أين ترى نفسك بعد خمسة أعوام؟ «إدوارد ميندي» يجيبك

يقولون إن السؤال الأهم للحصول على أي وظيفة هو أين ترى نفسك بعد خمسة أعوام، مكالمة وحيدة كانت كفيلة بتغيير إجابتي على هذا السؤال. من رجل يريد لعائلته البقاء على قيد الحياة لرجل يحلم بأن يكون على قمة العالم.

على الأقل لقد حصلت على فرصة عمل كبائع في متجر ملابس بدلًا من استلام إعانة البطالة كل شهر. أما كرة القدم فقد أصبحت من الماضي الآن، لطالما عرفت في قرارة نفسي أنني حارس مرمى جيد، لكن ذلك لا يهم، تلك القناعة لا تكفي لإطعام العائلة.

يرن هاتفي فأتشبث به على الفور طامعًا في فرصة من العدم، إنه تيد لافي زميلي السابق في فريق شيربورج. استطاع تيد أن يحصل على خدمة من صديقه القديم دومينيك بيرناتوفيتش مدرب حراس مرسيليا، كانت الخدمة تقتضي أن ينتظرني دومينيك لإجراء حصة تدريبية كاختبار لشغل مركز الحارس الرابع أو الخامس للفريق.

شعور وحيد كان ينتابني، كيف سأثبت للجميع أنني أستحق الفرصة. لا زلت إلى الآن أثبت ذلك، كل يوم وكل مباراة وعقب كل لقب.

أنا إدوارد ميندي وتلك قصتي.

ميندي في فرنسا: لا شيء ثم كل شيء

في صيف عام 2014 قرر شيربورج القابع في الدرجة الثالثة في فرنسا أن يستغني عن خدمات حارسه الشاب خريج أكاديميات لوهافر السنغالي إدوارد ميندي. توقف وكيله عن الرد عليه ثم انتهت فترة الانتقالات دون أن يلتحق ميندي بفريق. قرر أن يتدرب بمفرده، لكن مع الوقت أصبح الواقع وحشيًّا: كيف يمكن لرجل بدون عمل يبلغ من العمر 23 عامًا أن يعيل أسرة شابة.

تلقى إعانة بطالة ثم قرر أن يترك كرة القدم نهائيًّا قبل أن ينقذه القدر متمثلًا في صديقه تيد لافي مقدمًا له فرصة الالتحاق برديف مارسيليا.

تطورت علاقة ميندي مع بيرناتوفيتش الذي قدمه إلى وكيل مكنه من الحصول على عرض من أحد أندية الدرجة الثانية في فرنسا، وهكذا التحق ميندي بفريق ريمس عام 2016.

تتلخص قصة ميندي في فكرة الإيمان بالفرصة ومدى استحقاق الشخص لتلك الفرصة. ربما لأنه يستحق تمامًا فقد تم طرد الحارس الأول لفريق ريمس يوهان كاراسو بعد ست دقائق فقط من مباراة ريمس الافتتاحية ضد فريق إميان.

خلال موسم 2017-18 تولى ديفيد غيون تدريب ريمس، وقرر أن يصبح ميندي الحارس الأول للفريق. كانت النتيجة هي فوز ريمس بلقب دوري الدرجة الثانية الفرنسي، وكان لميندي دور فعال في الفوز باللقب، حيث خاض 17 مباراة بشباك نظيفة مع أفضل نسبة تتعلق باستقبال الأهداف بواقع هدف كل 136 دقيقة.

ظهر ميندي لأول مرة في دوري الدرجة الأولى الفرنسي بعمر 26 عامًا و163 يومًا. سن كبير نسبيًّا بالطبع لكنه لعب كل دقيقة متاحة منذ ظهوره الأول هذا، وحافظ على نظافة شباكه في 14 مباراة متألقًا بشكل ملحوظ وكان هذا سببًا رئيسيًّا في احتلال ريمس للمركز الثامن، وهو أفضل مركز له في دوري الدرجة الأولى الفرنسي لمدة 43 عامًا. أصبح ميندي مطلبًا منطقيًّا لعدد من الأندية.

