بين الرواية والمسلسل: أين رفعت إسماعيل الذي نعرفه؟
اليوم دبت الحياة في رفعت إسماعيل بعد عرض الموسم الأول للمسلسل المنتظر «ما وراء الطبيعة» على منصة نتفلكس الترفيهية، والمأخوذ عن سلسلة الروايات الشهيرة التي كتبها الراحل دكتور أحمد خالد توفيق وكان يحلم دوماً بتحويلها لعمل مرئي، اليوم دبت الحياة في الذئب المتوحد الذي يعشق الأكسجين ويكره ثاني أكسيد الكربون، الذي يدخن كبرلين حين دخلها الحلفاء ويسعل كمستعمرة درن كاملة ويعاني من درزينة من الأمراض المختلفة، الأصلع ثائر الشعر على الجانبين، أستاذ أمراض الدم وصائد الأشباح الهاوي، رفعت إسماعيل النحيل كعود الخلة الذي يحمل موسوعة بين تلافيف مخه، اليوم دبت الحياة في رفعت إسماعيل ذي البدلة الكحلية التي تجعله فاتناً، المشكلة الوحيدة هي أن هذا الذي رأيناه لم يكن رفعت إسماعيل على الإطلاق!
أبشع مسخ يمكن للمرء أن يلقاه هو نفسه
في «أسطورة رفعت» يواجه الدكتور رفعت إسماعيل نفسه، تجربة علمية ما ترسل لعالمنا رفعت إسماعيل آخر يعيش في عالم موازٍ، يكتشف رفعت إسماعيلنا الذي نعرفه أن هذا الذي يواجهه والذي يماثله تماماً في كل شيء ظاهرياً هو النسخة الأسوأ منه، لم يكفِ التطابق الشكلي والعائلي والتاريخي بينهما لكي يجعل رفعت الآخر يحمل شخصية رفعتنا، ولهذا كان يقول إن أبشع مسخ يمكن للمرء أن يلقاه هو نفسه، نفسه التي لا تشبهه.
اليوم جعلنا عمرو سلامة نقابل رفعت إسماعيل يشبه رفعت إسماعيلنا تماماً ظاهرياً، ولكنه لا يحمل روحه، وهذا ليس له أي علاقة بالمعالجة الدرامية للروايات، ولا بالأداء التمثيلي، الأمر له علاقة أكثر بفهم جوهر رفعت، شخصيته التي أنقذت –تقريبًا– حياة جيل بأكمله، شخصية نقيض البطل الذي مد يديه لينتشل مراهقين وشباباً صغيرين من براثن انعدام التقدير والتهميش وعلَّمنا كيف يمكن للإنسان العادي أن يصير بطلاً لحياته رغم أنه لا يحمل أياً من صفات النجومية المتعارف عليها، فهو لا يملك سوى عقله متقد الذكاء، وقلبه العامر بالدفء، وهكذا أنقذنا جميعاً.
من قدَّمه لنا عمرو سلامة اليوم يمثل الفهم الحرفي لمصطلح نقيض البطل، فرفعت بطل المسلسل علاوة على أنه لا يحمل صفات النجم، فهو أيضاً لم يحمل صفات رفعت التي جعلته بطلاً، رفعت الذي رأيناه اليوم لا يستطيع إنقاذ أحد، لا يستطيع إنقاذنا كما فعل رفعتنا، رفعت الذي رأيناه اليوم مهزوم، ولا يجب على أي شخص أن يتعلق ببطل مهزوم، رفعت الذي رأيناه اليوم ليس هو رفعت الذي قدمه لنا د. أحمد خالد توفيق، رفعت الذي رأيناه اليوم غريب عنا تماماً.
صديقي الذي افتقدته
أنا أزعم أنني أعرف رفعت إسماعيل حق المعرفة، فقد قضيت معه وقتاً أطول مما قضيته مع أي إنسان في فترة حرجة من عمري، ولذلك يمكنني أن أعرفه عندما أراه، رأيت رفعت كثيراً من قبل، أحياناً كنت أراه بعيني فقط دون أن أسمعه، وأحياناً أخرى كنت أسمعه يتحدث في جسد شخص آخر، وأحياناً أخرى كنت أنا نفسي أصبح رفعت إسماعيل.
اليوم رأيت وجه رفعت إسماعيل، عويناته، ملابسه، مشيته وحركته وكيف يشعل سيجارته، ولكنه لم يكن هو، رفعت الذي أعرفه لا يمكن أبداً أن يستهزئ به أحد، ولا أن يستهزئ هو بأحد، رفعت الذي أعرفه كان يعرف قدر نفسه جيداً، ورغم ذلك فقد كان رقيق الحاشية، لم يكن رفعت فظاً أبداً، ولم يكن غبياً ولا يغرق في شبر مياه، لم يكن متهوراً ولا يستطيع رفعت أبداً أن يعرِّض حياة شخص للخطر، وبالطبع لا يمكن لرفعت صديقي الذي أعرفه أن يتعرض للاستفزاز بسهولة، بل دوماً ما كان يسخر من ذلك، رفعت صديقي كان يمتلك حس دعابة حاضراً دوماً، يسخر من نفسه ومن كل شيء، ولكنه لم يوجه أبداً إهانات لأحد.
