بهدوءٍ غير معتاد، وخلال نصف ساعة فقط من خلال صفحات منصات التواصل الاجتماعي على فيس بوك ويوتيوب أعلن رئيس لجنة تحكيم جائزة البوكر العربية لهذا العام الدكتور محسن جاسم الموسوي فوز رواية «الديوان الإسبرطي» للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي بجائزة هذا العام، ليكون أول الفائزين بالجائزة من الجزائر، وصادف أنه أصغر المرشحين إليها سنًا هذا العام.

في مدينة حاسي بحبح الجزائرية ولد عبد الوهاب عيساوي في مارس عام 1985 وتخرج من جامعة زيان عاشور مهندسًا للإلكتروميكانيك، وعمل كمهندس صيانة بعدد من المنشآت الفنية حتى أخذته الرواية إلى عالمها الرحب فكتب راويته الأولى «سينما جاكوب» عام 2012 والتي كان لها الحظ أن جعلته اسمًا بارزًا في الرواية الجزائرية رغم حداثة سنه، فقد حصلت روايته الأولى على جائزة رئيس الجمهورية علي معاشي في الجزائر، وفي نفس العام وصلت مجموعته القصصية «حقول الصفصاف» للقائمة الطويلة بجائزة الشارقة للإبداع العربي.

روايات وجوائز

ولكن الرواية التي لفتت الأنظار أكثر إلى اسم عبد الوهاب عيساوي جزائريًا وعربيًا كانت رواية «سييرا دي مويرتي» التي برز فيها تمكن أسلوبه وبراعته في الاعتماد على الأحداث التاريخية لتصوير واحدة من المآسي الإنسانية المنسية في بلاده الجزائر، فالرواية تتحدث عن الشيوعيين الإسبان الذين خسروا في الحرب الأهلية وتم اعتقالهم في شمال أفريقيا. وتسرد الرواية حكاية هؤلاء الأبطال المهزومين وجزءًا من انكساراتهم وهمومهم وكيف يحلمون بالعودة لأوطانهم، وعلاقتهم الملتبسة بتلك القرية الصغيرة التي أصبحوا أسرى فيها. حازت الرواية على الكثير من الإشادة النقدية والجماهيرية وحصلت على جائزة آسيا جبار للرواية الجزائرية عام 2015

في 2017 أصدر عيساوي روايته الثالثة «الدوائر والأبواب» والتي كانت تدور حول الطفل الذي يعاني من التأقلم في حياة البادية والصحراء حتى يتفتح وعيه ويتعرف على غجر الصحراء ويجذبه ذلك العالم الغريب المختلف تمامًا عن العادات والتقاليد التي رسختها أمه في ذهنه، تدور الرواية أيضًا في فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر وما تركه من آثار على المجتمع هناك، وكان من حسن حظه أن فازت هذه الرواية أيضًا بجائزة سعاد الصباح للرواية العربية عام 2017. وفي نفس العام حصدت روايته غير المنشورة «سفر أعمال المنسيين» على جائزة كتارا للرواية العربية.

سمات الروايات الناجحة

ثمة ملاحظة أساسية على كثير من أعمال عيساوي هو ارتباطه الدائم بمكانٍ محدد، وكون فضاء الرواية والشخصيات يدور ويتمحور حول ذلك المكان الذي يحدده غالبًا بعنوان الرواية، عن تلك العلاقة الأساسية بالمكان يقول عيساوي في أحد حواراته:

تولدت رواياتي من الارتباط بالمكان، فللمكان ذاكرة أشد كثافة من ذاكرة البشر، فهو يقاسم الناس ذاكرتهم، لذا حاولت تأثيثه مرة أخرى، من خلال شخصيات ارتبطت به، وأخرى مرت به وتورطت في علاقات حميمية معه، وتقريبًا كل نصوصي تحفل بهذه التفاصيل، وكأنه في كل مرة أعيد فتح نافذة على المدينة من جهة معينة، أحاول الولوج عبرها إلى العوالم الخفية للناس، فيما يفكرون ويحلمون، آمالهم وخيباتهم، هواجسهم التي تلاحقهم من مكان إلى آخر، تعلقهم بالشوارع والأرصفة والجدران والأبنية، تسامحهم مع بعضهم، كرههم لبعضهم، كل تلك السلوكات أحببت أن تحيا رواياتي بها، وتبقى تلك الشخصيات تنتقل من رواية إلى أخرى، لأنني في الأخير أبحث في إمكانات تكاد أن تكون منجزة وحقيقية لولا التخييل الذي حرفها عن بعض مساراتها النمطية.

