أزمة الميراج: حين تصارع العالم على طائرة لبنانية
عام 1969م زار سامي الخطيب، القائد العسكري اللبناني، مصر بطلبٍ من جمال عبد الناصر، وهناك تلقَّى عرضًا غريبًا من الفريق محمد فوزي، وزير الحربية المصري، وهو إعارة مصر إحدى طائرات الميراج الفرنسية التي يُعدُّ لبنان البلد العربي الوحيد الذي يمتلكها.
قال فوزي للخطيب: طيارونا لا يرونها، تصطدم بها طائراتنا فتُسقطهم دون أن نكون قادرين على أن نعرف شيئًا عنها. نُريد منكم أن تعيرونا إحداها حتى يتعرَّف عليها طيارونا ويتدرَّبوا عليها، فنكسر حاجز خوفهم من هذه الطائرة المرعبة.
استغرب «الخطيب» ذلك الطلب العجيب والمُحرج، وعلم حينها أن لبنان سيكون على وشك أزمة جديدة بسبب الطلب المصري؛ فمن ناحية هو يعلم – بحكم منصبه العسكري الرفيع – أن لبنان ملتزم بعدم تسليم الطائرة إلى أي دولة أخرى، إلا بموافقة فرنسا، ومن ناحية أخرى فإن عبد الناصر خلال ذلك الوقت – ورغم الهزيمة – كان يتمتَّع بشعبية طاغية في أنحاء العالم العربي، وكان رفض أي طلب له يُهدِّد بعواقب وخيمة على لبنان الذي يُعاني بالأساس من انشقاقات اجتماعية كُبرى.
على أية حال، لم يكن بمقدور «الخطيب» أن يمنح الوزير المصري ردًّا سريعًا في موضوعٍ كهذا، فاكتفى بوعده بأنه سينقل الطلب إلى القيادة اللبنانية.
لبنان والميراج
عام 1964م اتخذت القمة العربية قرارًا بتسليح لبنان باعتباره «دولة مواجهة» ضد العدو الإسرائيلي، وبناءً على هذا القرار تلقَّت بيروت تمويلًا عربيًّا، هدف إلى بناء شبكة دفاع جوي متكاملة، تشمل طائرات مقاتلة وصواريخ ومدافع مضادة للطائرات ورادارات تحمي لبنان من أي اعتداء إسرائيلي محتمل.
في هذه الأثناء، كان سلاح الجو اللبناني في غاية الضعف بعدما اقتصر تسليحه على طائرات قديمة من طرازات حربية، مثل «فامبير» و«هوكر هنتر»، لذا اهتمَّ مسئولو الجيش فورًا بالحصول على طائرات الميراج التي كانت تتمتَّع بسمعة عالمية حينها، فوقَّع مع الشركة المُصنِّعة عقدًا لشراء 12 طائرة ميراج مزودة بـ 15 صاروخًا من طراز «ماترا».
وفي مارس 1968م، بدأت طائرات الميراج في التوافد على لبنان، وهي خطوة لم تزده أمنًا، كما حسب مسئولوه.
مصر والميراج
كشفت حرب يونيو الفجوة الضخمة بين إسرائيل والجيوش العربية في المجال الجوي، امتلكت مصر وسوريا طائرات من طراز «ميج-21» السوفييتية، فيما اعتمدت إسرائيل بشكل أساسي على طائرتي «الفانتوم» و«الميراج».
كانت «الميج» أقوى من نظيرتها «الميراج» على صعيد الهيكل الخارجي والقدرة القتالية، لكن الأخيرة كانت حافلة بتجهيزات إلكترونية أكسبتها تفوقًا مطلقًا في ساحة القتال، وتكرَّرت شكاوى الطيارون العرب لقاداتهم بأن طائراتهم لا تمتلك تقنيات تكنولوجية مماثلة لما يُملكه نظراؤهم الإسرائيليون.
من هنا نشأت الفكرة في أذهان المسئولين السوفييت والمصريين بضرورة الاستيلاء على «الميراج» لدراستها وفك غموض تجهيزاتها، وفي هذا الشأن استحضروا سيناريو الطيار العراقي منير روفا الذي هرب بطائرته «الميج» إلى إسرائيل، حيث خضعت لفحص هندسي دقيق، كفل لليهود فك جميع أسرارها واستغلالها لصالحهم، وهو ما منحهم تفوقًا كبيرًا عليها في 1967.
