رجال بوتين: من هم «الأوليجاركية» الروسية؟
دائمًا ما يخطف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأضواء بشخصيته الحازمة والقوية، لكن خارج دائرة الضوء توجد قوى هائلة تساهم في تدعيم عرش القيصر الروسي. تلك القوى يمكن التعبير عنها بقدرة بوتين على صنع توازنات داخلية وخارجية جيِّدة، أو القول بأن الرجل يحيط نفسه بطبقة مستفيدة من بقائه بقدر استفادته منها، أو يمكن تلخيص كل ذلك بوصف تلك الطبقة بـ «الأوليجاركية».
تلك الطبقة هي التي صنعت قوته، وهي التي مهدت له الطريق من البداية نحو السلطة. ودعمت من قبله سلفه بوريس يلتسن. الأوليجاركية هم مجموعة من الأثرياء ذوي النفوذ، استغلوا انسحاب القطاع العام المفاجئ من مجالات واسعة جراء انهيار الاتحاد السوفيتي، مثل المقاولات والإعلام والتعدين.
وأصل كلمة أوليجاركي هو الكلمة اليونانية أوليجاركيا، وتعني حكم الأقلية، أو حكم العائلات. وأول من استخدمه كان الفيلسوف اليوناني أرسطو، واستخدم الكلمة كنقيض لكلمة الأرستقراطية، التي كانت تعني في قصده حكم نخبة أيضًا، لكنها نخبة مميزة. فالأرستقراطية عنده كانت تعني حكم أفضل أعضاء المجتمع.
أما «الأوليجاركية – Oligarchy» أو كما تكتب عربيًّا أحيانًا، الأوليغارشية (يفضل بعض المترجمين ترجمة حرف g إلى «غ» عوضًا عن «ج» لأن الجيم العربية تنطق دومًا معطشة، كما أن ch تنطق عادة ش، لكنها تنطق في تلك الكلمة «ك»). ولـروبرت ميشيلز، عالم الاجتماع الإيطالي، نظرية مفادها أن جميع الدول، بما فيها الدول الديمقراطية، تصل في نهاية الأمر لحكم الأقلية، الأوليجاركية، وعُرفت تلك النظرية بنطرية «القانون الحديدي للأوليجاركية».
أما عن الأوليجاركية الروسية تحديدًا فتُعتبر انتخابات عام 1996 من أبرز نقاط التحول في تاريخها. لأنه قبل تلك الانتخابات ببضعة أشهر دعا سيرجي كورجينيان، عالم ومفكر سياسي روسي، 13 شخصية ثرية وذات نفوذ إلى الاجتماع معًا. سيرجي أراد منهم في ذلك الاجتماع أن يتعهدوا معًا بإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية ثم السياسية. أراد سيرجي أن يُرجح كفة المرشح المستقل بوريس يلتسن، على كفة جينادي زوجانوف، مرشح الحزب الشيوعي.
المصرفيون السبعة
لم تلقَ خطة سيرجي نجاحها المرجو، لكن سبعة رجال من الثلاثة عشر اجتمعوا بالفعل، وقرروا دعم يلتسن للبقاء في السلطة. وبالفعل نجح يلتسن، بالتالي أصبح هؤلاء السبعة من أقوى الرجال في روسيا، أقوى من الرئيس نفسه. وسيكونون هم النواة الحقيقية التي ستؤدي لميلاد الأوليجاركية الروسية الحالية. وعرفت روسيا مصطلحًا سياسيًّا جديدًا هو المصرفيون السبعة، فقراراتهم وردود أفعالهم تجاه أي حدث داخلي أو خارجي باتت محل ترقب من الجميع.
عام 2000 بزغ نجم بوتين في الشارع الروسي، ومع وصول بوتين تقلَّص المصرفيون السبعة إلى الثلاثة الكبار. فحين وصل بوتين للسلطة اصطدم بالسبعة الكبار بوريس بيريزوفسكي، وميخائيل خودوركوفسكي، وميخائيل فريدمان، وبيتر آفن، وفلاديمير غوسينسكي، وفلاديمير بوتانين، وألكساندر سمولينسكي. لأنه أراد أن يغير وجهة النظر المعتادة للرئيس الضعيف الذي يتحكم به الأثرياء، وبالفعل أزاحهم بوتين من المشهد السياسي، سواء من دائرة الضوء أو من خلف الكواليس.
لكن صمد منهم ثلاثة، هم آفن وفريدمان وبوتانين. هؤلاء الثلاثة أصبحوا هم النواة الجديدة للحكم. أحاط بهم العديد من الشخصيات الأخرى، لكنها تُعتبر أقل أهمية، ويقتصر تأثيرها على مجالات محددة، تنفيذية في الغالب. لكن صناعة القرار الحقيقي والشراكة مع بوتين في الحكم، كانت من نصيب هؤلاء الثلاثة. وكذلك كان لهم نصيب من العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على الأثرياء الروس بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.
بيتر آفن من عائلة لاتفية يهودية مختلطة. ثروته تقترب من 6 مليارات دولار. ومثل موسكو في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى. وكوَّن مع الرجل الثاني، فريدمان، بنك ألفا عام 1994. وظل آفن رئيس البنك حتى عام 2011. وكوَّنا معًا مجموعة اقتصادية عام 2013. يهتم الرجل بالمتاحف، ويحمل العديد من الدرجات العلمية، ويدعم يهود روسيا بلا حدود. وكان آفن من الأشخاص الذين شملهم تحقيقات روبرت مولر، بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية التي وضعت دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض. اعترف آفن بعلاقته ببوتين، وأنه عمل على خلق قناة خلفية بين بوتين وترامب.
