رواية «همس العقرب»: رحلة البحث عن الذات
تستوحي رواية «همس العقرب» -الصادرة عن «دار العين للنشر والتوزيع» لكاتبها السفير «محمد توفيق»- أحداثها من رحلة حقيقية قام بها «أحمد حسنين باشا» أو «حسين باشا» كما تُسميه الرواية، وفي صحبته السيدة الإنجليزية «روزيتا فوربس» أو كما تم تسميتها في الرواية «مس روز»، قاما معًا برحلة عبر صحراء مصر الغربية إلى صحراء ليبيا بغرض استكشافها.
مرا عبر واحة سيوة إلى ليبيا التي استقرا فيها لحوالي 34 يومًا في واحة بديعة تُسمى «الكَفْرَة». من جمال الرحلة التي افُتتن بها «أحمد حسنين باشا»، قرّر إعادة الكرّة بعدها بعامين للقيام برحلة أخرى، تمكّن فيها من اختراق الصحراء الكبرى جنوبًا ووصولًا إلى السودان، وذلك في عام 1923.
بداية الرحلة
ربما الرحلة قام بها أحمد حسنين باشا حقيقة كما ذكر تفاصيلها في مذكراته وفي كتاب «في صحراء ليبيا»، لكن أحداث رواية «همس العقرب» كما أكد مؤلفها كلها مستوحاة من خياله. لقد عبر الباشا الصحراء الكبرى بالفعل مع رفيقته روز بحثًا عن استكشافات جديدة ليتم تسجيلها ورسم خرائط جديدة لتلك الأماكن المجهولة.
اجتمع الرفيقان معًا على حب الصحراء وحب الاستكشافات، رغم تباين طباعهما؛ فهي إنجليزية شديدة الاعتداد بنشأتها وتاريخ دولتها، بينما هو قد عانى بعض التشتّت ما بين أصوله العربية وتعليمه الأزهري الإسلامي قبل سفره لأوروبا وتأثره بثقافتها وحياتها المنفتحة. روز كانت الأكثر طموحًا، لطالما تمنت أن يُكتب اسمها بحروف من ذهب ضمن أهم الرحّالة والمستكشفين.
اضطر حسين وروز للادعاء أنهما زوجان كي يتمكنا من اجتياز الصحاري والواحات، التي لم يكن أهلها ليُرحِّبوا بهما كصديقين لا تربطهما ثمة علاقة مشروعة، وهكذا تمكّنا من خداع الكثيرين كي يُتمَّا رحلتهما.
هناك، وأثناء وجودهما في ساحة الكفرة، حيث استقبلهما سيدي فوزي وأسرته، سمعا عن وجود بئر سرية في داخل أحد الكهوف الملعونة. كان هذا الخبر بمثابة أجمل المفاجآت بالنسبة لروز التي سمعت عن موقع سري أيضًا رجّحت أن يكون معبدًا أثريًا بَنَتَه طائفة إخناتون المحظورة، أو حتى يكون مقبرة الإسكندر الأكبر التي احتار الأثريون في مكانها. وسواء اكتشفتها أو حتى اكتفت باكتشاف بئر الكفرة السرية فهذا سيضمن لها بالطبع موقعًا مُميزًا في سجلات التاريخ.
هل الصحراء هي الخير أم الشر؟ أم كلاهما؟
لم يكن اجتياز الصحراء هينًا، بل رأينا الرفيقين وقد مرّا بأوقات قاربا فيها الموت حتى أوشكا عليه. لدغت روز العقارب وفقدت وعيها لأيام وقُتل الجمل الذي كان يحمل حسين بك ليسقط فوقه مُخلِّفًا عدة كسور خطيرة في ساقه. لكنهما لم يلعنا الرحلة ولم يثورا غاضبيْن على قسوة الصحراء. على العكس ظلت روز ممتنة لكل لحظة في تلك الرحلة، ولم ينسَ حسين أبدًا فضل الرحلة على تكشّف ما بداخله من مشاعر وأحاسيس تجاه المرأة الإنجليزية التي أحبها حتى الثمالة.
هل الصحراء المقصودة كانت خارج النفس أم داخلها؟
اختلت حسابات روز الجغرافية والتاريخية وتشوّشت بوصلتها تمامًا بمجرد رؤيتها لـ «ياسين»، الفتى البدوي الذي سحرها بشبابه اليافع وعنفوانه الجسدي. لم تحسب حسابًا لارتباطه بـ «جميلة» ابنة سيدي فوزي، ولا حتى هو تذكّر هذا الأمر بعدما أدركا بعضيهما، وتأكّدا أن حقيقة كل واحد منهما تنبع فقط من وجود الآخر.
بعد ارتواء الحبيبين عند بئر الكفرة السرية، لم يعد لاكتشاف البئر أي معنى. صار الاكتشاف الوحيد لدى روز هو اكتشافها لروحها، للمياه التي تتموج في داخلها. فجأة امتدت الصحراء الكبرى بأكملها في داخل روحها لتكشف لها أسرارًا وخبايا لم تعرفها عن نفسها من قبل. صالحتها البئر على فقدان الأهل واحدًا تلو الآخر، صالحتها على تقبل وجودها كنقطة صافية وخالصة ضمن مكونات هذا العالم الرحب دون أن تحمل أي غضاضة أو سوء لأحد.
في ذات الليلة التي عادت فيها روز من البئر لدغتها العقارب وتركتها على حافة الموت، ليعود حسين لاستكشاف نفسه مع أزمة مرضها وخوفه من فقدانها. إذ يُقرِّر ألا يتخلّى عنها حتى بعد إدراكه لتفاصيل رحلتها السرية مع ياسين، وحصاره بنظرات المحيطين لهما باعتباره زوجًا مخدوعًا لامرأة خائنة. يضرب بكل الأعراف عرض الحائط ويُقرِّر أن إنقاذ حياتها هو أثمن ما يريده في تلك اللحظة الفارقة أيًّا كان الثمن. فكما وهبتها الصحراء العشق والحياة وهبته هو الآخر.
سيساور القارئ حتمًا هذا السؤال: هل كانت هذه الرحلة حقيقية أم لا؟ هل كانت رحلة داخلية؟ تتمها حين تصل إلى حدود نفسك وتراها ممتدة أمامك كصحراء شاسعة. نعم تتم الرحلة حين تقابل نفسك على الجانب الآخر لتتحول معها إلى كائن حر وشفاف كتلك المياه المختبئة ما بين الكهوف والجبال.
لغة الرواية كأنها قادمة من عمق الصحراء
لا يجوز أن تتم قراءة الرواية دون أن تبهرك اللغة بقوة أسلوبها ورصانة جملها المليئة بالخبرة والحكمة، كما لو أنها جِمال ونوق أشبعتها حياة الصحراء من حكمتها وقوتها. أصقل الكاتب كتابته بالعديد من الاقتباسات الصوفية والدينية وحتى من كتاب الموتى.
استطاع الكاتب أن يُضفِّر اقتباساته بلغته وبيئته الصحراوية، جالبًا للقارئ فقرات قوية وثرية كما لو أن الصحراء كانت تنشق للكاتب فتمنحه عبقها وأسرارها دون أية موانع. ربما لم يعق تدفق هذا السحر المضفر من اللغة والأحداث وجمال الشخصيات إلا كون الأحداث تُروى بصيغة الماضي. فالرفيقان يتذكران كل شيء بعد تمام مروره أثناء رقصتهما التي يرقصانها معًا بعد التقائهما في إحدى الحفلات الملكية، بعد مرور العديد من الأعوام على رحلتهما المشتركة.