أما «الميراج» فقد ظلَّت لغزًا مستعصيًا على الحل، سعى المصريون لحله بأي ثمن، حتى لو على حساب لبنان.
شارل حلو وعبد الناصر
اتبع الرئيس اللبناني شارل حلو سياسة حذرة تجاه الانزلاق في الصراع العربي الإسرائيلي، حاول من خلالها عدم الزج ببلاده في حروب فوق طاقتها، فاجتهد قدر استطاعته في احترام قرار الهدنة الذي وقَّعه البلدان في 1948م، وهو ما جنَّبه خطر تعرضه للقصف الجوي في 1967م، فكان البلد العربي الوحيد الذي لم تقتطع منه أرضه عقب النكسة.
لم تكن هذه السياسة تروق لعبد الناصر الذي لطالما اعتبر لبنان ساحة أساسية للحرب على إسرائيل، وعقب الوحدة مع سوريا نشبت في لبنان أزمة كُبرى عُرفت باسم «ثورة 1958م» بين اللبنانيين الراغبين في الوحدة ومعارضيها.
شقت تلك الأزمة الدولاب الحكومي للبنان بعدما انضم الرئيس كميل شمعون للطرف المُعارض للوحدة، فيما أيَّده رئيس الوزراء رشيد كرامي.
نشبت اشتباكات ضخمة بين الطرفين أفضت إلى أحداث دموية استدعت نشر قوات أمريكية، في النهاية لم تنتهِ الأزمة إلا بعد إجبار «شمعون» على الاستقالة وترشيح قائد الجيش فؤاد شهاب – مرشح عبد الناصر – بدلًا منه.
بالتأكيد دارت تلك الأحداث في ذهن «الحلو» حينما تلقَّى طلب عبد الناصر، وبالتأكيد دارت في رأسه حيرة كبيرة، وهو يتساءل في نفسه: إلى أي الطرفين ينحاز، الغرب أم عبد الناصر؟
الجواب صعب على هذا السؤال، ففي كلا الحالتين سيكون لبنان على موعد مع حرب أهلية جديدة لو لم يُحسن «الحلو» التعامل مع تلك الأزمة.
تحفَّظ الرئيس اللبناني على قبول العرض المصري متحججًا بشروط شرائها من فرنسا، وهو الرد الذي لم يقنع القاهرة، فأعادوا طلبهم مرتين، في إحداهما قال سامي شرف لـ «الخطيب»: يا أخي افرض إن طائرة ميراج ضاعت، فُقد الاتصال بها، تأتي لنا على علوٍّ منخفض لشهرين أو ثلاثة ثم نعيدها إليكم.
رُفض هذا العرض أيضًا، فأوعز عبد الناصر إلى سوريا عبر حافظ الأسد – كان وزيرًا للدفاع حينها – بتقديم فكرة جديدة تمثَّلت في إجراء تدريبات مشتركة بين طائرات «ميج» سورية و«ميراج» لبنانية، تهبط بعض الطائرات في قاعدة عسكرية سورية حيث تخضع لفحص فني مصري تعود بعدها إلى لبنان.
هذه المرة احتاج الرئيس اللبناني إلى دعم خارجي، ففاتح السفير الفرنسي في لبنان، الذي نقل الطلب المصري إلى بلاده، وسرعان ما وصل بيروت الرفض القاطع والتحذير شديد اللهجة من أن الإقدام على خطوة كهذه سيكون له عواقب وخيمة على العلاقات مع لبنان.
استمر الإلحاح المصري طيلة عام 1969م، ومعه تمسَّك اللبنانيون برفضهم، هنا قرَّر الاتحاد السوفييتي التدخل على خط الأزمة، بعدما قرر اختطاف الميراج رغمًا عن إرادة الحكومة اللبنانية.