عمالقة النفط تحت المقصلة
أما فلاديمير بوتانين فيُوصف بأنه الرجل الأكثر ثراءً في روسيا. وثروته تقدر بـ 25 مليار دولار. وكان الذراع الأساسية للمصرفيين السبعة أثناء حكومة يلتسن. كما شغل منصب النائب الأول لرئيس الوزراء في عامي 1996 و1997. بوتانين هو عملاق التعدين الروسي، وتتركز جل أعماله في مجال التعدين داخل وخارج روسيا.
وهو أول مستثمر روسي يستحوذ على أصول في إيران بعد العقوبات الأمريكية التي فُرضت عليها عام 2016. وكلما أراد الغرب معاقبة الرئيس الروسي عاقب بوتانين، فهو من أبرز الأسماء المحسوبة عليه.
أما ميخائيل فريدمان، ثالث الثلاثة، فهو ينتمي لعائلة يهودية أوكرانية. هو مؤسس بنك ألفا، الذي سيصبح أكبر بنك في روسيا. وتقدر ثروته بـ 15 مليار دولار. وهو مؤسس مشارك في مجلس يهود روسيا. ويُعتبر الرجل من الدائرة الأساسية لبوتين، ومن أبرز الأسماء التي نالتها العقوبات الأمريكية، خصوصًا بسبب ظهور اسمه أكثر من مرة في ملف التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.
من الأسماء الأخرى التي نالتها العقوبات الغربية بخصوص حادث الغزو الروسي لأوكرانيا تحديدًا هو إيجور سيتشين، رئيس مجموعة روسفنت، واحدة من أكبر منتجي النفط الخام في العالم. كذلك نالت العقوبات نيكولاي توكاريف، رئيس مجلس إدارة ترانسفت، العملاق الآخر في مجال صناعة النفط الخام والغاز.
كذلك اليشير عثمانوف، رجل الأعمال المقرب من بوتين. وبيتر أوليجوفيتش المساهم في بنك ألفا. وأيضًا عاقب الأوروبيون الملياردير الذي ساهم في تكوين شركة غونفور، عملاقة تجارة المواد الخام، جينادي تيمشنكو. سيد صناعة الفولاذ في روسيا، وأحد أكبر أقطابه في العالم، أليكسي مورداشوف.
بوتين ابن الأوليجاركية، وأبوها
وبالطبع لا يمكن الحديث عن الأوليجاركية الروسية دون الحديث عن إبراموفيتش، صاحب نادي تشيلسي لكرة القدم، وأشهر أوليجاركي في بريطانيا. ثروته تُقدر بـ 14 مليار دولار، وتقول التحقيقات الأوروبية إنها جميعًا أتت من بيع أصول كانت مملوكة للدولة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. كما أن ألكسندر ليبيديف، المصرفي والضابط السابق في الاستخبارات الروسية، من الذين نالتهم العقوبات. ألكسندر هو والد يفجيني، مالك صحيفة إيفينيج اللندنية، كما عُين يفجيني في مجلس اللوردات.
سيرجي إيفانوف، ممن شملتهم العقوبات الأخيرة، وهو الرئيس التنفيذي لشركة تعدين الألماس المملوكة للدولة. وشغل سابقًا منصب رئيس أركان المكتب التنفيذي الرئاسي، ونائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع. وفي النهاية أصبح الممثل الرئاسي الخاص بحماية البيئة والطفل. وأصبح عضوًا دائمًا في مجلس الأمن بالاتحاد الروسي.
كذلك شملت العقوبات أندريه بوتشكوف، وهو مسئول رفيع المستوى في ثاني أكبر مؤسسة مالية في روسيا. وترأس سابقًا ناديًا لكرة القدم، وعددًا من الصحف والشركات.
آراء الأوليجاركية في الغزو الروسي لأوكرانيا تفاوتت. فبعضهم قال إنه مهما فرض الغرب عليه من عقوبات فلن يتغير قرار بوتين بشأن أوكرانيا. لكن فريدمان كان متحفظًا، فقال إن الحرب تمثل مأساة للجانبين، دون أن يدين طرفًا أو يميل نحو طرف. وقال إن الآراء الشخصية قد تمثل ضررًا عليه وعلى زملائه، سواء وافق على الغزو أو رفضه.
أما أوليج ديريباسكا، من الأوليجارك الروس المشهورين دوليًّا وعملاق صناعة الألومنيوم، فقد بدا أكثر إدانة للغزو الروسي، ودعا لإيقاف الحرب وبدء المفاوضات. ديريباسكا وفريدمان لم يحضرا الاجتماع الذي عقده بوتين مع كبار رجال الأعمال في الكرملين، حيث أوضح بوتين في ذلك الاجتماع أنه لا مفر أمامه من غزو أوكرانيا. وآفين يشارك فريدمان في الدعوة شبه الضمنية لإيقاف الحرب، دون أن يحددا من يجب أن يتراجع، روسيا أم أوكرانيا. لكنهما اتفقا أنهما سيطعنان على العقوبات الأوروبية.
وسواء كان الأوليجاركية يوافقون على الحرب أم يعارضونها، فإن العقوبات الأوروبية لا تميز، لذا فإنهم يتحركون بجدية لنقل كل أموالهم السائلة إلى أماكن آمنة. كما تحدث البيت الأبيض أن المليارديرات الروس ينقلون اليخوت الفارهة الخاصة بهم إلى مياه آمنة خارج النفوذ الأوروبي.
من الممكن أن تضغط الأوليجاركية الروس على بوتين، لكن من المستبعد أن يكون الضغط بالشكل الذي يتوقعه لإنهاء الحرب. فالأوليجاركية يعتمدون على بوتين، كما يخشون منه على حريتهم وعلى حياتهم أيضًا. فالأوليجاركية الروس هم نتاج بوتين، وصانعوه.