عند شجرة التوت
في الفراندا، كان يجلس وحيدا على كرسي من الخيزارن اللين كيما يلائم حالته الصحية. دخلتُ، متلصصا، حتى لا أشعره بوجودي. سحبت “شلتة” وجلست عن يمينه بمحاذاة مرفق الكرسي. كان جدي هائما بنظره في الحديقة أمامه، بالذات في شجرة التوت، تلك التي تتوسط الحديقة بجذعها العتيق وأوراقها المتربة بفعل الزمن. كان سارحا إلى بعيد، بعيد جدا، كرُبّان يرمق أفق البحر وهو يقود سفينته المتهالكة إلى يابسة النهاية المجهولة، طاويا خلفه الماضي بشطآنه البعيدة، وذكرياته الأبعد.
لا أعرف فيمَ يفكر عجوز جاوز السبعين، على أقل تقدير، لكن نظرته تلك إلى التوتة جعلتني أطرح أسئلة لا حد لها. شجرة التوت تلك هي أيقونة حديقة جدي؛ تبدأ ذكراها معي بعيدا جدا، يومها كنت أحفر عليها اسمي بمسمار من الصلب بحروف هشة لصبي تعلم الكتابة حديثا. رآني وأنا أخدش لحاءها. لطم يدي بقوة. اغرورقت عياني وتقلصت ملامح وجهي. هرع إليّ بحنو واحتضنني، فتهت في أعماق صدره، كسمكة صغيرة في بطن محيط آمن، لها وحدها.
“يا بني قيمة الإنسان لا تتحدد باسمه، أو عمله، أو مايملك. قيمته الحقيقية فيما يقدمه للإنسان” هكذا عقّب على حادثة كتابة اسمي. أردف “اجتهد أن تترك أثرا خلفك، فهذا هو معنى وجودك، كتلك الشجرة؛ لا يعرف الناس منها سوى حلاوة ثمارها، لكنهم أبعد ما يكون فَهمًا عن كُنه تلك الحلاوة أو سرها”
كأي طفل، في السادسة تقريبا، لم أكن أفهم ما قال، لاحظ ذلك على وجهي فرفعني على كتفيه حتى وصلت ثمار التوت المتألقة تحت وهج ضئيل من شمس العصارى الآخذة في الرحيل. رحت أقطف وأرمي في فمي كيفما اتفق. من يومها، وكلمات جدي مرتبطة عندي بأي ثمرة ذات طعم طيب.
اخترقَت الفراندا نسمة رتيبة، من تلك النسمات الصيفية التي تحمل في طياتها لسعات من حرارة شهر يوليو القائظ. لفحت وجهي فاضطرتني إلى إغلاق عيني. فتحتهما بسرعة لأطمئن على جدي. وجدته لم يتحرك، لم يطرف. ظلّ ساكنا إلى أن هدأَتْ، ثم على مهل، قام حتى وقف على سور الفراندا الفاصل عن الحديقة، ثم فرد يمناه على امتدادها وراح يتحسس جذع شجرة التوت، كان يطمئن عليها خشية أن تؤذيها الحرارة. ببطئ عاد إلى جلسته، كأن شيئا لم يكن. كنت منبهرا. إن أنقى مشاعر الحب هي التي تصدر عن جبار يملك كل شيء أو ضعيف لا يملك أي شيء. جدي الذي لا يقوي على قضاء حاجته بنفسه كابد ضَعفه ليطمئن على الشجرة. كأني به منذ زمن عندما كان يرويها ويقلمها بنفسه، لا أتذكر عمر تلك الشجرة، لكني أذكر جيدا أنني كنت ألعب تحتها مع جدي، نصنع تماثيلَ من الطين على هيئة حيوانات ثم نهدمها، نلعب السيجا، أو نلطخ نفسينا بالطين حتى تتوسخ ملابسنا ووجوهنا. في كل مرة بعد أن ننتهي كنت أثمل ضحكا، ثم أفرد ذراعيّ عن آخرهما وأرتد برأسي، وأنا مغمض العينين، أملأُ أنفي برائحة الفل الممتزج بالريحان، لأسقط في بركة الوحل التي خلفناها، كنت كطائر يفرد جناحيه مستسلما لهواء نقي يملأ رئتيه، ثم ينقلب على ظهره متحررا من أعصاب جسده ليسقط سقوطا حرا في زرقة الماء الأبدي من تحته وهو يرقب بعينيه نقاء السماء اللانهائي فوقه. كانت أمي دوما ما ترتفق سور الفراندا لتتفرج علينا، وعلى الرغم من انزعاجها من وساخة ملابسي؛ إلا أنها دائما ما تتوج وجهها بابتسامة تتلألأ معها ثناياها البيض مع انسجام بديع مع وجهها النحاسي دقيق الملامح. كأنها كانت تعرف أنني سأصبح يوما مراهقا تخنقني جلسات الكبار، بمن فيهم جدي، بدعوى فارق السن غير الملائم، أو أن جدي سينتهي به الزمن إلى تلك الحالة شبه المقعدة، فلن يضاحكني ثانية.
لقد تغيرتُ كثيرا، وتغير جدي، وتغيرت الحديقة، ما الذي ظل ثابتا على حاله! لقد مضت أكثر من ثلاثين عاما. انصلع رأسي واصفرت أسناني وبدأ ظهري في التقوس. جدي هو الذي بدا تأثير الزمن عليه جلي؛ انهار فمه، هزُل جسده، وفج الزمن في وجهه أخاديدَ بدلت معالمه. تلك هي لحظة الضعف الإنساني التي تسبق النهاية، حتى يعود ترابا لا قيمة له، إلا أثره كما قال جدي.
ببطئ وحذر، مددت يدي، حتى استقرت راحتها على ظهر كفّ جدي القريبة مني. لم يتحرك. كانت يده يابسة، والعروق بارزة، والعظم ناتئ، والجلد متميع. أخذتُ أتحسسها مليا، جيئة وذهابا، أتحسس معها الماضي الذي هرب مني لاأدري كيف! والمستقبل الذي سيأتي لا أعرف متى! أصل بهما ما انقطع، أتذكر بهما ضحكات جدي الشابة، ووجه أمي المضيء، وبركة الوحل، وتماثيل الطين، ورائحة الفل، الفل العابق بالريحان. رحت أتوه بها بعيدا فيما وراء الوراء، أبعد من أي محسوس، وأخفي من أي معلوم. نبهني صوت جدي المتحشرج وهو يسألني ببلاهة، بعدما التفت إليّ:
– يابني. ما اسمك؟