يونيو 1967: أين ذهبت «كرة قدم ما قبل النكسة» في مصر؟
كل شيء تغير في مصر عقب الهزيمة المدوية فيما عرف بنكسة 1967. كل شيء انتكس، الاقتصاد والصناعة والتجارة وكل شيء، حتى رءوس البشر!
إذا كنت تظن أن كرة القدم كانت بمعزل عن تلك النكسة، فأنت مخطئ، لأن استعراض خارطة كرة القدم المصرية قبل النكسة وبعدها يشعرك أنك تتحدث عن بلدين مختلفين، بلد بدوري مليء بالتنافس والمواهب والفرص كانت قبل الهزيمة، وبلد آخر له سمات رياضية أخرى بعدها.
قبل الحرب: كرة القدم في بلد آخر
دعنا نستعرض فقط مقدمة رقمية قد تفهم من خلالها سياقات حديثنا، قبل حرب 1967. أقيم 18 موسمًا للدوري المصري الممتاز، لك أن تتخيل أن هذه المواسم شهدت عدد فرق متوجة أكثر من عدد المتوجين بعدها في 45 موسمًا آخر!
هذا حقيقي، فخلال 18 موسمًا سبق الحرب توجت 6 أندية بلقب الدوري المصري هي «الأهلي – الزمالك – الترسانة – الأولمبي – غزل المحلة – الإسماعيلي»، بينما توج بعد الحرب في 45 موسمًا كل من «الأهلي – الزمالك – المقاولون العرب – الإسماعيلي».
هذا رقم ذو دلالة وله سياق مؤكد. صحيح أنه يوضح سيطرة أهلاوية يمكن الحديث عنها من خلال إحراز المارد الأحمر 11 لقبًا من أصل الـ 18 التي سبقت الحرب، إلا أن هناك سياقًا رقميًّا آخر هامًّا، وهو أن سنوات ما قبل الحرب مباشرة شهدت 4 مواسم دون تتويج الأهلي، وأن الأهلي لم يسبق له في تاريخه أن مر بـ 6 مواسم متتالية دون تتويج، فضلًا عن اختراق سنوات توقف كرة القدم بسبب النكسة لهذه المواسم لتصبح الحصيلة بين عامي 1962 و1973، 11 عامًا كاملًا دون لقب للأهلي.
سياق مثير، نظرًا لما سيحدث بعد ذلك من سيطرة أهلاوية على مقاليد كل شيء رغم أن عدد السنوات أكثر بنحو ثلاثة أضعاف ما قبل الحرب.
التداعيات الكروية للنكسة
انقسمت التداعيات الكروية للنكسة في مصر إلى عدة توابع. أولها على مستوى البنية الأساسية للأندية، والتي كانت تشمل قاعدة لا يستهان بها من الأندية المنافسة على لقب الدوري، بل المشاركات الأفريقية.
يوحي بذلك تتويج الإسماعيلي الأول للأندية المصرية بعد ذلك في 1970 بدوري أبطال أفريقيا، كذلك كون أسطورة الترسانة حسن الشاذلي الهداف التاريخي للدوري المصري إلى الآن وصاحب الفضل الأبرز في البطولتين الأفريقيتين اللتين حققهما منتخب مصر قبل النكسة. ظل حسن الشاذلي هداف مصر الأول عبر التاريخ إلى حين ظهور حسام حسن.
توابع أخرى لها علاقة بالبنية التحتية الأساسية لكرة القدم المصرية، وبالأخص الملاعب التي تحولت إما إلى مقرات لإيواء المهجّرين من مدن القناة تحديدًا، أو إلى مساحات لتدريب القوات المسلحة المصرية وأحيانًا ملاجئ لجنودها ومهابط طائرات.
ثم منتخب مصر الذي قضى المواسم الستة التي توقف فيها النشاط الكروي يخوض مباريات ودية مع منتخبات عدة أبرزها من العرب، بينما هاجر معظم نجوم مصر إلى تلك البلدان نفسها للاحتراف ومزاولة الرياضة التي يعشقونها ولا يستطيعون لعبها بشكل احترافي في مصر، وعلى رأسهم حسن شحاتة وطه بصري ومصطفى رياض وآخرون.
