من أسقط الطائرتين الإسرائيلية والتركية؟
مقولة «حافظ الأسد» المشروخة بعد كل قصف إسرائيلي وعلى مدى العقود الماضية، ليست فقط، كانت خالية من المصداقية، وخرجت من منطق «النكتة» أو الشماتة بسلطته، بل أصبحت مدار حوارات سرية لمعرفة الغاية من تكرارها، رغم أن نظامه كان على علم بكل ما كان يجري بين الشعب حول المقولة المهزلة.
الأغلبية من المهتمين بالقضية أدركوا أن «حافظ الأسد» رغم ذلك، كان مصرًا على نشرها على الإعلام وبين الشعب، للأسباب التالية:
امتصاص نقمة الشعب عن طريق الاستهزاء المبطن بالسلطة بدل مواجهتها. ديمومة رهبة الشعب من إسرائيل وهيمنتها العسكرية، للاستمرار في استبداده تحت غطاء المقاومة، وتحجيم المعارضة بحجة إلهائهم للسلطة عن القيام بواجباتها في مواجهة عدو قوي لا يرحم.
ولأنه كان يدرك أن أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل تعني خسارة سلطته، وفقدان هيبته أمام الشعب، لذلك كان يطمئن إسرائيل أنه لن تكون هناك مواجهة، والمقولة هي رد الفعل لا أكثر.
لم يتوقع خليفته «بشار الأسد» يومًا أن الوقت والمكان المناسبين سيتحققان، وفي المرحلة التي ستكون فيها سوريا في أضعف حالاتها العسكرية، والبنية التحتية أكثر من مدمرة، والمجتمع يعيش المآسي وفي غنى عن وطنيته، وعن القوى الخارجية التي تمرر أجنداتها من خلال مهاجمة إسرائيل من على الأرض السورية، والشعب بلغ حالة ليس فقط لا يتحمل حرب أخرى خارجية على الجارية، بل حتى التفكير في المقاومة التي كان والده المقبور يطبل لها.
وبالمقابل، فإسرائيل بحد ذاتها تعيش واقع الدفاع عن الذات أمام ما يجري في المنطقة من الحروب المذهبية، وهي آخر من تفكر في الهجوم على سوريا، خاصة مع تصاعد نبرة المنظمات التكفيرية الإسلامية الإرهابية على حدودها، رغم معرفة الجميع أن هذه المنظمات والسلطات الإقليمية تخلق المناوشات مع إسرائيل أو مع أي قوة أخرى.
على سبيل المثال، الرد كما يجري الآن في «عفرين»، وما حدث سابقًا على طول الحدود مع كردستان، وربما مع الأمازيغ مستقبلًا، في حالتين:
للتبجح والتباهي أمام الناس، والنفاق عليهم أنهم أنقى وأصدق من الطرف المقابل في إيمانهم وحرصهم على الإسلام، أو للحفاظ على السلطة مثلما كان يفعلها نظام الأسد والبعث سابقًا، وتفعلها إيران حاليًا، وما قدمه أردوغان من التصريحات «الهوجاء» حول القدس، في الوقت الذي بينه وبين إسرائيل اتفاقيات عسكرية واقتصادية استراتيجية وسياسية على مستوى السفارات.
معظم المحللين السياسيين اعتمادًا على المراقبين العسكريين بل وربما الجميع، يؤكدون أن الدفاعات الجوية السورية لم تعد تملك القدرة التكنولوجية على إسقاط طائرة «F-16»، وصواريخها أرض جو لم تسند بأي تطور على الأقل في السنوات السبع الأخيرة، وصواريخ سام التي تملكها السلطة تكاد تكون منسقة منذ سنوات، لأن جل اهتمامها كان مركزًا على الأسلحة الميدانية لمواجهة المنظمات المعارضة السورية، التي كانت تتلقى أسلحة خفيفة ميدانية متطورة، وليست بينها أي طائرات ولا أسلحة جوية خارج مجال الدفاعات الجوية السورية الخفيفة.
كما وأن الإيرانيين لم يزودوا سلطة «بشار الأسد» بأي صواريخ أرض جو، لأنهم كانوا بغنى عنها طوال معاركهم السابقة مع المعارضة، وهذه المعلومات موثقة عند الأمريكيين والروس الذين يعلمون بدقائق الأسلحة المرسلة إلى سوريا، فهما لن يسمحا لسوريا ولا لميليشيات إيران بقصف إسرائيل لأسباب عديدة لسنا بصددها الآن، إلا لغاية.
فهل الطائرة الإسرائيلية أسقطت، بأمر وإشراف روسي كرسالة موجهة لأمريكا، أم أنها سقطت لخلل فني، وهل كانت إسرائيل تتمنى ذلك؟ كرسالة لروسيا وأمريكا لتنبههم للخطر الإيراني على إسرائيل والمنطقة. وإلا فكيف حصل أن يتمكن الطيار من بلوغ الأراضي الإسرائيلية؟ فهل الطائرة قصفت من سلاح مثبت على مقربة من الحدود الإسرائيلية؟ وهذا احتمال بعيد حسب التكنولوجيا التي تملكها العسكرية الإسرائيلية.
جميع هذه الأسئلة وغيرها يجب أنه توجه لـ«بوتين»، وهو ما يفعله «نتنياهو» على مدى اليومين الماضيين، والحوار مستمر مع الجانب الروسي، وصدر تصريح مباشر من الروس بعدم التصعيد، وكان الرد الإسرائيلي لهم، أن: «ما يحدث أقل من الحرب وأكثر من مواجهة».