رفعت كان عزيزاً وسط قومه، لم يكن أبداً حائطاً مائلاً يفرغ الجميع فيه غضبهم وجل ما يفعله هو أن يتمنى سراً لو يختفي، رفعت لم يكن أبداً جباناً أيضاً لم يكن منفصلاً عن جذوره وكان تواصله مع عائلته دوري ودائم. أما هذا الرفعت الذي لم يكن حتى يزور أمه ويعتبر مرضها مبرراً كافياً للابتعاد، هذا الرفعت أنا لا أعرفه.
رفعت الذي رأيته اليوم لم يحمل أياً من صفات رفعت الذي أعرفه والذي يعرفه كل أصدقائه، الذي رأيناه اليوم كان شخصاً يراه الجميع فاشلاً ويحتاج لتوجيه، ويفعلون ذلك دوماً بأسوأ الطرق وكأنه بلا كرامة، كل شخصيات المسلسل تقريباً وجهوا له الإهانات، ماجي نعتته بالجبان، رئيفة صرخت في وجهه أنه بلا قيمة وليس رجلاً ليرعى شئونها، رضا أهانه وأخبره أنه الأناني المدلل، وباقي الشخصيات كانت تراه ناقص الأهلية بشكل ما ويحتاج دوماً لمن يتجاهل تصرفاته وكأنه أحمق.
في المقابل رفعت اليوم كان منحنياً دوماً لا يرفع وجهه في أحد، يعترف أنه دوماً السبب في المشكلات، ليس على سبيل السخرية من نفسه أو مما يحدث، ولكن بإحساس متجذر بالذنب، يتجلى في عدم إلقائه أي دعابات تقريباً طوال المسلسل وعدم الابتسام ولو مرة واحدة، كان رفعت اليوم حزيناً جداً، ومع ذلك كان يسخر من كل الشخصيات، ليس سخرية رفعتنا المحببة، ولكن السخرية القاسية المستهزئة، رفعت اليوم كان متهوراً جداً ولا يفكر في عواقب أفعاله، رغم أن أحد صفات رفعت المتجذرة والتي تفوت عليه الاستمتاع بالحياة تقريباً هي حذره المبالغ فيه، رفعت اليوم كان يدعي أنه رفعت، وهو جيد جداً في التقمص، ولكنه ببساطة ليس هو.
أنت بطلي المثالي لأنك مش مثالي
أتذكر أغنية قديمة لكارمن سليمان كانت تقول ضمن كلماتها «إنت بطلي المثالي لأنك مش مثالي»، وهي جملة تصف د. رفعت إسماعيل تماماً، هو لم يكن مثالياً أبداً ولم يطالب أحداً أبداً بأن يراه مثالياً، ولكنه رغم كل شيء كان بطلاً، يحمل الصفات الشكلية لنقيض البطل ولا يمكن لأحد أن يستنتج أنه بطل، ولكنك ما أن تتعرف عليه حتى تجده بطلاً حقيقياً، رفعت إسماعيل اليوم كان يحمل الصفات الشكلية لنقيض البطل وما أن تتعرف عليه حتى تتأكد أنه لا يحمل أياً من صفات البطولة.
رفعت اليوم كان مهزوماً، وضعيفاً، كيف يمكن لمن لم يقرأ الروايات ولم يعرف رفعت على حقيقته أن يحب هذا الشخص المستسلم الذي دوماً ما يقع في المشكلات ثم لا يستطيع حلها، والذي لا تطيقه عائلته وينعته الجميع بالفاشل؟ وهو لا يفعل أي شيء سوى تلقي الإهانات؟
أزمة كتابة شخصية رفعت في المسلسل اليوم تقع بالكامل على عاتق عمرو سلامة، فهو على ما يبدو أخطأ فهم شخصية رفعت وكيف أنه لا يستطيع أن يكون بطلاً تقليدياً متعارفاً عليه، ولكنه بطل بطريقته الخاصة، فقرر أن ينفذ الشق الأول فقط من الجملة، وجعله أبعد ما يكون عن البطولة، ثم استمر في الكتابة دون أن ينتبه أنه لم يجعله بطلاً غير تقليدي.
رفعت الحقيقي –نعم رفعت كان حقيقياً لمعظمنا– كان محبوباً، كان يمتلك كاريزماه الخاصة، كاريزما لا تتعلق بالوسامة ولا بالبنية العضلية المفتولة ولا بالثراء، ولكن بالذكاء والبديهة والمشاعر الدافئة وحس الدعابة والصراحة والوضوح، لم أرَ أيَّ شخص اليوم على الشاشة يحب رفعت، كلهم ينبذونه ويسخرون منه، رأيت رفعت حزيناً ومكسوراً، وقد فتَّت هذا قلبي تماماً، فرفعت بطلي المثالي الذي لا يجب أن يكون مثالياً هو بطل حقيقي أنقذ حياتي، وكان يستحق أن يراه الجميع على حقيقته، خاصة من لم يعرفوه من قبل.