أين موقع الإسلاميين من فوضى قادمة في موريتانيا
فتح تقرير أمريكي نشر قبل أيام باباً واسعاً أمام التكهنات بشأن مستقبل موريتانيا في الأجل المنظور. التقرير نشره مركز «انتربرايز» محذراً من احتمال تعرض موريتانيا لموجة عنف وعدم استقرار مضافاً لبيان حذرت فيه السفارة الأمريكية رعاياها من أخطار محدقة. المركز عرض صورة أمنية قاتمة محذراً الجزائر وموريتانيا، معتبراً أنهما «تواجهان حالة من عدم الاستقرار، وأن موجة الربيع العربي الثانية ستشملهما»، و«أن موريتانيا ستصبح أول دولة غير مستقرة في القريب العاجل تتبعها الجزائر في ذلك».
موريتانيا المجهولة
تشكل معرفة الكثيرين بموريتانيا مشكلة ثقافية مزمنة، إذ لا تكاد الأضواء تسلط عليها إلا نادراً في وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية، رغم أن موقعها يمنحها أهمية كبيرة. تقع موريتانيا غرب أفريقيا على شاطئ المحيط الأطلسي، وهي همزة وصل بين الدول المغاربية ودول غرب أفريقيا، ما جعلها منطقة التقاء لثقافات عديدة. كلمة Mauritania تعني السود أي «أرض الرجال السود»، وعرفت سابقاً بأسماء منها: «بلاد شنقيط».
استقلت موريتانيا عن فرنسا (1960م) وتولى مختار ولد داده رئاسة الدولة، ولعب الإسلام دوراً كبيراً، حال دون تفكك الشخصية الموريتانية لذا سميت دولتهم: «الجمهورية الإسلامية الموريتانية». وشكلت موريتانيا همزة وصل بين العالم العربي والقارة السمراء، وسعت لتعزيز انتمائها العربي والإفريقي على حد سواء، ظلت ثنائية الهوية والانتماء أهم خصائصها.[1]
في 1961م صدر أول دستور لموريتانيا، وفي 1978م قامت حركة المقدم محمد خونا ولد هيدالة وانضم إليه العقيد مصطفى السالك رئيس الأركان، وتم تشكيل «اللجنة العسكرية للتصحيح الوطني» التي أصبحت تمثل السلطة التشريعية والتنفيذية، واختير العقيد مصطفى السالك رئيساً للجمهورية.
وبمرور الوقت تنافس الرفقاء على السلطة وبعد فترة قرر كبار الضباط إبعاد ولد السالك عن الرئاسة (إبريل/نيسان 1979م). وبعد صراعات أصبح ولد هيدالة رئيساً لموريتانيا (يناير/كانون الثاني 1980م). وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، وكثرت الاعتقالات في صفوف السياسيين؛ وشكلت لجان عرفت باسم: «لجان التهذيب الوطني» مارست دوراً قمعياً، ولجأ ولد هيدالة (1983م) إلى «تطبيق الشريعة الإسلامية» للحصول على الشرعية السياسية، وأيدته قطاعات واسعة من الشعب خرجت تهتف بشعار: «هيدالة بطل السلام والإسلام». بدأ نجم المقدم معاوية ولد الطايع وزير الدفاع يتألق، وقام بانقلاب عسكري استولى على السلطة.
الساحة السياسية الموريتانية تتسم بالغموض، وبخاصة بعد ظهور التيارات المعارضة للنظام، كالحركة الإسلامية الموريتانية، وهو تيار يُعرف بفكره القريب جداً لفكر إخوان مصر، ومرّ بمراحل عديدة ساعياً للمشاركة السياسية، ومع اندلاع «انتفاضة الأقصى» (سبتمبر/أيلول 2000م) برز إسلاميو موريتانيا كأهم القوى المناهضة لنظام ولد الطايع.[2]
المسار المتعرج
حافظت الأنظمة السياسية المتعاقبة في موريتانيا على توجهات إسلامية في السياسة وإدارة الشأن العام، رغم أن الأنظمة المتعاقبة كانت في عمقها علمانية أحادية متوجسة من الظاهرة الإسلامية عموماً. ويمثِّل نظام العقيد معاوية ولد الطايع أبرز مثال على ذلك. فيما يمثِّل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز أكثر الأنظمة قدرة على استغلال الهوية الدينية للشعب، وعلى إنتاج خطاب إسلامي قادر على التثوير الجماهيري.
