فيلم «White Noise»: حاضر مميت لقتل ما تبقى من حياة المستقبل
في مرحلة الجامعة قرأ نواه باومباخ رواية (ضوضاء بيضاء) للكاتب الأمريكي دون ديليلو، بعد صدورها بسنوات قليلة في منتصف الثمانينيات. جاء اقتراح قراءة الرواية لباومباخ الابن عن طريق والده، الروائي والناقد السينمائي، ومدير برنامج الكتابة الإبداعية آنذاك في كلية بروكلين.
بعد مرور سنوات طويلة، وبعد احتراف نواه الإخراج السينمائي، واكتساب سُمعة جيدة من خلال أفلام مختلفة، عمل على تحويل (ضوضاء بيضاء) إلى فيلم سينمائي. لم تأتِ رغبة نواه في إحالة الرواية إلى عالم السينما بسبب شعور حميمي تجاه قراءته الأولى لها، إذ اشتبكت معه الرواية، ومع حياة والديه، في عدة مراحل.
كان باومباخ الأب – حينما شجَّع ابنه على قراءة ضوضاء للكاتب ديليلو – شخصية هامشية في أحد مدارس نيويورك، وذلك وقتها كان امتياز حداثي للفنانين الواقعين في مساحة المنتصف، حيث الأرجحة بين الفشل التام والشهرة الواسعة.
كانت رواية ديليلو تأخذ من عصر الاستهلاك الحداثي، وزيف نُظم الجامعات والتدريس، أفكارًا مركزية لنقد المجتمع الأمريكي المعاصر، وكانت عائلة نواه أحد نماذج المادة الطبقية الملقاة داخل النص.
لذلك يقول مخرج «فرانسيس ها»، خلال حوار له، إن نيته في عمل فيلم ينطلق من الرواية، كان أحد اهتماماته لفترة طويلة، لأن ذلك النص الكاشف، خلال السخرية الحادة وحيوية اللغة، عادة ما يُذكِّر نواه بأنه «يُشعره بالتواصل مع نفسه».
السينما الحائرة
بسبب انتقال ديليلو من إيطاليا إلى أمريكا في مطلع طفولته، آخر الثلاثينيات، فقد عاصر، جوارًا إلى اهتمامه بالكتابة، انتقال المركزية الأوروبية إلى القطب الأمريكي، خاصة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكل الطبقة الوسطى/الموظفين وأساتذة الجامعات، في أمريكا، كمادة للترويج لمجتمع الاستهلاك الحديث، وتصدير ذلك، خلال هيمنة اقتصادية تتصاعد، إلى دول العالم.
في روايته الأكثر شهرة التي اقتبس نواه فيلمه منها، قدَّم ديليلو نقدًا حادًّا للعمل الجامعي في المجتمع الأمريكي، إضافة إلى نقد ثقافة الاستهلاك، أو ما يُسمِّيها الفيلسوف آلان باديو «سعادة الإشباع». المعنى الدلالي للضوضاء البيضاء، هي التي يستخدمها مهندسو الإضاءة والصوت، بحيث تتسرب في خلفية المَشاهد، أو في أجواء المكان، تتسربُ عنوة ولا يكون التركيز عليها أساسيًّا، لكنها تُغيِّر من حيثيات الرؤية كثيرًا.
هذا تحديدًا ما عمل عليه دليلو إبداعيًّا، الكتابة بلغة حيوية لها براح بصري وصوتي، والتعامل مع الجانب الدلالي للغة، الخارج عن حيز النثر الصامت، للتعبير عن مجتمع الصخب و«السوبر ماركت»، إضافة إلى إعادة إنتاج العلاقة بين المُدن البعيدة، والمُدن المركزية، وكيف يتجلَّى ذلك في الحرم الجامعي، الذي يضم مجموعة من المُهمَّشين – مثل والد نواه كما ذُكر سابقًا – المدفوعين بتملُّق متبادل للتنظير حول ثقافة تعتز بها الطبقة الوسطى، ثم تكون مادة لتفعيلها.
من خلال كمية ما نشتريه، وأنواعه، تأتي فكرة الإشباع. نشتري ما يفرضه علينا السوق، لنشعر بالاستقرار والتواصل مع نمطية المسار الاقتصادي لنا.
انتقى نواه خلال عمله على الفيلم الأفكار التي انتقدها دليلو، متجاوزًا المادة الحاكية لها، ففي الرواية يتسرب من مُختبر عالم كيميائي بعض المواد السامة، تقتل زوجته، ثم يجد طريقة «روحية» للتواصل معها، بينما في الفيلم، يُحيل باومباخ الحكاية إلى علاقة «ملونة” بروح ما بعد الحداثة، بين زوجين لهما عدة أبناء وبنات من زيجات مختلفة، يعيشون جميعًا في منزل هادئ. يعملُ جاك/آدم درايفر أستاذًا بالجامعة، يُدرِّس مادة مُختصَّة بشخصية هتلر، بينما «بابيت/جريتا جرويتش» تقوم بتدريب الكُهول بدنيًّا.