 ومع حضور المكان وتأثيره يحضر أيضًا التاريخ بجلاء، فنجد العودة لأحداثٍ هامة من الماضي يرتكز عليها الكاتب ويدير من خلالها أحداث روايته، وتكمن براعة السرد حينها في تضفير الأحداث التاريخية الهامة مع حالات وشخصيات أبطال الرواية، وجعل ذلك كله في صياغة سردية محكمة لا تقطع عن القارئ تركيزه في قراءة العمل الأدبي كما تمنحه قدرًا كبيرًا من المعرفة والإحاطة بعدد من الأحداث التاريخية المسرودة على هذا النحو، عن علاقة الروائي بالتاريخ بشكلٍ عام يذكر عيساوي في حوار له في جريدة العراق اليوم:

أعود للتاريخ كمرجعية كرونولوجية للموضوع الذي أتناوله، أستعير منه السيرورة العامة للحدث، وتبقى المناطق التي تُرخى عليها الظلال، يضيئها الروائي بمعرفته، ووجهة نظره، في «سينما جاكوب» كان تأثير التاريخ أقل، ثم ازداد في «سييرا دي مويرتي» وظهر أكثر في «فكانت وردة كالدهان» ويبقى للروائي أن يقول ما لم يقله التاريخ، مثل انعكاسات الحوادث على نفوس الناس، وعلى تحول شخصياتهم، ورؤيتهم للحياة، في اعتقادي أنّ كل الروايات تحمل التاريخ فيها ولكن تبقى نسبية وجوده داخلها، ما دام الإنسان مرتبطًا بحركة الزمن والحوادث من حوله فحياته إن هي إلا تاريخ مبطن.
عبد الوهاب عيساوي

وهو ما فعله في روايته الأخيرة «ديوان الإسبرطي» التي حازت على جائزة بوكر العربية هذا العام، حيث يعود إلى فترة ما قبل الاستعمار الفرنسي، تحديدًا من عام 1815 وحتى 1833، يعرض الكاتب تلك اللحظات الفارقة التي مهدت لدخول الفرنسيين لاحتلال الجزائر، وما سبق ذلك من أثر العثمانيين عليهم وما كانوا يفعلونه هناك. ومن خلال تقسيم روايته بين خمسة أبطال مختلفين يتمكن من تصوير معاناة الشعب الجزائري من الاحتلال العثماني، وتصوير أثر دخول الفرنسيين عليهم أيضًا، وكيف كان التعامل معهم والمقارنة بينهم وبين المحتل السابق. ولا يورّط الكاتب نفسه في عرض وجهات النظر المختلفة والمتعارضة، ولكن يوكل هذه المهمة بكل اقتدار وبراعة لشخصيات روايته، التي اعتمد فيها على تقنية تعدد الأصوات.

اقرأ أيضًا: الديوان الإسبرطي .. الجزائر بين فرنسا والعثمانيين

وعن هذه الرواية يقول عبد الوهاب عيساوي في تصريح له بجريدة وقت الجزائر:

استغرق مني البحث في هذه الرواية حوالي سنة، انتقلت إلى أمكنة عديدة لمعاينتها، بحثت في بطون كتب كثيرة باللغة العربية والفرنسية، رحلات ودراسات تاريخية واجتماعية، وانطباعات جغرافيين، كتب تعنى بالعمران، وحتى روايات، أردت أن أعرف الحياة الهامشية والاجتماعية للناس، في ما يفكرون؟ وما هي أحلامهم وتطلعاتهم؟ فإن كان التاريخ يكتب عن الظروف السياسية الكبرى، فالرواية لها أن تقول ما تريده عن الظلال التي يخلفها التاريخ دون إضاءة. كما استغرق زمن الكتابة والتنقيح والمراجعات وحتى حذف الزوائد سنة أخرى.
عبد الوهاب عيساوي

الإشارات التي قادت إلى الجائزة

المتابع لجائزة البوكر العربية يعلم أن هذا العام بدايةً كان عام الجزائر بامتياز، وقد لاحظ ذلك الكثيرون، إذ بعد غياب الرواية الجزائرية عن الوصول إلى البوكر لسنوات، فوجئنا بوصول أربع روايات من الجزائر دفعة واحدة، وهم: «سلالم ترولار» لسمير قسيمي، و«اختلاط المواسم» لبشير مفتي، و«حطب سراييفو» لسعيد خطيبي وأخيرًا «الديوان الإسبرطي» لعبد الوهاب عيساوي، من هنا جاءت الإشارة الأولى إلى أن الجائزة ستكون جزائرية.

كما يرى كثير من المتابعين انحياز لجان التحكيم للجائزة بوضوح للرواية التاريخية، لم يكن ذلك في هذا العام فقط، بل كان واضحًا في الروايات التي فازت بالجائزة من قبل، لا سيما أن رئيس لجنة التحكيم هذا العام محسن جاسم الموسوي ناقد مهتم بشكل خاص بالأثر التاريخي في الأدب والروايات بشكل عام، كما أشار في كلمته إلى تفضيله للرواية التي تتجاوز الواقع وتلقي النظر على لحظات تاريخية مجهولة وتصوغها بشكل روائي، مادحًا في كلمته روايات القائمة القصيرة كونها «لا تعيد إنتاج الواقع المزري للقارئ، لأن إعادة الإنتاج تعني تقليدًا بائسًا ومحاكاة مفرطة لواقع مر» على حد تعبيره.

تجدر الإشارة من جهة أخرى إلى أن عبد الوهاب عيساوي يعد أصغر  الحاصلين على جائزة بوكر العربية من شباب الأدباء، حيث حصل عليها قبله الروائي السعودي محمد حسن علوان 1979 الفائز بروايته «موت صغير» عام 2017. كما حصل عليها الروائي الكويتي سعود السنعوسي 1981 الفائز بروايته «ساق البامبو» عام 2013.