أموال خارج الصندوق: أين نبحث عن تبرعات «تحيا مصر»؟
قانون دون رقابة
في 24 يونيو/حزيران 2014 أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تنازله عن نصف راتبه البالغ 42 ألف جنيه مصري، وأيضاً عن نصف ما يمتلكه من ثروة لصالح مصر. وفي الأول من يوليو/تموز 2014 أعلنت رئاسة الجمهورية عن تدشين صندوق «تحيا مصر» تفعيلًا للمبادرة التي سبق أن أعلنها الرئيس بإنشاء صندوق لدعم الاقتصاد. وتم إنشاء حساب بالبنك المركزي تحت رقم «6 – 30 – 6 – 30» لتلقي مساهمات المصريين في الداخل والخارج بجميع البنوك المصرية لحساب الصندوق.
ورغم أن التبرعات بدأت في التدفق على الصندوق بمجرد إعلان الرئيس لمبادرته، فإن إنشاء الصندوق بشكل رسمي لم يتم إلا بعد حوالي عام من إطلاق المبادرة، وبالتحديد في الثامن من يوليو/تموز 2015، وجاء في الجريدة الرسمية أن هذا الصندوق له شخصية اعتبارية، ويتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ورغم تبعيته لرئيس الوزراء، فإنه «يتمتع برعاية رئيس الجمهورية وعنايته»، ولم يذكر النص طبيعة تلك الرعاية، أو طرق هذه العناية.
ولكن، في مادة لاحقة (المادة الثالثة) –ورغم التبعية الرسمية لرئيس الوزراء- تم منح رئيس الجمهورية الحق في تحديد أساليب الإشراف على الصندوق وإدارته وتصريف شئونه المالية والإدارية.
والأمر اللافت أن هذا القانون (الصادر في يوليو/تموز 2015) لم يكن سوى تعديل لذلك القرار الرئاسي الذي صدر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بقانون رقم 139، والخاص بتنظيم عمل الصندوق، والغريب أننا لا نجد أي ذكر لقانون 139 في النص الجديد الصادر في يوليو/تموز 2015. و المقارنة بين النصين تكشف عن:
1. إضافة المادة الثالثة في النص الجديد، والتي تمنح رئيس الجمهورية الصلاحيات الأوسع في إدارة الصندوق.
2. الاستبدال بالمادة الثامنة في القانون القديم المادة التاسعة التي ألغت رقابة المركزي للمحاسبات وقصرت دوره على إعداد «مؤشرات» عن الأداء.
الحصيلة التقريبية
بعد القرار الضمني لرئيس الجمهورية بـ «إلغاء الرقابة المالية» على صندوق «تحيا مصر»، وبعد عام غابت فيه أية إحصاءات رسمية حول حصيلة التبرعات وموارد الصندوق، كان من السهل أن تتوقع أن الإدارة المالية لـ «تحيا مصر» باتت واحدة من أسرار الأمن القومي المصري، وأننا سنغرق في بحر التوقعات والأرقام التقريبية إذا ما أردنا استكشاف هذا الأمر.
وبالفعل، هذا هو الحال فيما يتعلق بحجم التبرعات التي جمعها الصندوق إلى الآن، ولم نظفر بسوى تقارير صحفية وتصريحات متفرقة من هنا وهناك، والتي أشارت إجمالًا إلى ستة أرقام مختلفة في ست مناسبات مختلفة:
1. في أغسطس/آب 2014، أشارت تقارير صحفية إلى أن حجم الأموال الموجودة بالصندوق حتى ذلك الوقت بلغت 9 مليارات جنيه.
2. وفي أغسطس/آب 2014 أيضاً، أشارت تقارير صحفية أخرى إلى أن حصيلة تبرعات رجال الأعمال والمستثمرين لصندوق «تحيا مصر» وصلت إلى 6.75 مليار جنيه.
3. وفي فبراير/شباط 2016، كشف الرئيس السيسي، ولأول مرة على لسانه، أن الأموال التي تلقاها الصندوق بلغت 4.7 مليارات جنيه.
4. أمّا في يناير/كانون الثاني 2018، وقبيل أيام من تقديم استقالته، صرّح محمد عشماوي، المدير التنفيذي للصندوق، أن التبرعات التي تلقاها الصندوق وصلت إلى 10 مليارات جنيه.
5. وعقب هذه التصريحات، وفي يناير/كانون الثاني 2018 أيضاً، وخلال فعاليات اليوم الثاني من مؤتمر «حكاية وطن»، كشف الرئيس السيسي أن في صندوق «تحيا مصر»7 مليارات جنيه فقط بفوائدها، خلال 3 أعوام.
