكهرباء، وتساعدها شركة تراكتيبل في التفاوض والإدارة والإشراف على البناء، وكذلك في الدخول في مفاوضات مع حكومتي السودان ومصر.
فيما تعمل شركة «فويث هيدرو» الألمانية الشهيرة، المتخصصة في مجال التوربينات والمحركات الهيدروليكية، على توريد التوربينات اللازمة للسد بالشراكة مع شركة ألستوم الفرنسية، التي تعمل هي الأخرى في مشروعات السد بموجب عقد مشترك مع شركة «جنرال إلكتريك» الأمريكية العملاقة.
إجمالاً، نجحت إثيوبيا عبر اتباعها نهجًا غير تقليدي في التمويل في إتمام ثلاثة أرباع مشروع سد النهضة، عبر لجوئها إلى عدة مصادر داخلية وخارجية للتمويل جعلتها قادرة على التصدي للمعوقات المالية التي لطالما عطلت المشروع.
Meron Taye&Tsegaye Tadesse, The Grand Ethiopian Renaissance Dam: Source of Cooperation or Contention, Journal of Water Resources Planning and Management, July 2016