في المشهد الافتتاحي للفيلم يطرح باومباخ فكرة جوهرية، مأخوذة جزئيًّا من الرواية، وهي آلية تأثير التعليم الجامعي في شبك القيمة الجماعية للتاريخ، وللانتماء إلى دولة عُظمى، على إحالة الموت إلى ضحية للتاريخ، لبهجته المنتمية إلى الإرث الوطني.
يعرِض أستاذ جامعي (تُخبرنا بشرته السمراء، أنه غالبًا، جاء من أصول مستعمرة) مجموعة من حوادث السيارات الموثقة سينمائيًّا من خلال أفلام كثيرة. يشرح الأكاديمي لطلابه وطالباته عن إمكانية النظر إلى الحوادث بعيدًا عن أحادية جانب العُنف الظاهر بها. إذ يُمكننا، أن ننظر إلى هذه الحوادث من جانب تطلعي، يمكن أن نقرأه باعتباره نتيجة عرضية للطموح الوطني. أن يبتهج الشعب، لأن مسار التاريخ اختاره ليُتمِّم ذاته عند نقطة ما.
ما بين الهدوء والصخب ينتقلُ الفيلم للموازاة بين حميمية الداخل – وإن كانت مُفتعلة قليلًا – وفزع الخارج، لأن الطبقة الوسطى هي ابنة المكان المغلق، به تولد وتعيش، وتعمل وتموت. بينما الفضاءات المفتوحة، تمرح فيها القوى الغاشمة، آليات العرض الإعلامي ومنافذ البيع وزخم السلع، كل حركة تُلزم الواحد أن يفكر في الظهور/الشراء، أو الانزواء والإقصاء/التخلي.
لأن عائلة جاك وبابيت رُمَّانة ميزان بقاء الطبقة الوسطى، فإن عليهم مُجاراة هذه الأدوات الدعائية، تفعيلها بالشراء والإشباع والمرح.
خلال سباق العيش الاستهلاكي هذا، يأتي شبح الموت ليضع كل فكرة، مؤقتًا، في مكانها المناسب. تصطدم سيارة نقل بقطار محمل بسوائل قابلة للاشتعال، تظهر غيمة سوداء (مدلول واضح للموت)، ويفزع الساكنون، يبدأ الجميع في ترك منازله حتى تستقر الأمور.
عند حدوث الغيمة السوداء (ثُلث الزمن في الفيلم)، يبدأ الفيلم في تجاوز موضوع الرواية، أو مُعالجة الأفكار نفسها بروح الزمن الحالي، وخلال ذلك وقع الفيلم في تخبُّط كبير، أو بشكل أقرب، وقع في «حيرة» حول أولويات التناول، إذ انتقل الفيلم عبر أحداث كثيرة، سريعة ومتكتلة الكثافة، تترك وراءها انطباعات ناقصة، وبدأ الترابط المبدئي الذي تكون في الثلث الأول من الفيلم في التشتت، ليس على مستوى قصدية في الأداء، بل جاء في إطار مُتخبِّط يدل على انسياب الأدوات الفيلمية من المُخرج.
من يُعيد ربط هذه الخيوط؟
عند النظر إلى الأولوية في اللغة الفيلمية عند باومباخ يتجلى تأثُّره الشديد برواية دليلو، التي أنتجت جودتها الأدبية تعددية في التناول، وكان مُمكنًا بسهولة محاكاة موضوعاتها بصريًّا بسبب قدرة دليلو على تتبُّع، وإعادة إنتاج، الجوانب البصرية والسمعية للحكي في سياق أدبي.
عمل باومباخ، على إنتاج صورة معاصرة، مفعمة بالألوان، وصخب كبير، إضافة إلى حراك حكائي سريع، لكن الميزة الأكثر حضورًا في الفيلم، كانت فرد مساحة ارتجال واسعة لآدم درايفر في دور الزوج، الذي كان يدفع الفيلم خلال تعثره السردي بمشهد وراء الآخر، كان أهمها، أحد مشاهد شرحه إلى الطلاب التاريخ الحميمي لهتلر، والذي أنتج شخصية ضد ذلك، حتى انتهى أمام حشد واسع من الجماهير، كانت هي «عروسه الوحيد»، لأنها ارتضت أن تكون ضحية، ليس للزمن الماضي، بل لمستقبل الحداثة الذي يميت الأحياء مبكرًا.