6. وأخيراً، وفي 13 فبراير/شباط 2018، وعقب انعقاد اجتماع اللجنة التنفيذية للصندوق، بحضور سحر نصر، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي ورئيس اللجنة التنفيذية للصندوق، تم الإعلان أن إجمالي التبرعات للصندوق وصلت إلى 7.5 مليارات جنيه.
ومن غير المعروف إذا ما كانت الأرقام التي تم الإعلان عنها مؤخراً (في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2018) هي إجمالي التبرعات دون خصم ما تم صرفه على مشروعات الصندوق، أم أنها تشير إلى الحصيلة التي توجد حالياً بداخله.
وهو ما يجعلنا نعجز عن ترجيح أحد هذه الأرقام، أو تتبع نمو موارد الصندوق إجمالًا.
المصارف شبه الرسمية
وفقًا للموقع الرسمي لصندوق «تحيا مصر»، يوجد خمسة برامج أساسية يرعاها ويموّلها الصندوق، وهي: برنامج الرعاية الصحية، وبرنامج الدعم الاجتماعي، وبرنامج الكوارث والأزمات، وبرنامج التمكين الاقتصادي وخلق فرص عمل، وبرنامج التنمية العمرانية. وذلك بإجمالي 16 مشروعًا.
وبنظرة أكثر عمقًا على تلك المشروعات، نجد هناك أربعة مشروعات تدخل في نطاق الرعاية الصحية والاجتماعية، والتي وضعت أهدافًا وخطة تنفيذ مُحددة، وميزانية تقريبية، وهي:
- علاج ومكافحة فيروس سي (وذلك بتكلفة 200 مليون جنيه).
- الحد من ظاهرة أطفال بلا مأوى (وذلك بتكلفة 164 مليون جنيه، يدفع منها الصندوق 114 مليون جنيه فقط، والباقي تدفعه وزارة التضامن الاجتماعي).
- مبادرة مصر بلا غارمين (وذلك بتكلفة 12.2 مليون جنيه) مع العلم أنه تم تنفيذ 80% من المشروع.
- مشروع تطوير الصرف الزراعي وإغاثة المنكوبين (وذلك بتكلفة مليار جنيه).
مع العلم أن المشروع الأخير لم تتحدد له خطة واضحة وتفصيلية على الموقع على شاكلة المشروعات الثلاثة التي سبقته، وكل ما ذُكر أنها خطة عاجلة تنفذها الوزارات المعنية بالتعاون مع القوات المسلحة لرفع كفاءة شبكة الصرف الصحي والزراعي بكل من محافظتي الإسكندرية والبحيرة.
ثم نجد أربعة مشروعات تدخل ضمن نطاق برنامج التنمية العمرانية، والتي تحمل أيضًا خططًا بجدول زمني مُحدد، وهي:
- مدينة تحيا مصر «أسمرات 1،2،3» (وذلك بتكلفة مليار جنيه).
- رفع كفاءة بعض المنازل في 126 قرية (بتكلفة 100 مليون جنيه) مع العلم أنه تم تنفيذ 13% من المشروع.
- تطوير 10 قرى في صعيد مصر (بتكلفة 275 مليون جنيه يُساهم الصندوق فيها بـ 90 مليون جنيه).
- تطوير منطقة العسال (بتكلفة 64.2 مليون جنيه) مع العلم أنه تم تنفيذ 46% من المشروع.
وعلى مستوى التمكين الاقتصادي وخلق فرص عمل، كان هناك ثلاثة مشروعات:
- مشروع توفير 1000 تاكسي (بتكلفة 79 مليون جنيه)، وقد تم تنفيذ المشروع بنسبة 100%.
- توفير 350 سيارة نقل مبرد حمولة 5 أطنان (بتكلفة 85 مليون جنيه) وقد تم التنفيذ بنسبة 35%.
- توفير 750 سيارة نقل مبرد حمولة 1,5 طن (بتكلفة 134 مليون جنيه) قد تم التنفيذ بنسبة 27%.
وأخيرًا، نجد أن هناك خمسة مشروعات تدخل ضمن نطاق الجهود التوعوية، وهي التي وضعت أهداف مُحددة، دون جدول زمني، أو تكلفة تقريبية حتى، الأمر الذي يجعلها تدخل ضمن نطاق المشروعات «ذات الميزانيات المفتوحة»، وهي:
- برنامج صندوق تحيا مصر للتوعية عن فيروس سي.
