متى نحرر فلسطين من أمراضنا؟
في مساء يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تحرك موكب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، منطلقاً من الضفة الغربية نحو مستوطنة «روش هعاين»، حيث منزل وزير الحرب الإسرائيلي، بيني جانتس. كان المشهد مخجلاً، فالزيارة أشبه باستدعاء موظف منها إلى لقاء سياسي بين شخصيتين إحداهما يمثل فلسطين رسميًا، لكن التفاصيل كانت أكثر خجلاً، فما نشرته الصحف عن الزيارة كان تعهدات عباس بوقف ما أسماه «العنف» تجاه الإسرائيليين، وبذل مزيد من الجهد في مواجهة «فصائل المقاومة».
أما جانتس فقد شكر عباس على يقظة أجهزته التي أنقذت اثنين من المستوطنين المتطرفين من أيدي شبان فلسطينيين حاصروا سيارتهم في الضفة. أما عن قطعان المستوطنين الذين يقتحمون القرى الفلسطينية كل ليلة لترويع وطرد أهلها وإحراق بيوتهم وقتل أطفالهم، أو أهالي حي الشيخ جراح بالقدس التي ينتزع أهلها منها نزعًا بالقوة، فلم يكن لهم نصيب من مائدة الرئيس.
على جانب آخر، وقبل تلك الواقعة المخجلة، كان قد تسرب مقطع فيديو للقيادي بحركة حماس، محمود الزهار، الذي تقلد سابقًا منصب وزير الخارجية بحكومة إسماعيل هنية بقطاع غزة، وقد أظهر المقطع لقاءً للزهار مع مجموعة من أنصار الحركة وهو يوضح لهم رؤية الحركة قائلاً: «دولة فلسطينية على حدود 1967 من الثوابت؟ طبعًا عندما أسمع هذا الكلام أشعر بالتقيؤ، لأنه لا يوجد مشروع … فلسطين بالنسبة لنا مثل الذي يحضر السواك وينظف أسنانه فقط، لأن مشروعنا أكبر من فلسطين … فلسطين غير ظاهرة على الخريطة». وإذا كانت هذه هي رؤية حركة حماس للقضية، فإن ممارساتها كنظام حكم في القطاع لا تقل ديكتاتورية وقمعًا وتنكيلاً عن سلطة عباس وباقي الأنظمة العربية.
وبينما كان يبحث عباس عن مصالحه مع جانتس، وكان الزهار يحلم بإمبراطورية جماعته المتخيلة، كان الكثير من الطلاب والنشطاء، الممثلين والمغنيين، نجوم مواقع التواصل وعارضات الأزياء حول العالم يخوضون معركة فلسطين الحقيقية، في الجامعات والمدارس وأروقة القضاء والسياسة، وصفحات التواصل الاجتماعي والقنوات والصحف، للمطالبة بحق فلسطين شعبًا وأرضًا، في الحياة والحرية والكرامة.
لذا فليس غريبًا أن تصبح فلسطين إحدى أهم قضايا الشباب والأجيال القادمة والتيارات التقدمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفق الصحفي الأمريكي الشهير «والمؤيد لإسرائيل» توماس فريدمان، في الوقت الذي تعتبر حكومتها أهم داعمي إسرائيل، بينما نحن لا نزال نتعارك في نفس الموضوعات والمعارك ذاتها منذ عشرات السنين.
قبل أزمة تهجير أهالي حي الشيخ جراح المقدسي، وبحكم اهتماماتي البعيدة، لم أكن أعرف شيئًا عن أسماء «جيجي وبيلا حديد» عارضتي الأزياء الأمريكيتين، فلسطينيتي الأصل. ولكني، مثل ملايين الناس، تابعت نضالهما ومعاركهما للدفاع عن فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما أوصل القضية لفئات وأماكن كانت بعيدة بُعد السحاب. لقد قامتا -ولا تزالان – «جيلينا نور وإيزابيلا خير محمد أنور حديد» والمعروفتان باسميْ «جيجي وبيلا حديد» بخوض واحدة من أكبر وأهم حملات التضامن للقضية، مستغلتين عدد المتابعين لهما (72 و50 مليون متابع على التوالي) لتوعية العالم بفلسطين وأهلها كقضية إنسانية تستحق اهتمام كل إنسان على وجه الأرض.
وعلى الرغم من الحرب الضروس التي شنتها عليهما -وعلى غيرهما- دوائر اللوبي الصهيوني في واشنطن وخارجها، لم تتراجع العارضتان جيجي وبيلا حديد، بل على العكس، لقد استطاعتا جذب العشرات من نجوم الفن والمؤثرين في أمريكا وأوروبا إلى تفاصيل المأساة، وأصبحنا نرى ممثلات ومغنيين يتحدثون عن أهل حي الشيخ جراح بالقدس، وأطفال غزة، وشباب الضفة.