كان تأسيس الحركة الإسلامية في موريتانيا صدًى لمتغيرات السلطة فبتحكم اليسار الموريتاني في الجناح الشبابي لحزب الشعب، (الحزب المهيمن في عهد الرئيس الأسبق المختار ولد داداه) فتم تأسيس أول بناء تنظيمي خاص بالإسلاميين عُرف باسم: «أنصار الله المجاهدون». وفي فترة الحكم العسكري (1980م – 1984م) تعزز حضورهم كقوة شعبية صاعدة. وأدى توجس السلطة منهم لاتخاذ إجراءات لتقييد حركتهم بينها رفض الترخيص لأية بنية سياسية مستقلة للإسلاميين، والاختراق القوي لبنيتهم التنظيمية ليُتوَّج الأمر باعتقالات 1994م، وحلِّ كل المؤسسات الدعوية والاجتماعية التابعة للإسلاميين. وانكفأ الإسلاميون لسنوات.[3]
وفي 2003م أخذت وتيرة الصراع بُعدًا أكثر حدَّة، وظهر أن سنوات الكمون رافقها حراك دعوي قوي. وبسقوط نظام ولد الطايع (2005م) بدأت مرحلة أخرى فاصلة في التاريخ السياسي لموريتانيا. وتناغم إسلاميو موريتانيا مع «الربيع العربي» وشكَّلوا رأس حربته ضمن تحالف واسع من المعارضة، وسرعان ما باء مسار الثورة بالفشل. ولم يجد الإسلاميون غضاضة من الانتقال من أقصى التيار الثائر، إلى خطاب أكثر وداعة ولباقة، فبادروا للمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية التي قاطعها أغلب الأحزاب المعارضة.
ظل تقارب النظام مع الإسلاميين أو مهادنته لهم مرتبطًا دائمًا بسياق المصلحة، فقد كان نظام ولد هيدالة في ثمانينات القرن الماضي محتاجًا لسند جماهيري. أمَّا الرئيس السابق، سيدي ولد الشيخ عبد الله، فحاول بالتقارب مع المعارضة – وضمنها الإسلاميون – أن يجد بديلاً عن العسكر وحلفائهم. ووجد الرئيس الموريتاني الحالي ولد عبد العزيز في مهادنتهم إلى حين وسيلة لتشتيت المعارضة واستغلال خطاب طرف سياسي مؤثِّر في الساحة.[4]
الإرهاب يخلط الأوراق
كما هو الحال دول عربية عديدة لعب الإرهاب دوراً في خلط الأوراق وتسويغ السياسيات التسلطية، وبخاصة بحق المعتدلين من الإسلاميين، وفي الآونة الأخيرة لحكم الرئيس السابق معاوية ولد الطايع، جرت حملة اعتقالات طالت علماء أئمة وناشطين إسلاميين بتهمة الإرهاب والتحريض على العنف شملت رموزاً وصفت بالمعتدلة وتلقفتها: «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، وجعلتها شماعة لتنفيذ أول هجوم دامٍ ضد حامية عسكرية (يوليو/تموز 2005م)، لتتوالى بعد ذلك اعتداءات بعد ما عرف بـ «بيعة الجماعة السلفية للدعوة والقتال» لتنظيم القاعدة (2007م).
قررت موريتانيا انتهاج سياسة جديدة سمتها «الضربات الاستباقية»، لتدفع بالجيش للتوغل في أراضي مالي. وجاء رد قوي من «القاعدة» تمثل في ضرب ثكنة عسكرية بولاية الحوض الشرفي. وفي عملية ثانية وتكبد الجيش الموريتاني خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وهو يتعقب خاطفي رهائن عاملين بشركة فرنسية.