- برنامج التوعية بالجامعات المصرية.
- برنامج التوعية بالمدارس.
- البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة.
- برنامج «المعلمون أولًا».
وإجمالًا، يمكن القول إن المشروعات التي أعلن الصندوق تنفيذه أو إشرافه عليها، تقع ضمن النطاق الذي حدده لنفسه مسبقًا، وهي المشروعات التنموية الخدمية، ولكن هناك ثلاث ملاحظات في هذا الصدد:
-
الملاحظة الأولى
أنه بحساب إجمالي المبالغ المُقدرة للإنفاق على هذه المشروعات (التي تم تحديد ميزانياتها)، وبغض النظر عن أن بعض هذه المشروعات لما تكتمل إلى الآن، وجدنا أنها وصلت تقريباً إلى مليارين و879 مليون جنيه مصري، أي أدنى بكثير من الأرقام التي تم الإعلان أنها في خزينة الصندوق.
-
الملاحظة الثانية
وهي المتعلقة ببرنامج خلق فرص العمل، وبنظرة حسابية بسيطة، نجد أن إجمالي المشروعات في هذا البرنامج تتكلف حوالي 298 مليون جنيه، وبالنظر إلى أن مشروع التاكسي يُولّد فرصة عمل واحدة لكل سيارة، وأن سيارة النقل المبرد (حمولة 5 أطنان) تُولّد ثلاث فرص عمل، في مقابل فرصتي عمل فقط للسيارة (حمولة 1.5 طن)، فإن إجمالي الفرص التي سيوفرها البرنامج تصل إلى 3550 فرصة عمل. أي أن فرصة العمل الواحدة قد تكلّفت حوالي 84 ألف جنيه مصري، وهو مبلغ أقل مما أشارت إليه الدراسات والتقارير الصحفية، حول أن متوسط تكلفة خلق فرصة عمل في مصر يبلغ حوالي 200 ألف جنيه.
ولكن، خلال خلق فرص العمل، لابد من حساب القيمة المضافة الذي ستولّدها هذه الفرص للمجتمع والاقتصاد المصري، كما لابد من عدم الضغط على قطاعات تشغيلية متضخمة بالفعل، وأن يتم ضخ العمالة في المشروعات كثيفة التشغيل، وفي المجالات التي يحتاجها الاقتصاد، وهو الأمر غير المتحقق في برنامج صندوق «تحيا مصر».
وللتأكيد على هذه الفكرة، ووفقاً للإحصائيات، فإنه على مدى الأعوام من 2011 وحتى 2015 استطاع سوق العمل المصري أن يضيف صافي وظائف يُقدر بنحو 950 ألف وظيفة. وكان النصيب الأكبر لقطاع النقل والتخزين في توفير وظائف جديدة فقد حظي وحده بنحو 432.2 ألف وظيفة بما يعادل نحو 45.5% من إجمالي الوظائف المضافة. أي أن قطاع النقل الذي استثمر فيه الصندوق هو مُتضخم بالفعل.
في مقابل أن توصيات البنك الدولي بشأن حل أزمة البطالة تشير دائمًا إلى التركيز على الصناعات التحويلية كثيفة العمالة، وهو القطاع الذي من المفترض أن يقود قاطرة الاقتصاد المصري، ومع ذلك فهو يعاني، نتيجة هبوط معدل نموه، وضآلة حجم مساهمته في الناتج المحلى الإجمالي. ففي مصر يعمل في هذا القطاع 562 ألف عامل، في مقابل 886 ألف عامل في تركيا.
-
الملاحظة الثالثة
الحديث عن تطوير القرى ورفع كفاءة المنازل في إطار القضاء على الفقر والعشوائيات، أثبت في عهد مبارك أنه عبارة عن استهلاك «دعائي موضعي» للوقت والثروة، ولا يقدم حلولًا جذرية أو تقدمًا شاملًا ملموسًا في معالجة قضيتي الفقر والعشوائيات. فلم تضع الحكومة ولا الصندوق خططًا شاملة لتغيير الوضع التنموي للقرى الفقيرة، ولم نجد برنامجًا زمنيًا لتقليص عدد القرى الأشد فقرًا أو العشوائيات بنسبة مئوية إجمالية، دون التحدث عن أرقام بشكل منفرد. والأهم من ذلك هو عدم وجود خطة طويلة الأجل ومستمرة في هذا الصدد، لأن هذه الجهود –التي يمكن أن يراها البعض عشوائية- تضيع الفائدة المرجوة منها، في حال غياب خطط المتابعة والتطوير.