ومنذ شهور قليلة، دعا مجلس طلاب الدراسات العليا في جامعة فرجينينا التقنية الأمريكية مجلس الجامعة لمقاطعة جميع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية المتواطئة في الحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي الذي ينكر الحقوق الفلسطينية الأساسية. تلاه إعلان مجلس طلبة كلية الحقوق بجامعة نيويورك عن دعمه وتأييده حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، المعروفة باسم «BDS»، مطالبين الجامعة بوقف التعاون والتواطؤ مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية التي تساهم في العنف ضد الفلسطينيين؛ أو المشاركة في تطوير المعدات العسكرية والأسلحة والطائرات، وتقنيات المراقبة، وتقديم دورات تدريبية عسكرية ومناصب لكبار الضباط العسكريين. هؤلاء ومثلهم مئات في أروقة الجامعات والمدارس والمراكز البحثية والثقافية والفنية، جيل جديد من المدافعين، حقًا، عن القضية بعيدًا عن الأضواء يخوضون حروبًا لا نعلم عنها شيئًا.
وفي مقدمة هذا الجيش الجرار من المتطوعين للقضية، تأتي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال (BDS)، التي تواجه حربًا شديدة الوطأة من الأنظمة العربية ومراكز الضغط الإسرائيلي على حد سواء، لكن الفرق أن أفراد الحركة في الدول الحرة يستطيعون الانتصار وتحقيق التقدم بفضل مساحات الحرية، بينما لا حرية ولا قضاء في دولنا التعيسة نحتمي بها من بأس الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال.
أكثر من سبعين عامًا وفلسطين تدفع من دمها ثمن خيباتنا وأمراضنا، منذ عام 1948، حينما ذهبت الجيوش إلى الحرب مثقلة بمزيج الفشل والفساد والخيانة من أنظمتها الحاكمة، لتعود وهي تجر أذيال الهزيمة، ثم تتتابع الأنظمة وتتتابع الخيبات لعقود، تارة بالمتاجرة بها لقمع وسرقة واحتكار الشعوب، وتارة بالمتاجرة فيها مع المحتل وداعميه أملاً في الدعم الصهيوني لعروشهم وثرواتهم المسروقة منّا. لكننا أثقلناها نحن أيضًا بأمراضنا الساكنة في مجتمعاتنا التي أفسدتها الديكتاتورية والخوف والاستعباد وغياهب السجون والمعتقلات، فتوطن فينا الجهل والاستبداد والطائفية والرجعية والأوهام والأساطير المتخيلة التي سيطرت على عقول تيارات بأكملها، ثم رحنا نبلي فلسطين بكل هذا.
إن فلسطين كقضية عادلة كانت ولا تزال قضية حرية لن ينصرها حقًا إلا الأحرار. أحرار من الديكتاتورية الموزعة علينا في فلسطين وباقي أوطاننا العربية. أحرار من فساد سلطة رام الله التي تعفنت في فقاعة المصالح الشخصية والفساد المالي والقبلي على هيئة حكومة واهنة، أصبح أهم أدوارها هو تنفيذ أوامر الاحتلال وحماية ودعم المحتل وخدمته أمنيًا واستخباراتيًا وسياسيًا للحفاظ على موضع مؤخرة الزعيم وأعوانه وذيوله. أحرار من فقاعة الظلام في غزة، والتي سيطر عليها الظلم والجهل والخرافة داخل جماعات وكيانات لا تعرف للحرية سبيلاً، طال بهم وبفكرهم الأمد وتخطاهم الزمن.
فلنحرر فلسطين من أمراضنا كخطوة أولى نحو الحرية الكاملة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن ننشرها في كل زاوية في العالم، لتعود وتصبح قضية الإنسانية جميعًا، قضية شعوب لا محتكرين. فلربما يخرج من يستطيع أن يترجم ويستغل ذلك الحراك والنضال والأممية لخطوات حقيقية في صالح القضية وليس في المصالح الشخصية.
- لقد رصد الفيلم الوثائقي «اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة» بشكل جيد جدًا المعارك التي يخوضها الطلاب والنشطاء في مواجهة مراكز الدعم الإسرائيلية، وهو الفيلم الذي أنتجته شبكة الجزيرة الإعلامية، ولكن لم يتم عرضه لحسابات ومصالح سياسية دولة قطر مالكة الشبكة. يمكن مشاهدته عبر هذا الرابط: