حينما نضحك على الحرب: من هتلر إلى طفل سوريا تحت القصف
لطالما اتخذت السينما من الحرب هوسًا وشغفًا خاصًّا، سواء كان لأهداف أيديولوجية أو فنية، استخدمت كبروباجاندا وكتوثيق للحدث نفسه وقت وقوعه أو للتعقيب عليه بعد أعوام وعقود من حدوثه لتأمل أسبابه والبحث عن تشابهاته مع الحاضر، لاستخراج الدروس منه واستخدامه كداعٍ للحب والسلام أو التحريض ضد الشر، ربما الحدث الذي يملك النصيب الأكبر من التوثيق والتناول بالرؤى المختلفة هو الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا شخصية هتلر وجرائم النازية ضد اليهود.
قبل أن تهتم السينما بجرائمه اهتم هو بالتسويق لنفسه بقوة السينما كأداة إعلامية وفنية، أثناء حكمه وأثناء المجازر التي ارتكبها صنعت الأفلام عنه، وبعد موته وانتهاء إرثه لا تزال تصنع الأفلام عما بدر منه وحدث في وقته.
عادة ما تكون الأفلام التي تتناول الهولوكوست وجرائم النازية مغرقة في المأساة، مشاهد مروعة للقتل وحرق الجثث حية، انفصال الأطفال عن الأمهات وترويع الآمنين في بيوتهم، يكون النازي هو الشر المطلق واليهودي هو الضحية المطلقة، المعادلات سهلة حسابيًّا، الخير والشر في أوج وضوحهما، لكن هناك بعض الأفلام التي تحيد عن هذا المسار وتختار طريقًا أكثر خفة، بل يمكن وصفها بالكوميدية أو بالساخرة سياسيًّا، تكمن الكوميديا في شقين، السخرية السياسية والتمثيلات الهزلية للديكتاتور، أو التناول الطفولي الذي يسمح للفيلم أن يكون أكثر خفة ويضعه في الجانب الكوميدي بدلًا من التراجيدي، لكن غالبًا ما يحمل ذلك النوع عظة وفكرة جدية في النهاية.
مجرد رجل ذي شارب صغير
هتلر بطبيعته شخصية يسهل تحويلها إلى كاريكاتير، ملامح يحددها شعر وجه ورأس مميزين، صوت مزعج ومرتفع وأسلوب يمكن التقاطه وتذكره بسهولة، متشنج وعصابي، إنه كل ما يمكن أن يكون عليه بارودي لديكتاتور وليس الديكتاتور نفسه، هناك مفارقة تكمن على سبيل المثال في كونه ذا شعر بني وعينين بنيتين في حين أنه متعصب للعرق الآري الذي يتميز في أغلبه بملامح شقراء أوروبية مغايرة له، يجعل ذلك من السهل خلق نماذج ساخرة عنه لا تحتاج إلى الكثير من المجهود.
حينما صنع شارلي شابلين فيلمه الناطق الأول عام 1940 الديكتاتور العظيم the great dictator لعب شخصية هتلر متمثلة في الكابتن «هينكل»، سخر من صوت اللغة الألمانية نفسها بسبب حدتها وغلظتها، ومن شكل شاربه الصغير وحركاته المميزة، كان ذلك في وقت الحرب العالمية الثانية، لم يكن تم كشف جرائم الحزب النازي ضد اليهود والأقليات بشكل كامل؛ لذلك شعر شابلن ببعض الندم في تناوله الخفيف والمبسط لقضية شائكة مثل تلك، وذكر في مذكراته الاقتباس بالأعلى أنه إذا كان يعلم لم يكن ليصنع الفيلم من الأساس.
يعتبر الكثيرون تلك التناولات الكوميدية إهانة لضحايا حدث مأساوي لم ترَ البشرية كقسوته، لكن على الرغم من استخدام شابلن لحركاته المعروفة والكوميديا الجسدية التي جعلت منه أسطورة لتمثيل هتلر وشبيهه اليهودي إلا أنه ينهي فيلمه باستخدام صوته لأول مرة لكي يتلو خطابًا يدعو للتسامح والمساواة ويصبح أحد أشهر الخطابات السينمائية على الإطلاق، بعده بعامين صنع المخرج أرنست لوبيتش فيلم أكون أو لا أكون to be or not to be، عن مجموعة من الممثلين الذين تضطرهم الحرب لاستخدام قدراتهم التجسيدية لخداع قادات نازية لإنقاذ أصدقائهم وبعض العائلات البولندية المهددة بعد اجتياح النازية لبولندا، يعمل الفيلم كسخرية سياسية محكمة وذكية، أحد الممثلين يتقمص شخصية هتلر، يخبره المخرج أنه لا يشبهه كفاية، وأنه مجرد رجل ذي شارب غريب، يرد: أوليس هتلر كذلك؟ تلك هي الفكرة التي اعتمد عليها شابلن أيضًا في لعب الهوية المزدوجة، فهو مجرد رجل ذي شارب غريب، يرتدي القبعة الدائرية السوداء فيصبح الصعلوك، يرتدي القبعة العسكرية فيصبح أشهر طاغية في التاريخ.
