البِيض أولاً: عنصرية الإنقاذ في حرب أوكرانيا
حتى ما قبل اندلاع الحرب مع روسيا، كانت أوكرانيا قِبلة مغرية للطلاب الأفارقة، الذين وصلوا البلاد مع وعود بالحصول على شهادات جامعية مريحة ومربحة، خصوصًا في كليات الطب، ثم وظائف مضمونة. لكن، مع بدء القتال، تحول المهاجرون على ما يبدو إلى سلعة استفادت منها كييف ثم رفضت مساعدتهم في تجنب الأضرار، فلم تعاملهم كلاجئين شردتهم المعارك.
مليون ونصف المليون لاجئ فروا من الحرب في أوكرانيا حتى الآن. دول أوروبا المجاورة، خصوصًا رومانيا والمجر وبولندا، فتحت أبوابها على مصراعيها لمئات الآلاف، حتى أولئك الذين ليس لديهم وثائق رسمية. لكن الاستقبال بأذرع مفتوحة ليس للجميع، فقط للبيض، أو على الأقل، للبيض أولًا. بينما يشكو السود والملونون من عقبات في الفرار من المعارك، قد تصل إلى رفض بعض الدول المجاورة استقبالهم بالأساس.
الوصول للحدود معجزة
وبينما انتشرت مقاطع فيديو تزعم أنها تُظهر أشخاصًا سودًا من دول أفريقية تُركوا عالقين في محطات القطارات الأوكرانية أو مُنعوا من ركوب القطارات، بينما تعرضت مجموعات من الأفارقة والهنود للتهديد بالبنادق والشاحنات والدفع والضرب داخل أوكرانيا قبل الوصول إلى الحدود أصلًا، يقول لاجئون ملونون، إنهم واجهوا أزمات خلال محاولة العبور بالحافلات، والتي تحتاج لعبور ثلاث نقاط تفتيش قبل الوصول إلى الحدود، حيث تعرض بعضهم لأعمال عنف بدني من الحراس الأوكرانيين، خلال محاولة عبورها.
وقالت طالبة طب أفريقية لشبكة «سي إن إن»، إنها أُمرت وأجانب آخرون بالخروج من حافلة النقل العام عند نقطة تفتيش على طريق كان يفترض أن ينقلها إلى حدود أوكرانيا وبولندا. بينما قالت أخرى: «جاءت أكثر من 10 حافلات، وكنا نشاهد الجميع يغادرون. اعتقدنا بعد أن أخذوا جميع الأوكرانيين أنهم سيأخذوننا، لكنهم قالوا لنا إنه لم يكن هناك المزيد من الحافلات وطلبوا منا الذهاب إلى الحدود سيرًا على الأقدام».
محامي الحقوق المدنية، بن كرامب، نشر مقطع فيديو يظهر امرأة سوداء تحتضن رضيعًا في حشد من الناس، بعدما مُنع السود من المرور والمأوى. وقالت طالبة نيجيرية لـ«بي بي سي»، إن مسؤولًا قال لها: «إذا كنت من السود، فعليك أن تنصرفي فورًا».
وقال طالب نيجيري آخر هرب إلى المجر لموقع «رولينج ستون»، إنه مر بأوقات عصيبة عندما حاول الوصول إلى حدود بولندا، بسبب ما وصفه بـ«السلوكيات اللاإنسانية وأعمال العنصرية التي تورط فيها جنود من أوكرانيا»، قبل أن يقرر العودة ومحاولة الخروج بطريقة مختلفة، مضيفًا، أن «السلوك غير المهني للجنود شكل تهديدًا يتجاوز أزمة الحرب».
لا فرار.. ستقاتلون معنا
وبينما نفى متحدث باسم حرس الحدود الأوكراني، أندريه ديمشينكو، تقارير التمييز، مشددًا على أن قواته لا تمنع إلا عبور الرجال الأوكرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا، والمطلوبين للانضمام إلى المجهود الحربي، يقول جان جاك كابيا، طالب الصيدلة الكونغولي الذي يعيش في مدينة لفيف الأوكرانية، إن الأمور على الأرض تسير في اتجاه آخر، حيث رفضت قوات حرس الحدود السماح للأفارقة بالعبور، وأمروهم بالبقاء للقتال مع قوات المقاومة الشعبية الأوكرانية.