الخطة الروسية: الجميع خاسرون
حاولت موسكو تجنيد الطيار محمود مطر وتقديم إغراءات مالية له ليُقدم على «سيناريو العراق» ويهرب بطائرته إلى الاتحاد السوفييتي. تضمنت المكافأة مبلغًا ماليًّا قدره 3 ملايين دولار، وتأمين خروج عائلة «مطر» من لبنان قبل تنفيذ العملية بيومين في مقابل الطيران بـ «الميراج» حتى أذربيجان، بعدما فضَّل الروس عدم تسليمها لأي بلد عربي تلافيًا لأي تعقيدات دبلوماسية.
لسوء حظ السوفييت أبلغ الطيار اللبناني سلطات بلاده بحقيقة الأمر، فوضعوا خطة لمهادنة السوفييت حتى هاجموا شقتهم لحظة إتمام الاتفاق النهائي، انتوت الخطة اللبنانية القبض على العملاء الروس، ثم طردهم من البلاد تجنبًا لإثارة مشكلة مع الاتحاد السوفييتي.
خلال عملية المداهمة، خرجت الأمور عن نطاقها بعدما وقع تبادل لإطلاق النار بين رجال «المكتب الثاني» (المخابرات اللبنانية) والسوفييت، على أثره جُرح دبلوماسيان روسيان وفردان من الأمن اللبناني، ونُقلوا إلى المستشفى في الحال، وهو ما أدَّى لتسرُّب الخبر إلى الصحافة.
كان رد الفعل الروسي غاضبًا وعنيفًا، فزار سرجار عظيموف، السفير السوفييتي، مقر وزارة الدفاع وسلمها احتجاجًا خطيًّا على ما وقع، وفي اليوم التالي توجَّه لمقر رئاسة الجمهورية، حيث عقد اجتماعًا مع الرئيس شارل حلو. رفض الروس الرواية اللبنانية جُملة وتفصيلًا، ووصفوها بـ «الاستفزاز الخطير والفظ، الذي تقف وراءه الإمبريالية الأمريكية».
نجحت العملية أمنيًّا، فمُنع تهريب الطائرة، لكنها فشلت سياسيًّا بعدما اعتُبر أن إطلاق النار على دبلوماسيين سوفييت أمرًا غير مقبول أبدًا. بطبيعة الحال، تأثَّرت علاقات لبنان بالسوفييت سلفًا، كما ضعفت صورة الأجهزة الأمنية أمام اللبنانيين أنفسهم، ففي هذا الوقت كانت الصورة الأساسية لموسكو عند العرب أنها صديقتهم الأزلية التي تتولَّى تسليح جيوشهم ضد الإسرائيليين وضد أمريكا، وكان أبرز السياسيين اللبنانيين المعارضين لكل ما جرى كمال جنبلاط، الذي اعتبر أن القصة الرسمية اللبنانية لا يصدِّقها عقل.
وأعرب عبد الناصر عن جام غضبه على طريقة التعامل القاصرة مع تلك المسألة الحساسة، وأرسل برقية غاضبة يطالب فيها بالكف عن التجريح في السوفييت، ووقف تداول هذا الموضوع في وسائل الإعلام، وهو الطلب الذي استجاب له لبنان، وأُمر جميع رؤساء التحرير بالكفِّ عن تداول الأمر بأي شكل.
حتى الملحق العسكري الأمريكي في لبنان قال لسامي الخطيب في اجتماعٍ لاحق: «لا أصدق ماذا فعلتم، لم نكن لنجرؤ على القيام بذلك في نيويورك لو حدث ذلك عندنا».
طُرد الدبلوماسيان الروسيان خارج لبنان، فيما سُرِّح من الجيش جميع العسكريين اللبنانيين الذين تورَّطوا في الفضيحة عبر التوسط بين «مطر» والروس، أما محمود مطر نفسه فتقرَّر إيفاده إلى الولايات المتحدة لتلقِّي تدريبات عسكرية هناك، خوفًا من تنفيذ أعمال انتقامية بحقه.
ونالت التداعيات السياسية لبنان نفسه، فبعدما تضرَّرت سُمعة «المكتب الثاني» في البلاد، خسر إلياس سركيس، المرشح الرئاسي الذي دعَّمه المكتب، الانتخابات أمام سليمان فرنجية الذي حظي بتأييد الروس وبعض القوى الوطنية اللبنانية.