لا يهتم فيلم لوبيتش كثيرًا بجانب الضحايا أو التراجيديا الحتمية، هو فيلم مصنوع في أوج وقت الحرب، يسفه تمامًا من العقليات النازية ويصنع منهم مجموعة مهرجين يمكن خداعهم بسهولة، تدور كل تلك المطاردات والألاعيب حول فكرة التمثيل وتقع الأحداث الكبرى داخل مسرح كبير يزوره هتلر لحضور حدث ما، وهو ما يمكن رؤية تأثيره في فيلم كوينتين تارنتينو عام 2010 أوغاد مجهولون inglourious basterds، يقع الحدث الأكبر داخل قاعة سينما، مزينة بأعلام النازية كما في أكون أو لا أكون، وعلى الرغم من عدم وجود شخصية هتلر كلاعب أساسي بين شخصيات الفيلم، فإنه عند ظهوره فهو ذاته بالشارب المميز، عصابي يتحدث بحدة ويطلق البصاق ويبدو أحمق بشكل عام.
في عام 2019 صدر فيلم جوجو رابيت jojo rabbit للمخرج تايكا وايتيتي، الذي يحكي قصة طفل يعتبر النازية ناديًا أو فريقًا موسيقيًّا وهو مهووس به، ويتخذ من أدولف هتلر شخصيًّا صديقًا خياليًّا له، يلعب وايتيتي بنفسه شخصية هتلر الهزلية، بنفس الشارب والزي الرسمي والشعر المصفف الأسود، مع إضافة عينين زرقاوين بشكل اصطناعي ربما للسخرية من فكرة هتلر عن العرق الأسمى، وهو الموضوع الذي يتكرر كثيرًا في الفيلم، فالطفل جوجو نفسه كونه مؤيدًا مستميتًا لأفكار النازية يتمنى لو كان أشقر الشعر لكي يكون من المصطفين، هتلر في جوجو رابيت ربما يكون أكثر نسخة ساخرة ومثيرة للاستهزاء في كل النماذج المذكورة، فهو تصور طفل عن ديكتاتور متوحش، هو شخص جبان ذو صوت عالٍ ولكنة ثقيلة، لا يملك حلولًا لأي شيء، ولا يظهر بشخصه الحقيقي نظرًا لطبيعة الفيلم الكوميدية، واتخاذه من وجهة نظر الطفل منظورًا للأحداث.
يمكن اعتبار هذا النوع من السخرية السياسية، وخاصة من شخصية بقوة هتلر، هو محاولة لدحض تلك القوة، إذا كان بإمكاننا السخرية من شخصية امتلكت في يوم ما هذا القدر من السلطة فإننا بشكل ما نهدم دعائم سيطرته، لكن ثقل وجود ضحايا حقيقيين عاشوا يومًا ولقوا أبشع المصائر بسبب شخصية كاريكاترية مثل تلك يجعل من المشاهدة تجربة مربكة، خصوصًا مع اختيار النهايات والحلول العاطفية السهلة، مثل الديكتاتور العظيم وجوجو رابيت، وفي حالة الثاني فإن تلك الخيارات يبررها تبني وجهة نظر الطفل، وهو ما تكرر في عدة أفلام أخذت من النازية موضوعًا لها.