سبب آخر قدمه حرس الحدود الأوكراني، حيث قال، إن شكاوى الأفارقة متعلقة بهولاء الذين «ربما حاولوا تجاوز قائمة الانتظار». لكن، وبينما يواجه المدنيون الفارون من الحرب ظروفًا قاسية بشكل متزايد عند المعابر الحدودية بالفعل، وصلت إلى حد انتظار 70 ساعة، وفقًا لتقرير صادر عن المفوضية الأوروبية، فإن التقارير تقول، إن السبب وهمي على الأغلب؛ فبينما يصطف اللاجئون الفارون من أوكرانيا في طوابير طويلة على الحدود، فإن الأزمة تبدأ مع عمليات الفرز، حيث يسمح للبيض بالمرور بسلاسة، بينما يبقى غير البيض، خصوصًا الرجال السود، في العراء والبرد القارس لأيام طويلة، تتجاوز بكثير الساعات السبعين التي تحدثت عنها المفوضية الأوروبية، ومن دون إمدادهم بالطعام.
ليس عرضيًا
وبينما اعترف المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، فيليبو جراندي، بأزمة التمييز بالفعل، إلا أنه قال، إنها «ليست سياسات دولة»، متعهدًا بتدخل أممي لمحاولة ضمان حصول الجميع على معاملة متساوية، فإن بعض كبار السياسيين في أوروبا لمحوا للفكرة في الأيام الأخيرة، وبينهم رئيس الوزراء البلغاري كيريل بيتكوف، الذي قال، إن «هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم». لكنه أعاد السبب إلى «غياب التأكد من هوية اللاجئين غير البيض وماضيهم غير المعروف، الذي لا يستبعد معه أن يكونوا إرهابيين».
جانب آخر كشفه طالب نيجيري، طلب عدم ذكر اسمه، قال، إن السلطات الأوكرانية لم تسمح للأفارقة بالعبور. «السود الذين ليس لديهم جوازات سفر أوروبية لا يمكنهم عبور الحدود. إنهم يدفعوننا إلى التراجع لمجرد أننا سود! كلنا بشر. يجب ألا يميزوا ضدنا بسبب لون بشرتنا».
وبينما قال حرس الحدود الأوكرانيون، إنهم يتبعون تعليمات نظرائهم على الجانب الآخر من الحدود، نفى مسؤولو بولندا هذه المزاعم. المتحدثة باسم حرس الحدود البولندي، آنا ميشالسكا، قالت: «لا أعرف ما الذي يحدث على الجانب الأوكراني من الحدود، لكننا سمحنا للجميع بالدخول بغض النظر عن الجنسية».
وفي بيان لاحق، أكد المسؤولون البولنديون عدم الحاجة إلى تأشيرات لعبور الحدود، مؤكدين قبول بطاقات الهوية وجوازات السفر، حتى لو كانت منتهية الصلاحية.
شكاوى رسمية
عدة دول أفريقية شجبت التمييز ضد المواطنين الأفارقة أمام مجلس الأمن الدولي.
وقال السفير الكيني لدى الأمم المتحدة، مارتن كيماني: «إننا ندين بشدة هذه العنصرية، ونعتقد أنها تضر بروح التضامن التي تشتد الحاجة إليها اليوم. يجب أن تتوقف إساءة معاملة الشعوب الأفريقية على حدود أوروبا على الفور». لكنه، في الوقت نفسه، قال: إن «مجلس الأمن بحاجة إلى أن يفهم أن هناك جهات فاعلة تريد تضخيم هذه القصة لأسباب لا علاقة لها برفاهية الأفارقة وسلامتهم».
وأضاف سفير الجابون لدى الأمم المتحدة، أن التقارير العنصرية «غير مقبولة». وفي بيان، قال الاتحاد الأفريقي، إن «التقارير التي تفيد باستهداف الأفارقة بمعاملة مختلفة غير مقبولة ستكون عنصرية بشكل صادم وتنتهك القانون الدولي». وحث الاتحاد الأفريقي جميع البلدان على «إظهار نفس التعاطف والدعم لجميع الأشخاص الفارين من الحرب بغض النظر عن هويتهم العرقية».