الأوليمبي بطل لأفريقيا؟
حين استعرضنا المتوجين بالدوري قبل الحرب، يمكنك أن تتأكد أن الأهلي والزمالك فقط هم من يستطيعون الحديث الآن في 2023 كأندية كبرى، الحقيقة أن ذلك حدث بعد حرب 1973 بعشرين عامًا فقط، أي إنه ليس وليد اللحظة.
سلك الأوليمبي طريقه إلى دوريات المظاليم، الترسانة كذلك، غزل المحلة بين صعود وهبوط، المقاولون العرب يذهب ويعود، الإسماعيلي يكافح كل عام من أجل البقاء رغم أنه مر بفترة ذهبية مطلع الألفية الجديدة أفسدها عدم وجود المال الكافي للحفاظ على أحد أقوى الأجيال في تاريخ مصر.
إلا أن الأوليمبي تحديدًا كان يمكن أن يدشن تاريخًا مختلفًا لولا النكسة، فالنادي السكندري العريق الذي تأسس قبل الأهلي والزمالك في عام 1905، كان قد توج بلقب الدوري موسم 1965-1966 وشارك في دوري أبطال أفريقيا كأول فريق مصري يمثل البلاد في تلك البطولة.
وكان الأوليمبي أول من توج بالدوري المصري من خارج القاهرة، وحينها كانت لديه أيضًا بطولتان لكأس مصر في الثلاثينيات، نحن نتحدث عن نادٍ كانت له صولات وجولات في الكرة المصرية.
شارك الأوليمبي في دوري أبطال أفريقيا 1966-1967، أي موسم الحرب، تخطى عقبة الهلال السوداني ثم واجه سان جورج الإثيوبي في ربع النهائي.
في إثيوبيا نجح الأوليمبي في الفوز 3-2، وبينما كان لقاء الذهاب مقررًا له السادس من يونيو 1967، أتى الخامس منه ليؤدي إلى انسحاب الأوليمبي من المسابقة وإلغاء النشاط الرياضي في مصر تمامًا لتوأد تجربة الأوليمبي الأفريقية في مهدها!
أدت النكسة إلى انتهاء الجيل الذهبي للأوليمبي، وعلى رأسهم عز الدين يعقوب هداف الفريق الذي سجل 83 هدفًا بقميصه وإلى الآن هو الهداف التاريخي للنادي، إضافة إلى السكران وبدوي عبد الفتاح والمعلق الشهير الراحل محمود بكر الذي لا يعرف الكثيرون أنه كان لاعب كرة قدم مميزًا.
مباراة الخداع الاستراتيجي وغزل المحلة بطلًا
كما تأثرت كرة القدم بحرب 1967 تأثرًا لا لبس فيه، كانت أيضًا من العلامات الفارقة في خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت حرب 1973.
فبخلاف إعطاء تعليمات للجنود على الضفة الغربية من قناة السويس بتنويم الإسرائيليين من خلال لعب كرة القدم يوميًّا وحتى يوم العبور كي يتأكدوا أن الجبهة خالية من أمارات الحرب، عادت الكرة المصرية لنشاطها موسم 1972-1973، في موسم سيكون التتويج به لأول وآخر مرة من نصيب غزل المحلة (الذي سيصل بعد عام واحد فقط نهائي دوري أبطال أفريقيا قبل أن يخسر من كازا برازافيل الكونغولي).
يوم 6 أكتوبر 1973 نفسه كانت هناك تعليمات بلعب مباراة في الدوري بين كل من الترسانة والطيران، لإقناع العدو الإسرائيلي بأن كل شيء على ما يرام، وأنه لا توجد أي نية لشن الحرب، فكان ما لم يحسبه الإسرائيليون حقًّا، واشتعلت الضفتان بالنيران بحلول الثانية ظهرًا.
أيًّا ما كان سبب تغير المشهد الكروي المصري عقب حرب 1973، وسيطرة الأهلي والزمالك الفجة على مقاليد كل شيء، وأيًّا ما كانت وجهة نظرك حيال من أداروا كرة القدم وحكموها لأجل طرف من الطرفين وأقصوا أندية مصر كلها، فالحقيقة الواقعة أن نظرة واحدة لكرة قدم ما قبل النكسة، ستجعلك تتمنى أن ترى ولو نسبة ضئيلة من تلك التنافسية في الكرة المصرية في الوقت الراهن.