الحب هو أقوى شيء في العالم
تروى بعض قصص جرائم الحرب، وخاصة جرائم النازيين من وجهة نظر الأطفال، ربما لأن براءتهم سبب كافٍ لإدانة العالم، أو لسهولة تمرير الرسائل من خلالهم مهما كانت ساذجة أو مبسطة، فالأيديولوجية تتراجع أمام أفكار مثل الحب الذي يكسر اللعنات، والصداقة التي تحول العدو إلى حبيب، كما أن شخصية الطفل يسهل تطويعها وتغييرها، فهشاشته تسمح له بتصديق الجانب المتوحش والجانب الضحية المظلوم من الحكاية، يمكن بسهولة غرس قيم الكره داخله، ويمكن إخراجها أيضًا واستبدالها بالحب الذي بإمكانه جعل العالم مكانًا أفضل، كما أن عالم الأطفال خالٍ من الأفكار المسبقة، يمكن أن يكون الألماني ذا العائلة النازية صديقًا لليهودي الذي تهدده نفس العائلة بالفناء، ومن هنا يمكن أن تنشأ الكوميديا بسبب الخلافات أو التراجيديا بسبب الخسارة والفقد المحتوم، فكرة التصادق بين ضدين ليست حكرًا على أفلام الحرب، لكن صراع النازية ضد اليهود يستخدم تلك الحيلة بكثرة لسهولة طرح الثنائيات من خلاله، مثل الجاني والضحية، الحب والكره، الخير والشر.
يوجد عدة أنواع من أفلام الحروب التي تعتمد على الطفل كمحرك الأحداث، النوع القائم على الصفة البريئة وعدم المعرفة مثل الوداع يا أطفال au revoir les enfants للفرنسي (لوي مال) الذي يحكي قصة صداقة بين طفل يهودي وآخر ليس كذلك، لكن دون علم الثاني بخطورة مصادقة ذلك اليهودي، مثله الطفل ذو البيجاما المخططة the boy in the striped pajamas ، أما جوجو رابيت فبطله على دراية تامة باستحالة حدوث صداقة بينه وبين فرد يهودي، لكن الوقت وتبرعم المحبة يدحضان أفكاره.
يجد جوجو رابيت الكوميديا في الأفكار المسبقة الخاطئة التي يعتمدها جوجو بشكل كامل، وكيف أنه من السهل تفتيتها، فيتحول من طفل نازي إلى طفل طبيعي يتبنى رؤية أكثر آدمية، أمه هي السبب في زرعها بشكل كبير، فهي ترى أن الحب هو أقوى شيء في العالم، وهذا بالضبط هو ما سيسقط دفاعاته ويجعله يستسلم لتقبل الآخر.
سبب وضع جوجو رابيت والولد ذي البيجاما المخططة في مقارنة رغم اختلاف طريقة تناولهما بشكل جذري هو حملهما لنفس الأفكار وسهولة اتهامهما بتسطيح المجازر وعدم احترام الضحايا، بل بتخفيف الشر، أو بسبب فرضية أن تساوي الطفلين في الإنسانية تساوي الجاني بالضحية أيضًا، في جوجو للتأكيد على فكرة أن الإنسانية واحدة، وأن الحب يصنع المعجزات، يحدث كل ذلك في خفة طفولية ساحرة وسخرية سياسية تجعل تمرير ذلك أسهل في التقبل وأقل إثارة للنقد، أما في الثاني فالاتجاه تراجيدي بحت، الطفلان متساويان، وصداقتهما تعيد ترتيب دماغ برونو ابن العائلة النازية مثلما أعادت الصداقة ترتيب أفكار جوجو المهووس بهتلر صديقه الخيالي، لكن وضع الصديقين في الفيلم الثاني يحدث لكي يلقن ممثلي النازية درسًا لن ينسوه.
المثير للاهتمام في المثالين هو إمكانية صنع فيلم كوميدي ممتع وفيلم تراجيدي مبتز للمشاعر من نفس العناصر تقريبًا والخروج بنتائج أيديولوجية متشابهة رغم اختلاف النهايات الدرامية، نخرج من الفيلمين محملين بأفكار مثل أن الجميع متساوين لكنهم بحاجة فقط إلى التفهم والحب وأن النازي يتحول إلى شخص أكثر إنسانية؛ لأنه تعرض للحب والاهتمام واكتشف أن الآخر لا يختلف عنه، لكن ذلك يستحيل تمريره أو يصعب على الأقل إذا كان الأبطال صديقين بالغين.