وقد تولدت بعد الغزو الأمريكي للعراق (2003م) ردة فعل جماهيرية أسهمت في ظهور الخطاب الديني المتشدد، أو ما بات يعرف بـ «السلفية الجهادية» وأخذت موريتانيا نصيبها من هذا التغير. وأضحت الحدود الصحراوية الوجهة الرئيسة لمعظم الشباب الموريتاني المنخرط في الإرهاب. ولم تشتد موجة الالتحاق بالتنظيم، إلا بعد حملة اعتقالات بين السلفيين (2008م). وبدت مساهمة الموريتانيين في نشاط تنظيم القاعدة أكثر وضوحاً من الوزن النسبي الملحوظ للأدبيات التي كتبوها ومنها:
- «الانتصار للسجناء الأبرار في فتنة الحوار»، و«الوسطية في القرآن» للشيخ أبي المنذر الشنقيطي.
- «محاكمة القرضاوي في بلاد شنقيط» للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الشنقيط.
- «التبيان في وجوب قتال جيش موريتان» للشيخ أبو طلحة الشنقيطي.[5]
من التفاؤل إلى القلق
رغم كل الصعاب، كانت موريتانيا نقطة مضيئة نادرة في منطقة الساحل والصحراء. ونقاط الضعف فيها تمثل مشتركاً عاماً في المنطقة كلها: المزمن، والصراعات الاجتماعية الحادّة، والانقلابات العسكرية المتكرّرة، والتطرّف العنيف. وانتصار ولد عبد العزيز على المعارضة ونجاحه في بناء استقرار هشّ في البلاد، لا يعنيان أن المخاطر السياسية والأمنية ستظل تحت السيطرة. وبينما تتفتت الحركة الإسلامية يجري تسييس الهويات العرقية. وبات الموريتانيون يتحولون تدريجياً إلى متطرّفين حول قضايا الجنس والانتماء العرقي والدين، الأمر الذي يشكّل تحدّياً خطيراً.[6]
وقد أصبحت المعركة على توزيع الفرص والموارد في موريتانيا تدريجياً جزءاً من لعبة (نحن في مقابل هم)، ما يثير شبح انزلاق خطير إلى أتون صراع اجتماعي على أساس التصدّعات العنصرية والإثنية التي تعصف بالبلاد. الصدام سيؤلّب المغاربة (العرب /البربر)، الذين يمسكون بزمام السلطة السياسية، ضد السكان السود، (المغاربة السود)، والموريتانيين الأفارقة بجنوب البلاد. ويحتل الموريتانيون مكانةً بارزة في الشبكات المتطرّفة العنيفة العابرة للحدود الوطنية وحركات التمرّد الإقليمية.
هذه التوليفة الخطيرة من العرقية والمظالم الاجتماعية والاقتصادية والدين في موريتانيا، تنذر بتصعيدٍ في المعركة الأوسع حول هوية البلاد وتوجّهها الديني ومستقبل المساواة الديمقراطية هناك. والواقع أن التحدّيات الإيديولوجية والسياسية يمكن أن تتحوّل قريباً إلى أفعال في ظل ظروف لا تزال تختمر فيها مشاعر الاستياء والمظالم الأخرى بشكلٍ قوي ومؤثّر بين قادة الفكر.[7]
فهل تفتح موريتانيا باب حقبة من الاضطراب السياسي في منطقة تعاني أسباباً كامنة لاضطرابات مزمنة؟
[1]التنوع الديني والإثني في موريتانيا وتحديات بناء دولة المواطنة – دكتور أبكر عبد البنات آدم.[2] التنوع الديني والإثني في موريتانيا وتحديات بناء دولة المواطنة – دكتور أبكر عبد البنات آدم. [3]الإسلاميون والسلطة في موريتانيا: محطات السجال ومحددات الصراع – تقرير: محمد سالم ولد محمد – مركز الجزيرة للدراسات – 15/ 5/ 2016.[4] الإسلاميون والسُّلطة في موريتانيا: محطات السجال ومحددات الصراع – مصدر سبق ذكره.[5]عناق الأعداء: موريتانيا و القاعدة – تقرير: سيد أحمد ولد أطفيل – موقع مركز دراسات الدين والسياسة – 16/ 1/ 2011.[6]الاستقرار الحرج في موريتانيا والتيار الإسلامي الخفي – دراسة – أنوار بوخرص – 11/ 2/ 2016 – موقع مركز كارنيجي للدراسات.[7] الاستقرار الحرج في موريتانيا والتيار الإسلامي الخفي – مصدر سبق ذكره.