كما وصرح بعض السياسيين الإسرائيليين ربما للتغطية على الدور الأمريكيٍ، أن أمريكا الآن ليست في الموقع الذي يجب أن نتوجه إليهم بالسؤال، ومناقشة القضية معهم، وقالوا وبلهجة فيها بعض الأسف إن الدبلوماسية الأمريكية لم تخرج بتصريح إلا بعد مرور يوم وأكثر، علمًا أن التصريح كان فيه موقف صارم داعم لإسرائيل، وتنديد بعملية إسقاط الطائرة، وتسيير طائرات بلا طيار فوق أراضيهم.
مثلها مثل الطائرة التركية التي أسقطت بأسلحة القوات الكردية في عفرين، والدبابة التي دمرت، مؤشراتها تتوجه إلى أبعد من الصراع المحلي، وتثبت أن جميع القوى المتكالبة على مصالحها القومية أو على السلطة، لا يمكن أن تبلغ مآربها قبل أن ينفذوا أجندات القوتين الكبريين في المنطقة.
علمًا أن أمريكا لا تزال تلملم أوراقها في سوريا المتخلية عنها في زمن «باراك أوباما»، وتحتاج إلى تحرك أسرع، ومواجهة المصالح التركية في سوريا قبل المصالح الروسية والإيرانية، وهذه قد لا تتضح في المقابلة القادمة بين وزيري خارجيتهما، ولربما تحتاج إلى جولات دبلوماسية وعسكرية أكثر، ولمعرفة ما سيتمخض من المباحثات المتوترة، وهل الكرد سيحصلون على نتائج إيجابية يجب دراسة الأسئلة التالية:
هل حصول الكرد على أسلحة متطورة، إن كانت من الأسواق السوداء، أو من حلفائهم الأمريكيين، تعني أنهم سيرجحون الثقل الكردي البسيط على التركي؟ وهل سيلعب الميلان التركي نحو روسيا دورًا لصالح الكرد؟ وهل إذا صعد الترك من هجومهم على عفرين ستسقط طائرات أخرى لتركيا؟
أجزاء من أجوبة هذه الأسئلة، تبدت خلال اللقاء الذي جرى بين المستشار الأمن القومي الأمريكي «مكماستر» و«كالين» نائب «أردوغان» الأسبوع الماضي، وخروجهما بتصريحات ضبابية فضفاضة حول محاربة الإرهاب، على الأقل كان فيها توقع أن الأمريكيين لا يستغنون حاليًا عن الكرد.
وتصريح «ريكس تيلرسون» وزير خارجية أمريكا، تميل إلى هذا الجانب عندما قال: إن مباحثاته مع الجانب التركي ستكون صعبة، وهي تدل على تمسك الأمريكيين بموقفهم مع الكرد، لأنهم مصرون على البقاء في سوريا وفي المنطقة الكردية بالتحديد.
وبالمقابل كان الرد الروسي عندما قالوا إنهم سيدرجون منطقة عفرين ضمن مناطق خفض التصعيد، وهذه تعني الكثير، من سيراقبها؟ وتحت إمرة من ستكون؟ هل ستسلم للجيش السوري الحر، وبعدها ستبدأ سلطة «بشار الأسد» والميليشيات الإيرانية والطيران الروسي بمجازرهم مثلما يفعلونها في منطقة إدلب وعلى مرأى من الجيش التركي! وعليه يتوقع أن التوتر سيستمر في عفرين حتى لو توقفت تركيا، إلى أن يتم القضاء على البقية الباقية من المنظمات السورية العسكرية التكفيرية، وهذا ما لا تود المعارضة تقبله، وهي أنهم زجوا في عفرين للقضاء عليهم، فجعلوا الكُرد مصيدة.
وفي النهاية أسلحة روسية وأمريكية هي المعنية بالأمر، والقوى التي تستخدمها تتحرك تحت مراقبتهما، ولا يمكن لأي منهم تجاوز المسموح، فالذي يسقط طائرة لا بد وأنه يملك السلاح القابل لإسقاط أخرى، ولا يستبعد أن روسيا كانت على علم باستلام الكرد لهذا النوع من الصواريخ لذلك حظرت الطيران التركي لعدة أيام فوق منطقة عفرين.
فمثلما سمحت روسيا لتركيا باستخدام «فلول» «داعش» و«النصرة» تحت اسم «الجيش السوري الحر» بالهجوم على منطقة عفرين وبالمقابل تقوم بالمجازر في إدلب والغوطة الشرقية، كذلك سمحت للمنظمات الموالية لإيران وسلطة «بشار الأسد» بالهجوم وبأسلحة ثقيلة على قوات سوريا الديمقراطية على المشارف الشمالية لدير الزور حيث منابع النفط وبوجود القوات الأمريكية، والتي لم تكن أكثر من جس النبض الأمريكي في حال تم مهاجمة مدينة منبج.
والرد القاسي بالمقابل كان تأكيدًا على أن الأمريكيين مصرون ليس فقط على البقاء في سوريا، بل أنهم لن يتركوا منبج بسهولة، وبالتالي فالدولتان سيعتمدان على استخدام أدواتهما، وستستمر الحرب في سوريا، وكذلك الهجوم التركي- العروبي على الكرد من خلال عفرين، إلى أن يتفقا على بعض النقاط، والمكالمة الهاتفية التي جرت بينهما شملت هذه الأحداث.