في أحد أشهر أفلام الحرب لتي يمكن تسميتها بالكوميدية، فيلم الحياه حلوة life is beautiful لروبرتو بينيني، لا يستخدم الطفل لخلق أفكار مثل حتمية السلام وتقبل الاختلاف والآخر، بل يستخدم وجوده لإظهار ويلات الحرب بشكل أو بآخر، يصبح وجود الطفل سببًا في تحمل أبيه وأمه للصعاب كمجاز لمفاهيم الأبوة والأمومة وربطها بالحماية والتضحية، وجود طفل يعني أنك لا تملك رفاهية الهلع؛ لأنك بحاجة إلى طمأنته وتسخير حياتك لأجله، وأن تضحك في وجه الحياة حتى وإن صعب تسميتها (بالحلوة)، جويدو يصنع كل ما بوسعه لكيلا يخاف ابنه، يحيك القصص ويحول من معسكر التعذيب ملهًى كبير لابنه ومن الجنود النازيين مشرفين على لعبة كبيرة الكل متورط فيها.
في الحياه حلوة لا يمكن أن نقرر أن الفيلم هو حكاية الطفل أو قصة نضوجه، فهو نضج بعيد عن كل مصدر لمعرفة للحقيقة، طفل اختبر أصعب وقت في طفولته في حماية أبيه الكلية، وعند نهاية الفيلم سنفكر فقط كيف أن حياته ستتغير في اللحظة التي سيعلم فيها تضحية أبيه المتفانية، في أحد الفيديوهات المنتشرة على الإنترنت نرى أبًا يحمل طفله الرضيع في سوريا في وقت إطلاق القنابل والقصف، يعلمه أن يضحك في لحظة سماع الصوت المدوي، فيضحك الطفل غير مبالٍ ومنعدم الإدراك، أول فكرة تأتي للذهن عند مشاهدة المقطع هي تقاطعه مع فيلم الحياه حلوة.
لكن تلك التضحية وذلك الخط القصصي الذي من الطبيعي أن يكون مأساويًّا يتم تناوله ببناء مماثل لأفلام الكوميديا الرومانسية، لكن على خلفية من الموت والإبادة والكراهية، لكن الفيلم يجعلنا نختبر الحرب كما يختبرها الطفل، ويرسخ لشخصية الأب المرحة في ساعة كاملة من الكوميديا الحركية قبل أن يتحول الفيلم لفيلم حرب.
تشترك تلك الأفلام ذات الطابع الحالم والكوميدي الخفيف أحيانًا في نواياها الطيبة، جويدو يريد أن يعيش ابنه طفولة آمنه لا ذكريات مؤلمة فيها، وجوجو تتحول أفكاره العنيفة إلى مشاعر التسامح والامتنان نتيجة لوقوعه في الحب لأول مرة، لكن ربما يثير ذلك التبسيط شعور بفقدان النقطة الأساسية، بل يمكن بسهولة رؤية ما يمكن أن يغضب البعض، مثل تسطيح قضايا أعمق من أن تسمح بتناول طفولي مبسط، أو عدم احترام الضحايا والناجين، لكن الحجة على الجانب الأكثر إيجابية هي السعي لحكي قصص ذات قيم تسامحية أو إظهار حلاوة الحياة في وجه القسوة، أو كيف يمكن أن تنشأ صداقات غير متوقعة عندما نستوعب أن كلينا إنسان وكلينا يملك المشاعر ذاتها، لكن هل يهدم ذلك فكرة وجود الشر، أو أن الشرير يحتاج فقط إلى بعض الحب لكي يصبح أكثر تسامحًا؟
في الحياه حلوة لا يوجد تمثيلات للشرير أو للعقل المدبر في غير الجنود، وتندر رؤية الموت إلا في مشهد واحد مروع لكومة من الجثث المتراصة، لكن صعقة أن تفقد أباك لا يراها الطفل، وبالتالي لا يراها المشاهد، لا نرى المتسبب في هذا الدمار والموت، سواء في هيئة ديكتاتور متحكم، أو في هيئة مشاهد تظهر اتفاقيات إعلان الحرب أو اقتحام البلاد وقتل أعراق معينة، في جوجو رابيت نرى فقط نتيجة الموت، يملك الفيلم مثل الحياة حلوة جوًّا طفوليًّا مبهجًا وربما أكثر ، وفي حين لا يختبر الطفل في الحياه حلوة خسارة والده، يرى جوجو أمه بعد مقتلها ويختبر أكبر درجات الألم، لكنه يتعلم وينمو فقصة جوجو أشبه بقصص النضوج، يبدأ بتصورات معينة، لكنه وعلى مدى الفيلم ومع تعرضه لتجارب بعضها مؤلم مثل خسارة والدته ووالده على الأرجح وبعضها دافئ مثل اختبار الوقوع في الحب لأول مرة.