اقتصاد التبرعات!
إذا جعلنا من صندوق «تحيا مصر» نقطة انطلاق لتحليل الرؤية الاقتصادية الشاملة للنظام السياسي المصري الحالي، فيبدو أن هناك غيابًا واضحًا لكيفية تأمين التدفقات المالية إلى خزينة الدولة، لكي يتنسى لها القيام بأدوارها التنموية.
وبدا واضحًا أن «اقتصاد التبرعات» كان البديل الموضعي الأسهل في هذا الصدد.
لذا، لم يترك الرئيس المصري مناسبة إلا ودعا المصريين من خلالها للتبرع، وتتجدد الدعوة دائمًا بوسيلة جديدة للتبرع، وبمهمة قومية جديدة.
1. ففي 2015، دعا السيسي المصريين في الداخل والخارج للتبرع من أجل إقامة حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، وهو الحفل الذي أقيم بالفعل وتكلف ملايين الدولارات.
2. وفي فبراير/شباط 2016، أطلق مبادرة «صبح على مصر بجنيه» لتبرع المواطنين يوميًا بجنيه مصري عبر الهاتف المحمول، لجمع 10 ملايين جنيه مصري يوميًا، أي نحو 300 مليون جنيه شهرياً.
3. وفي أغسطس/ آب 2016، دعا السيسي خلال نعيه العالم المصري الراحل الدكتور أحمد زويل، المصريين للتبرع من جديد لاستكمال إنشاء مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا.
4. وفي سبتمبر/أيلول 2016، طالب السيسي المواطنين للتبرع بشكل دائم بكسور أموالهم التي تشمل فئات الجنيه والمعروفة شعبيًا باسم «الفكة»، والتي لا يتمكنون من سحبها من حساباتهم البنكية الخاصة، وذلك بهدف دعم العشوائيات.
5. وفي يناير/كانون الثاني 2017، دعا السيسي للتبرع لبناء مجمع الأديان في العاصمة الإدارية الجديدة، الجاري إنشاؤها حالياً، ونشر صور شيكات تبرعه شخصيًا كبداية لمشروع بناء كنيسة ومسجد في المدينة الجديدة.
6. وفي مايو 2017 دعا الرئيس المصري المواطنين إلى التبرع بجنيه مصري شهريًا، بهدف مساعدة من يعيشون في الفقر المدقع وفي منازل بلا أسقف. وقال نصًا:
ورغم الغموض الذي يكتنف مصير أموال صندوق «تحيا مصر»، فإننا في نهاية المطاف استطعنا تقديم مادة – شبه رصينة- حول أنشطة ومصروفات الصندوق، وهو الأمر غير المتحقق تمامًا مع تلك القائمة الطويلة من التبرعات التي دعا إليها الرئيس، فلا تقارير رقابية أو مالية أشارت من قريب أو بعيد إلى حجم التبرعات التي جمعتها الحملات السابقة، أو مصادر إنفاقها.
والغريب أن الرئيس في كل مرة يُجدد فيها دعوته للمصريين بالتبرع، يتجاهل الحديث عن مصير ومصارف الحملات السابقة.
كريستين لاغارد، المدير العام لصندوق النقد الدولي، في خطاب بشرم الشيخ في 15 مارس/آذار عام 2015.
الأمر الأكثر جدية هو جدوى سياسة التبرعات التي تتبعها الحكومة في التعامل مع الاقتصاد المصري، ويتفق معظم خبراء الاقتصاد على أن التبرعات لا يمكن تصنيفها في بند السياسات الاقتصادية، ومن المستحيل أن تُحقق التنمية المنشودة، أو حتى تُنقذ البلاد من أزمات اقتصادية خانقة، وتنحصر أهميتها في الجوانب الدينية والروحانية، كنوع من التكافل الاجتماعي، وليس كأداة مالية في يد الدولة.
فيجب أن تمتلك الدولة المصرية سياسات عامة واضحة، خاصةً أن تبرعات المواطنين بالعملة المحلية لن تساهم في شراء الحاجات النفطية أو توفير النقد الأجنبي للخزانة العامة للدولة، وأن حجم التبرعات مهما بلغ فلن يتمكن من قيادة قاطرة التنمية في مصر، ولن يتمكن كذلك من ضبط معدلات النمو أو سد عجز الموازنة.
وإذا كانت التبرعات أمرًا واقعًا، فلتكن هناك رؤية اقتصادية واضحة لبلوغ أقصى استفادة ممكنة من أموال الشعب المتناثرة بين الصناديق والمشروعات.