الأدوات التي استند إليها باومباخ، حينما حاول أن ينفرد بها بعيدًا عن مرجعية الرواية، تفككت منه، إذ انتقلت الأحداث إلى خط سردي آخر، وهو خوض زوجته تجربة تعاطي عقار غير قانوني.
فكرة الموت، كتحذير لإعادة ضبط السياق التاريخي حينما يستحيل إلى الهاوية، هي نفسها في صراع جاك مع زوجته، ضد الرجل المسئول عن إجراء التجربة، مثلما أتت في الرواية بسياق حكائي مُختلف. لكن فعل الانتقال السريع في الفيلم، بدءًا من الخوف من غيمة سامة، مرورًا بجنون جاك ومُحاولة قتل صاحب تجربة العقار، ثم الانتهاء بسيادة الأمل، كنموذج لضرورة «الإيمان ببعضنا»، لم تجد هذه التتابعات رابطًا يجمعها، ولم يتم تقديمها أيضًا، مُفككة عن عمد.
سينما الصخب أم سينما الهوامش؟
لدى نواه باومباخ تجربة جيدة على مستوى التلقي الجماهيري، إذ اتخذ من الهامش المجتمعي مادة مرجعية لأفلامه. في فيلم frances ha تعيش فرانسيس على هامش هواجس وصخب نيويورك، تبحث عن هدوء في الحركة والتحقق، وتحاول الاحتفاظ بحيويتها، التي تبدو ساذجة أحيانًا، لكن من يهتم بالسذاجة أو النضج، طالما سيكون الصراع حول التلاقي مع الذات، أو فقدها تمامًا؟
في سياق مماثل عمل باومباخ على فيلم marriage story، بسيناريو حواري، ينتمي إلى الأدب بقدر موازٍ للبصرية السينمائية، من خلال حكاية عاطفية عن انفصال زوجين.
اقرأ هنا: فيلم «Marriage Story»: الحب وحده لا يكفي
ضوضاء بيضاء هو أول أفلام نواه، التي تعرضت إلى ما يمكننا تسميته بالسينما الصاخبة، المفعمة بالزخم الصوتي والصوري والكثافة في الحكي، قبل ذلك كانت سينماه لصيقة الهامش، أدواتها تقليلية.
إجمالًا، لم تكن تجربة باومباخ الجديدة موفقة، وربما دللت على أن سينما الهامش التي اعتمدها كانت لجوءًا إلى التقليل، أكثر من اختياره، ولا ينفي ذلك جمالية أفلامه السابقة، لكن يُمكن القول أيضًا، إن ضوضاء بيضاء كشفت عن مُخرج تنحصر جودة أفلامه في نوعيات قليلة.
تحيلنا تجربة باومباخ إلى سؤال يتعرض للإنتاج السينمائي المعاصر، وهو مدى الحاجة إلى سينما الصخب الحركي والصوتي، جوارًا إلى السينما الهادئة، المفعمة بالحميمية الصورية والحكائية.
منذ مطلع السنة الماضية وحتى الآن نتج فيلمان مختلفان تمامًا في اللغة السينمائية. الأول after sun، أشبه بسيرة ذاتية للمخرجة، أنتجت من خلال استدعاء ذاتي للذاكرة تأملات حول الأبوة والتاريخ الشخصي، ومركزية فعل «التذكُّر» على تشكيل اللحظة الراهنة.
الفيلم الثاني، الصادر منذ فترة قريبة، لكرونينبيرج الابن infinity pool، الذي اعتمدت صورته السينمائية على العنف حد الذروة، وتم التعويل على “العنف الجسدي” كمادة لقراءة مدى انمساخ الهوية في اللحظة الراهنة، فحينما يفقد الفرد «ذاته» على مستوى مستقل، من خلال الجسد، فإنه يفقد أولى مشكلات الوجود الاجتماعي جماعيًّا، وبالتالي تستحيل التجربة إلى تشوش مطبق، وصراع مستدام تجاه الذات وتجاه نسخنا الأخرى المنثورة، المنتجة من وسيط خارجي.
لكل تجربة من النموذجين المطروحين ضرورتها، من خلال القدرة على إيجاد اللغة الفيلمية المناسبة، إذ لا يكتسب نوع فيلمي حضوره من بعد مستقل، قبل النظر إلى المادة الفيلمية نفسها. لسنا بحاجة إلى «سينما هادئة» لأن العالم حولنا مفعم باللهاث اليومي، ربما يستدعي فيلم ما هذه الحالة كمادة مركزية لعمل محتوى متدفق وحميمي، لكن البطء، والهدوء لذاتهما، أو الصخب لذاته، لا يكفي أي منهما كمقياس مسبق.