هكذا التحق ميندي بفريق رين قبل غلق نافذة الانتقالات بأيام قليلة، وكان ذلك السبب الرئيسي ألَّا يظهر ميندي رفقة منتخب السنغال في بطولة الأمم الأفريقية عام 2019.

حافظ حارس رين على شباكه نظيفة في أكثر من ثلث المباريات التي ظهر فيها (9 مباريات من أصل 24 مباراة بنسبة 38%) كان دور ميندي حاسمًا وحقق رين المركز الثالث في سباق الدوري متأهلًا لدوري أبطال أوروبا لأول مرة في تاريخ النادي.

على بعد ما يقرب من سبعمائة كيلومتر، هناك في لندن كانت الفرصة تُصنَع من ذهب على مقاس ميندي تحديدًا، وكأن هذا الرجل اختبره القدر ثم قرر مكافأته بقدر ما نجح في هذا الاختبار.

ميندي إلى لندن: لا شيء يأتي صدفة أبدًا

بمجرد رحيل تيبو كورتوا إلى ريال مدريد في موسم 2018/19 أصبحت حراسة مرمى تشيلسي في مأزق واضح للجميع، تحرك الفريق اللندني بشكل سريع لكنه غير مدروس، حيث قرر كسر عقد حارس بلباو الإسباني كيبا أريزابالاجا وجعله أغلى حارس في العالم بعد دفع 71.6 مليون جنيه إسترليني في أغسطس 2018.

ربما ثقل هذا الرقم ولقب الحارس الأغلى هو ما طارد كيبا وأفقده توازنه، وربما لم يتكيف الشاب  الإسباني سريعًا مع أجواء الدوري الإنجليزي الممتاز، لكن الأكيد أن أرقام الدفاع في تشيلسي كانت تبدو كارثية.

فقط فريق هيدرسفيلد تاون خلال موسمي حراسة كيبا، استقبل نسبة أهداف أعلى من تشيلسي من تسديدات مباشرة على المرمى. استقبل تشيلسي أهدافًا من تسديدات بنسبة (13.9%).

هنا لجأ تشيلسي إلى الرجل الذي حتمًا سيكون عنده الحل، الحارس الأسطوري للفريق بيتر تشيك الذي كان قد تقلد دور المستشار التقني الجديد للفريق. قرر تشيك أن يستنسخ قصته نفسها مع تشيلسي ويأتي بحارس الفريق الذي لعب له قبل أن يحرس مرمى تشيلسي، فريق رين الفرنسي. نعم هكذا أصبح ميندي حارسًا للبلوز، فلنعد إلى ميندي إذًا.

كان ميندي على عكس كيبا تمامًا يزداد ثقة كل مباراة، أصبح الوقت القاسي مجرد ذكرى وما يعيشه الآن يؤكد قناعته أنه حارس جيد. مدرب حراس المرمي رين أوليفييه سورين كان يقدم له إحصائيات تتعلق بنسبة الأهداف المتوقعة في مقابل الأهداف الحقيقية ودقة التمريرات التي يرسلها. كان أهم ما يميز تلك الإحصائيات أنها كانت تشمل مقارنة بين ميندي وبقية حراس فرنسا وباقي الدوريات الأوروبية.

خلقت الأرقام الطموح داخل عقل السنغالي، وأصبح الرجل مفعمًا بالثقة في انتظار أن يثبت للجميع مرة أخرى أنه يستحق فرصة أكبر، كانت الفرصة الكبرى في لندن وكان ميندي في الموعد.

ميندي في إنجلترا: الأفضل رغم تجاهل البعض

قدم ميندي أوراق اعتماده سريعًا في لندن، فقد حافظ على نظافة شباكه خلال أول خمس مباريات في الدوري الإنجليزي. أنهى الرجل موسم 2020/ 21 محققًا 29 مباراة بشباك نظيفة من أصل 53 مباراة في جميع المسابقات كأفضل حارس في إنجلترا والثالث بعد بونو وكورتوا.