أزمة الطلاب «الدوليين»
يقدر عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في أوكرانيا بنحو 80 ألف طالب، وفقًا لبيانات وزارة التعليم والعلوم الأوكرانية. يأتي العدد الأكبر من الهند، تليها المغرب وأذربيجان وتركمانستان ونيجيريا. يقول البعض، إنهم ينجذبون إلى تعليم ميسور التكلفة أكثر مما يمكن أن يجدوه في بلدانهم الأصلية. يقول آخرون، إنهم يسعون إلى حياة أفضل وأكثر أمانًا.
لكن غزو القوات الروسية لأوكرانيا، وما نتج عنه من أزمة في أنظمة النقل، وضع جميع السكان الأوكرانيين في دائرة الخطر، خصوصًا هؤلاء الطلاب الأجانب، الذين تقطعت بهم السبل من دون أي إرشادات لما يمكن أن يفعلوه بعد ذلك، لا سيما هؤلاء الذين لا تملك بلادهم الأصلية سفارة مفتوحة في أوكرانيا، أو على الأقل لم توفر خطة إجلاء يمكن الاعتماد عليها.
بعض الحكومات أعلنت بالفعل أنها تطور خططًا خاصة لإجلاء الطلاب من أوكرانيا، وبينها الهند مثلًا، التي يحمل جنسيتها 15,000 طالب في أوكرانيا، نصحتهم بالبقاء في أماكنهم، بعد اتصالات مع الحكومة الأوكرانية لتزويدهم بالطعام والماء والحفاظ على سلامتهم، والاحتماء بالملاجئ إذا سمعوا صفارات الإنذار من الغارات الجوية، على أمل إكمال جهود إجلاء المواطنين الهنود على طول الحدود الغربية للبلاد.
في المقابل، قالت وزارة الخارجية النيجيرية، إن الغزو الروسي «فاجأها». لكنه اقتصر على المنشآت العسكرية، لتترك أمام مواطنيها خيارين: إما انتظار فتح المطارات، أو الاضطرار للرضوخ للإجراءات التمييزية في المعابر الحدودية. أما إيران، فقالت إنها تمنح الأولوية لـ«معالجة وضع الإيرانيين في أوكرانيا» من دون تقديم أي خطط للإجلاء.
وسط هذه الفوضى، يقول طلاب، إنهم سيواصلون محاولة عبور الحدود إلى بولندا أو بلد آخر يتمتع بحماية الناتو. يعلمون أنهم سيمنعون من العبور في النهاية. لكنه «بات الخيار الوحيد الممكن».
ليس على الحدود فقط
العنصرية لم تكن مقتصرة على الجنود الأوكرانيين على الحدود على كل حال. حتى وسائل الإعلام الغربية غطت الأزمة في أوكرانيا بنفس المنظور. في مقطع فيديو من قناة «BFM» الفرنسية، قال المراسل: «نحن في القرن الحادي والعشرين، نحن في مدينة أوروبية، ونرى صاروخ كروز كما لو كنا في العراق أو أفغانستان، هل يمكنك أن تتخيل!؟».
كذلك في «بي بي سي»، ظهر مقطع فيديو لمراسل المحطة البريطانية، الذي أعرب عن ألمه لأن أشخاصًا «بعيون زرقاء وشعر أشقر» يُقتلون. قال المراسل: «الأمر مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى الأوروبيين ذوي العيون الزرقاء والشعر الأشقر يقتلون كل يوم بصواريخ بوتين وطائراته».
مقطع مماثل ظهر عبر شبكة «سي بي إس» الأمريكية، اعتبر فيه المراسل أن أوكرانيا متحضرة، بينما وصف العراق وأفغانستان بأنهما «غير متحضرتين». قال: «الآن، مع دخول الروس، يحاول عشرات الآلاف من الناس الفرار من المدن. يختبئ الناس في الملاجئ. هذا ليس مكانًا، مع كل الاحترام الواجب، مثل العراق وأفغانستان. هناك موقع حضاري نسبيًا، وأوروبي نسبيًا، حيث لا تتوقع أو تأمل أن يحدث ذلك».
حتى «الجزيرة» في النسخة الإنجليزية سقطت في فخ مماثل، حيث اعتبر أن الأمور مختلفة في أوكرانيا؛ لأنهم ليسوا لاجئين من الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا، بل «أناس راقين من الطبقة المتوسطة مثل أي عائلة أوروبية تعيش بجوارها».