نادى البعض بأن ميندي هو الأفضل في إنجلترا دون شك، لكن ذلك لم يعجب الكثيرين، ففي دوري يلعب به إديرسون وأليسون قد يكون فكرة الخروج بشباك نظيفة ليست المهمة الوحيدة للحارس، فمشاركة الحارس في اللعب المفتوح تعطي للثنائي البرازيلي أفضلية عن باقي حراس الدوري، وهنا فاجأ ميندي الجميع.

على الرغم من غيابه عن سبع مباريات في الدوري الإنجليزي الممتاز خلال الموسم الماضي لم يشارك أي حارس مرمى في لعب مفتوح ينتهى بتسديد على المرمى أكثر من ميندي بواقع 51 مرة. يشارك ميندي بشكل واضح في بناء الهجمة ويمرر لزملائه بثقة كاملة كحارس مرمى عصري.

تلك التمريرات تكون قريبه جدًّا من مرماه، ما يعني أنه عنصر أساسي في تعليمات البناء من الدفاع والتقدم في الملعب بدلًا من إرسال الكرة الطويلة على رأس المهاجم، إنه يملك أعلى نسبة تمرير داخل منطقة الجزاء في الدوري كله. كما أن باقي تمريراته يكون الغرض من معظمها تسليم لاعب في مدى قصير نسبيًّا (أقل من 30 ياردة)، 79% من تمريرات ميندي يغلب عليها هذا الطابع ولا يوجد حارس في البريميير ليج يملك نسبة أعلى.

على قمة العالم نفسه

الأرقام لا تكذب، ميندي يعرف ذلك لكنه يعرف أيضًا أن الناس ربما تغض البصر عن تلك الأرقام لعدة اعتبارات ربما تتعلق باللون والجنسية. كان من الممكن أن يترك في الظل للأبد لكنه تشبث بالفرصة، والآن دانت له فرصة أخرى لانتزاع بقعة الضوء الأكثر إبهارًا في عالم كرة القدم، وكان يعرف أنه يجب أن يتشبث بها.

حسنًا لا يوجد أكبر من بطولة دوري أبطال أوروبا كي يثبت المرء أنه الحارس الأفضل، أن يقف على قمة العالم ويقول إنني هنا، فعلها ميندي رفقة تشيلسي بالفعل محققًا رقمًا قياسيًّا خلال مشاركته الأولى في البطولة على الإطلاق. خاض ميندي 12 مباراة خرج في 9 مباريات بشباك نظيفة واستقبل ثلاثة أهداف فقط، وفي الأخير حقق اللقب.

أصبح ميندي الذي ولد لأب من غينيا بيساو وأم سنغالية هو أول حارس أفريقي يفوز بدوري أبطال أوروبا على الإطلاق، ثم قاد منتخبه للفوز في نهائي الأمم الأفريقية محرزًا لقب أفضل حارس في البطولة على الرغم من إصابته بفيروس كورونا قبل بداية البطولة بأيام.

حتى الآن وفي موسم 2021-22 فاق أداء ميندي التوقعات أكثر من أي حارس مرمى آخر ، حيث منع أكثر من هدفين مما كان متوقعًا من جودة التسديدات التي واجهها.

حصل الرجل على جائزة زا بيست كونه أفضل حارس في العالم رسميًّا من الفيفا عن موسم 2021.

هل تذكرون السؤال في بداية الحديث، حسنًا أنا أملك الإجابة المثالية، الإجابة تقول إن السؤال نفسه يُسأل بطريقة خاطئة، فالسؤال الحقيقي أين كنت منذ خمس سنوات، أما المستقبل فلا يتعلق بخمس سنوات، بل بكل فرصة متاحة وكل دقيقة لعب. أنا كنت بلا نادٍ من خمس سنوات، أما الآن فأنا على قمة العالم.